خوافون بطبعهم ؟
|
بقلم
عصام زكريا
عبرت المخرجة هالة خليل بأغنية «الخوف» في فيلمها «قص ولزق» الذي عرض العام الماضي عن الحالة التي يعيشها جيل، بل أجيال بكاملها، في مصر، وعن الحالة التي ولدت وعاشت فيها السينما المصرية علي مدار عمرها.
تقول كلمات الأغنية التي كتبها تامر عاشور:
«في عز فرحتنا دايما نلاقي الخوف»
«واقف في سكتنا مشتاق وملهوف»
«كأننا واحشينه... مع إننا عايشينه»
«خوف خلاّنا واحنا مغمضين بنشوف»
«لا عمره خلّي القلب يفرح فرحة بجد»
«ولا عمره خلّي حد يطمن لحد»
أهل السينما خوافون بطبعهم، المنتج المصري يحسب ألف حسبة قبل أن يغامر بأمواله. في هوليوود تصل تكلفة بعض الأفلام إلي مائة أو مائتي مليون دولار.. ميزانية دولة ومع ذلك تشعر أن هناك مغامرات غير محسوبة فبعض هذه الأفلام يفشل فشلاً ذريعًا، الذين يلعبون في «الملاليم» عندنا يخافون أكثر ولذلك لا يصلون أبدًا إلي مستوي الملايين.
الفنان المصري، مثل المنتج، خواف بطبعه، تعددت الأسباب ولكن الخوف واحد، الرقابة، المجتمع، المؤسسات الدينية، وطبعًا أي شخص يمثل السلطة السياسية.
يولد الفنان المصري بجهاز خوف مصمم داخليا يمنعه من اتخاذ أي قرار من شأنه أن يعرضه للخطر أو الغضب.
أعرف سينمائيين ينتابهم الرعب من فكرة أن يتهمهم أحد بالإباحية أو الكفر أو محاولة قلب نظام الحكم، لذلك ليس غريبًا أن يظهر في مصر كشف أثري عظيم اسمه «السينما النظيفة».
السينما النظيفة - أو المعقمة - التي يقصدها أصحابها هي السينما التي تخلو من أي ميكروبات جنسية أو بكتيريا إلحادية أو فيروسات سياسية وهي بالقطع سينما منزوعة الخيال، لأن صناع الأفلام اكتشفوا أن الخيال هو بداية كل ثورة.
قد يعترض القاريء ويتهمني بالمبالغة والافتراء، وسوف يذكر لي اسمًا هنا وفيلمًا هناك، ويقول لي إنه شجاع وجريء، ولن أجادل في أن هناك استثناءات عديدة علي مدار تاريخ السينما المصرية التي نحب أن نقول أن عمرها الآن قد تجاوز المائة... ولكنني أتحدث عن حدود هذه الشجاعة، ومساحة هذه الجرأة.
وأعرف ما سوف يقال هنا: ألا تعلم أن هناك رقابة وقوانين وتقاليد دينية واجتماعية؟
هل تعتقدأنه يمكن صنع أفلام هنا علي شاكلة ما يقدم في أوروبا؟ هل أنت مجنون؟ ألا تعرف عاقبة ذلك؟
وسوف أرد بكلمة واحدة: هذه الأسئلة كلها هي أعراض الخوف المزمن الذي نعاني منه، وهو مرض ولدنا به وسنموت به دون حتي أن نعرف أنه مرض، أوشيء غير طبيعي لا يعاني منه الأصحاء.
مولد الخوف
سوف أترك للمحلليين السياسيين والنفسيين وأساتذة علم الاجتماع والأنثروبولوجي مهمة الكشف عن أسباب هذا الخوف وكيفية نشأته وتطوره، وسأكتفي
هنا بتتبع أعراضه في السينما، والحالات التي تشتد فيها وطأته أو تخف.
يقولون دائما إن طلعت حرب هو «الأب الروحي» للسينما المصرية، فهو الذي أسس «استديو مصر» ـ أول شركة لتصوير الأفلام وتحميضها وطبعها وتوزيعها، وهذا أمر صحيح، لكنه ليس كل الحقيقة.. الذي أسس السينما المصرية أفراد شجعان دفعوا ثمنا غاليا لشجاعتهم.
مأساة محمد بيومي أول رائد للسينما في مصر معروفة ورصدها المخرج محمد كامل القليوبي في فيلمه «وقائع الزمن الضائع».
لم يكتف بيومي بصنع الأفلام، وهو أول مخرج مصري يصنع فيلما عام 1924 ولكنه اشتري معدات وآلات كانت النواة التي أسس عليها طلعت حرب «استديو مصر» وتحول بيومي إلي مجرد موظف غير مرغوب فيه في «الاستديو» وسرعان ما تم التخلص منه بعد قليل.
كانت عزيزة أمير هي صاحبة أول فيلم روائي طويل بالمقاييس المتعارف عليها وهو «ليلي» عام 1927 وكان «استديو مصر» لا يرغب في صنع الأفلام الروائية، ويكتفي بصنع بعض الأفلام التسجيلية الدعائية اعتقادا من أصحابه أن مصر لاتزال بلدا صغيرا لا يستطيع أن يصنع فيلما ينافس الأفلام الأمريكية والأوروبية، ولكن عزيزة أمير صنعت هذا الفيلم، وراح «استديو مصر» وعشرات من المنتجين الآخرين بعدها يصنعون الأفلام.. وهي غامرت ودفعت ثمن مغامرتها أيضا.
مغامرة عزيزة أمير كانت إنتاجية فقط، ولكن المغامرة التي عوقبت بشدة هي ما فعلته بهيجة حافظ، عندما قامت بإنتاج وإخراج وبطولة فيلم «ليلي بنت الصحراء» عام 1937 فقد دخلت بهيجة إلي الممنوع دون أن تدري عندما تعرضت لقصة تاريخية قديمة تدور علي خلفية الصراع بين العرب والفرس.. وبالمصادفة كان ملك مصر فاروق علي وشك الزواج من الأميرة الإيرانية ناريمان، وفجأة أصبح للفيلم دلالات لا يقصدها، وأهداف لم تخطر ببال صانعيه، وصدر قرار بمنع عرضه تماما.. وكان هذا أول درس لصناع الأفلام في مصر بعدم التعرض للتاريخ ولا السياسة لا من قريب ولا من بعيد.
الدرس الثاني والأكبر جاء بعد ذلك بعامين مع فيلم «لاشين» الذي أخرجه فريتز كرامب عام 1938، والذي أنتجه «استوديو مصر» نفسه، فقد تعرض الفيلم الذي يتناول قصة حاكم ضعيف فاسد للبطش الشديد وتم منع عرضه تماما بسبب تشابه قصته مع الأوضاع السياسية في مصر في ذلك الوقت.
بعد لاشين بشهور اضطر أحمد بدر خان إلي تغيير نهاية فيلمه «شيء من لا شيء» الذي يدور حول أميرة ترفض حب السلطان وتفضل عليه محاربا أسيرا، وأتي مشهد النهاية ليقول إن كل الأحداث كانت مجرد حلم في عقل السلطان، و«تكنيك» الحلم هذا أصبح إحدي الوسائل النمطية لتقديم أي فكرة جريئة، فيكفي أن تحول الأحداث إلي حلم في النهاية حتي يقتنع الناس والرقابة بأنك لا تنوي حقا أن يحدث ذلك في الواقع.. والحمد لله أنه مسموح لك بالحلم!
عموما هذه الفترة من الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن الماضي كانت تتميز بطابعها شبه الليبرالي المتسامح وقد استغل بعض صناع الأفلام هذا المناخ لتقديم بعض الأفلام الجادة.. في حدود ضيقة طبعا، أما الأغلبية الساحقة من الأفلام فظلت حبيسة الموضوعات العاطفية الميلودرامية والكوميديا الخفيفة دون الدخول فعلا في المشاكل الاجتماعية والسياسية للبلد.
وعندما فكر المخرج والمؤلف اليساري كامل التلمساني في عمل ذلك بفيلمه «السوق السوداء» عام 1945 تعرض الفيلم أيضا للمنع والمصادرة.. ومشكلة «السوق السوداء» ليس فقط أنه يتناول الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تسببت فيها الحرب العالمية الثانية علي مصر،، لكنه ينتهي بثورة يهاجم فيها الشعب مخازن التاجر المستغل، وهذا الشعب يتحرك بتحريض من البطل الثوري.
حسنا.. سنعود إلي النقطة التي بدأت منها.. سيقول البعض ها أنت تري ماحدث للأفلام الجادة أو حتي التي دخلت في تصادم مع السلطة بالمصادفة.. وسوف يؤكد أنه لم يكن من الممكن تقديم أفلام جادة..ولكن التصادم مع السلطة والرقابة أمر متوقع وطبيعي، والتغيير لا يأتي إلا من خلال هذا التصادم.. المعركة لا تأتي في صنع الفيلم.. ولكن تأتي عقب صنعه وعرضه.. ويتجلي خوف المثقف والفنان المصري في هذه المرحلة بالتحديد.
لقد كانت الحركة الثقافية نشطة وكبيرة في الثلاثينيات والأربعينيات، لكنها افتقدت الأهداف والمبادئ الواضحة والتضامن الذي يحمي الأفراد في مواجهة السلطة.
لم ينظم المثقفون مظاهرة أو احتجاجًا علي ما حدث مع طه حسين أو بهيجة حافظ أو فريتز كرامب أو كامل التلمساني، ولو فعلوا ذلك وخاضوا معركتهم للنهاية لتغير تاريخ الثقافة والسينما في مصر إلي الأبد.
المشكلة أن صناع الأفلام خنعوا وخضعوا للسلطة ومؤسساتها..وترسخت قناعة لديهم، ولدي الناس، بأن هناك حدودا لا يمكن فعلا تجاوزها..إلا بموافقة السلطة
البطل الخائف
جاءت ثورة يوليو لتغير الأشياء قليلاً.. من الخارج كسرت بعض الحدود وعلي رأسها إمكانية انتقاد الحكم الملكي والنظام الإقطاعي والرأسمالي المستغل.. ولكن مبادئ المنع والخوف بقيت كما هي، بل زادت وتضخمت تحت ظلال الحكم العسكري.
وتحت ظلال هذا الخوف ولدت عبقرية نجيب محفوظ ويوسف شاهين، اللذين استطاعا قول كل ما يرغبان في قوله بطرق ناعمة ملتفة.. وعلي يد الاثنين ولدت شخصية جديدة في الأدب والسينما المصرية هي شخصية المثقف الحائر الخائف المتردد.
في البداية قدم الاثنان هذه الشخصية كشاب معاق عاطفياً ومحروم جنسياً، أو مجرم شريف خارج علي المجتمع كما نجد في «اللص والكلاب» و«السراب» لمحفوظ و«باب الحديد» لشاهين، ثم تحولت الشخصية إلي مثقف متردد بين النظام والتمرد عليه في أعمال كثيرة لمحفوظ وفي «فجر يوم جديد» لشاهين، جذور هذه الشخصية نجدها في «كمال عبدالجواد» بطل ثلاثية محفوظ، والتي أداها نور الشريف في الثلاثية التي أخرجها حسن الإمام.
نور الشريف الذي تحول إلي نجم الشباك الأول بعد ذلك قدم هذه الشخصية في أفلام كثيرة لاحقة يمكن أن نجد تجسدها الأمثل في «الكرنك» التي كتبت وتحولت إلي فيلم بعد موت عبدالناصر.
ولم ينافس نور الشريف علي نجومية أفلام السبعينيات سوي محمود ياسين الذي جسد هذه الشخصية أيضا في أفلام كثيرة، وهو بدأ حياته كممثل علي المسرح بلعب هذه الشخصية في مسرحية صلاح عبدالصبور «ليلي والمجنون».. بعد نكسة 1967 اكتسبت هذه الشخصية وجوداً ومساحة كبيرين في الروايات والأفلام.. وأصبحت تقريباً الشخصية الرئيسية في معظم روايات أدباء الستينيات وفي أفلام مخرجي ما عرف باسم «السينما الجديدة» وتحفة شادي عبدالسلام «المومياء» وأصبحت الشخصية الأساسية في المرحلة الجديدة من أعمال يوسف شاهين التي بدأت بـ «الاختيار» ثم «العصفور» وصولاً إلي «عودة الابن الضال».. ولدت هذه الشخصية من الخوف الهائل الذي انتاب المصريين عقب هزيمة يونيو.. والذي تجسد في أفلام كثيرة تعبر عنه بل وتحمل اسمه أحياناً، ولأول مرة تتردد كلمة الخوف في عناوين الأفلام في «شيء من الخوف» لحسين كمال عام 1969، «الرعب» لمحمود فريد عام 1969، «لحظات الخوف» لحسن رضا عام 1972، «الخوف» لسعيد مرزوق عام 1972، و«رجال لا يخافون الموت» لنادر جلال بداية عام 1973.
جيل الخوف هذا هو الذي صنع سينما «الواقعية الجديدة» بعد ذلك في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وهي سينما تجاوزت إلي حد ما التقاليد الفنية والرقابية البالية للسينما المصرية.. ولكن هذا التجاوز كان مرتبطاً أيضا بموت الرئيس السادات ومجيء رئيس جديد إلي الحكم، بدأ ولايته بانفراجة ديمقراطية واستطاع مخرجون مثل عاطف الطيب وخيري بشارة، ومحمد خان أن يعبروا عن قضايا اجتماعية كان مسكوتا عنها في السينما قبل ذلك، رغم أنهم فعلوا ذلك بنوع من «واقعية السلوفان» الرومانسية.. وكان أكثر الموضوعات التي اخترقوا فيها الخطوط الرقابية هي مساوئ الانفتاح الاقتصادي وضياع ثمار انتصار حرب أكتوبر.
ولكن أفلام الواقعية الجديدة لم تستطع أن تخطو لأبعد من ذلك وسرعان ما عادت السينما المصرية إلي حالة الحذر والمحافظة مع حرب العراق في نهاية 1990، وانتشار الإرهاب والتيارات السلفية، راحت الهوة بين الحرية والرقابة تتسع.. وكما انهارت الطبقة الوسطي انهارت الحلول الوسطي وتحولت الثقافة إما إلي انفتاح متطرف أو انغلاق متطرف .. وارتفعت حدة الصراع بين التيار الليبرالي والتيارات الرجعية.. وقد ألقي ذلك بظلاله علي السينما، فمن ناحية راح معظم المنتجين ينافقون التيارات الدينية والشعبية بمصطلحات السينما النظيفة وغيرها.. ومن ناحية أخري ظهر سينمائيون شبان مثل يسري نصر الله وأسامة فوزي ومجدي أحمد علي والراحل رضوان الكاشف وخالد يوسف وعاطف حتاتة راحوا يتحدون الأعراف الأخلاقية والسياسية السائدة بمزيد من الشجاعة والمغامرة.
قهر الخوف
النقلة الكبيرة، في موضوعات وصور السينما المصرية يمكن أن نجدها مع بداية القرن الجديد الذي افتتح بأفلام مثل: «جنة الشياطين» لأسامة فوزي و«أسرار البنات» لمجدي أحمد علي و«مواطن ومخبر وحرامي» لداود عبد السيد الذي يرصد رحلة المثقف الخائف علي مدار ربع القرن الأخير وصولا إلي تحالفه المؤسف مع الفساد والسلطة، والذي كان قد اطلق علي فيلمه الأسبق « أرض الخوف».
في السنوات الأخيرة، ومع انتشار حرية التعبير عبر الإنترنت والأقمار الصناعية لم يعد من الممكن للسينما المصرية أن تظل علي ما هي عليه.. المعارضة التي اشتدت لنظام الحكم في مصر بدأت تظهر آثارها في السينما، كما نجد في «عمارة يعقوبيان» لمروان حامد، وكما نجد في أفلام هذا العام مثل «هي فوضي» ليوسف شاهين و«حين ميسرة» لخالد يوسف الذي يحطم الكثير من الخطوط الحمراء السياسية والجنسية في أفلامه، حتي لو كان يفعل ذلك بفجاجة تليق بفجاجة كثير من الأصوات المعارضة في مصر الآن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق