الخميس، أكتوبر 31، 2019

" لما بنتولد" .. تولد فينا الرغبة في الحرية والإستقلال بقلم مجدي الطيب في زاوية " مختارات سينما إيزيس "



مختارات سينما إبريس

لقطة من فيلم " لما بنتولد " لتامر عزت

«لما بنتولد» .. تولد فينا الرغبة في الحرية والاستقلال !

بقلم

مجدي الطيب


• تشجيع الجمهور للفيلم سيدفع كثيرين للتمرد والإنضمام إليه في «انقلابه السلمي» و«ثورته البيضاء» على مافيا الإنتاج والتوزيع في السينما المصرية .

منذ أيام استقبلت صالات العرض السينمائي في مصر، فيلم «لما بنتولد»، الذي عُرض للمرة الأولى في برنامج الاختيار الرسمي (خارج المسابقة) لمهرجان «الجونة السينمائي» (19 – 27 سبتمبر 2019)، وقوبل باستحسان، وتجاوب، كبيرين؛ لجدة تناوله، وجدية رؤيته، واقترابه من هموم جيل الشباب، والتحديات التي تواجههم، وتُجهض أحلامهم، بعذوبة لا تخلو من شجن، وإنسانية مفرطة لا تعرف الخطابة أو المباشرة.
أول ما يلفت النظر في فيلم «لما بنتولد»، الذي كتبته نادين شمس، التي رحلت عن عالمنا عام 2014 ، هي روح التمرد، والثورة، التي تغلب عليه، والمعالجة المبتكرة، لمخرجه تامر عزت، وتوظيفه الأخاذ للموسيقى والغناء، بالشكل الذي جعل الفيلم ينحاز لجيل الشباب، ويُخاطبهم، بحميمية ملحوظة، وتعاطف صادق، وبصورة مُبهجة، رغم كم الإحباطات التي تواجههم، والمرارة التي يعانوا منها، فيما يؤكد، بجلاء، على أهمية التفاؤل بتغيير الواقع، والتشبث بالأمل في غد أفضل، طالما تمسك أبناء هذا الجيل بأحلامهم المشروعة، وامتلكوا قرارهم المستقل الذي يُحدد مصائرهم المستقبلية بحرية، ومن دون الانصياع للظروف الاجتماعية والاقتصادية والدينية التي تكبل حريتهم، وتقيد حركتهم، أو الاستسلام لإرادة الأجيال السابقة عليهم، وأشكال الوصاية التي تحاصرهم .
واقع صعب
يتبنى فيلم «لما بنتولد» رسالته هذه، عبر ثلاث شخصيات تنتمي إلى طبقات إجتماعية متباينة؛ أولها الشاب «أمين» (عمرو عابد)، الذي يكافح، هو وزوجته «عايدة» (ابتهال الصريطي)، لمواجهة متطلبات الحياة اليومية، ورعاية والدته، وشقيقه المستهتر، وجده المريض بالألزهايمر، الذين يعيشون معه في نفس الشقة، وثانيها الشاب «أحمد» (المطرب أمير عيد عضو فرقة «كايروكي»)، نجل «البلتاجي» (سامح الصريطي)، رجل الأعمال، الذي يمني نفسه بأن يرث إبنه شركته، وماله، لكن الفتى يهوى الموسيقى، والغناء، ويسعى لتحقيق ذاته في هذا المجال، بدعم مخلص من صديقته «يارا» (بسنت شوقي)، فيما تفتقد الشخصية الثالثة «فرح» (سلمى حسن)، الحب والحبيب، ولما تجده في طريقها، ممثلاً في المهندس السابق «أسامة» (محمد حاتم)، تفاجأ بأنها في ورطة، كونه مسلم الديانة، وهي مسيحية، وعليها الاختيار بين حبيبها، وبين أمها (حنان سليمان)، ومن خلفها الأهل والأقارب وأبناء الديانة، ومن ثم يصل الثلاثة إلى مفترق طرق، يُصبح عليهم، بعدها، أن يحددوا اختياراتهم، ومواجهة الظروف، والتحديات، والمجتمع بأكمله من حولهم.
يكشف المخرج تامر عزت عن قدرة رائعة في الخلق، والإبتكار، والتوظيف الواعي للموسيقى والغناء، عندما يجعل المطرب «أحمد»، يبدو في مستهل الأحداث، وكأنه الراوي، والمعلق على المواقف والشخصيات، من دون أن يُفصح عن شخصيته الدرامية، أو يبرر وجوده في الأحداث، وقبل أن يصل المتلقي إلى نقطة الملل، أو يشعر بالضجر، من ظهوره المتكرر من دون مبرر منطقي، يُقدمه كبطل ثالث، محوري، يعاني سطوة الأب، الذي يُعطل حلمه، ويختار له مستقبله، وهنا تتقاطع مصائر الشخصيات الثلاثة، التي يربط بينها الحب المُجهض (فرح وأسامة)، وغير المكتمل (أمين وعايدة) والمؤجل (أحمد ويارا)، وتدخل في صدام مع الظروف، والواقع؛ فالشاب «أمين» يتصور أن الخلاص من مشكلاته العائلية، والإلحاح الدائم من زوجته في ضرورة الاستقرار بشقة مستقلة، بعيداً عن أهله، في قبول العرض المُغري، الذي تقدمه له «ناريمان» (دانا حمدان)، زبونته في صالة «الجيم»، التي يعمل بها، ليبيع جسده لرفيقاتها من المطلقات، والعوانس، والأرامل، مقابل مبلغ سخي، و«أحمد» تمزقه الحيرة بين السفر للخارج، والتعاقد مع منتج موسيقي كبير، ووالده، الذي يشكوه لزوجته الراحلة، في مشهد من أجمل مشاهد السينما العربية؛ إذ يزور قبرها، ويترك لها رسالة بما حدث من ابنهما، منتظراً إجابتها، ورأيها . أما «فرح» فتقع في حيرة بين الرضوخ لرغبة حبيبها «أسامة»، في السفر للخارج، والاستقرار هناك، للتخلص من مشكلة اختلاف الديانة، وبين أمها التي أحسنت تربيتها، ورعايتها، بعد وفاة الأب، والجدل الذي يمكن أن يثيره سفرها، والزواج من مسلم !

اللغة البصرية
بالإضافة إلى السرد الأخاذ (مونتاج ميشيل يوسف)، يبرع المخرج تامر عزت في تقديم لغة بصرية جميلة، يترجم من خلالها، بالاستعانة بمدير التصوير راضي استمنكوفيتش، قضيته، بجرأة، وطموح جامح لأبطاله، مثلما فعل في رصد الترحال الدائم للشاب «أسامة»، وهو الذي حلم بأن يكون «سمكة»، ومشهد «فرح» في المطار، وهي مترددة، قبل أن تستسلم لرغبة أمها، وهي التي طالما حلمت بأن «تطير»، وطوال الوقت تأخذك الفواصل الموسيقية، والأغنيات (موسيقى وتوزيع شريف الهواري)، بروحها، رهافتها، ورقتها، وتحريضها، والأهم توقيتاتها، التي جعلت منها تعليقاً، بل تلخيصاً، لمعان، ورسائل، المشاهد الدرامية، والمواقف الإنسانية، ووصفاً دقيقاً الحالة الشعورية للشخصيات الدرامية، التي يصرخ ضميرها من أوجاع الواقع، ويحدوها الأمل في إزالة الحدود بين البشر، ولا تتوقف عن الحلم بالتغيير، لكنها تخشى أن يكبر الحلم، ويتعدى الطموح الحد المتاح فيكسرها، ومن ثم ترفع راية الاستسلام، والإذعان، رغماً عن أنفها، لكي تعيش، و تبدأ من جديد !
تسعة أعوام، تفصل بين فيلم «الطريق الدائري»، الذي أنجزه المخرج تامر عزت عام 2010، وفيلم «لما بنتولد»، الذي شارك في إنتاجه مع صديقه معتز عبد الوهاب، مؤسس شركة "Team One" للإنتاج الفني، تطور فيها أسلوبه، ونضجت رؤيته، وقطع شوطاً كبيراً في امتلاك لغته، وأدواته، وسيطرته على ممثليه، الذين كان أغلبهم، في فيلمه الجديد، من الوجوه الشابة، باستثناء عمرو عابد والفنان القدير سامح الصريطي، مثلما أظهر وعياً كبيراً في اختياره للمطرب الشاب أمير عيد، كونه لسان حال جيل عريض من الشباب الذي لا تعرفه السينما، فكان عند حسن الظن، في أول ظهور أمام الكاميرا، بحضوره اللافت، والكاريزما التي امتلكها، كما وضح أن الفيلم بمثابة خطوة أخرى، من جانب المخرج، في سبيل تكريس مشروعه، الذي بدأه في فيلمه الوثائقي «مكان أسمه الوطن» (2005)؛ إذ يواصل تامر عزت الحديث، بجرأة، عن قضايا : هجرة الشباب، وطموحه المشروع من أجل تحقيق الذات، والحب بين أصحاب الديانات المختلفة، وهي القضايا التي تؤرقه، ونجح في التعبير عنها، مجتمعة، بشكل أكثر نضوجاً، في فيلم «لما بنتولد»، الذي يكفيه تمرده على السينما السائدة، وخروجه عن الأطر التقليدية للإنتاج، وينتظر، في المقابل، أن يشجع الجمهور روح المغامرة لديه، ليُصبح حافزاً لكثيرين غيره لمواصلة التمرد، والإنضمام إليه في «انقلابه السلمي»، و«ثورته البيضاء»، على مافيا الإنتاج والتوزيع في السينما المصرية .
عن جريدة القاهرة بتاريخ 29 اكتوبر 2019

ليست هناك تعليقات: