الأربعاء، مايو 06، 2015

فيلم " ثورة الزنج " لطارق تويقة : حتى لو كان كل ماتبقى من الذاكرة حفنة تراب بقلم صلاح هاشم .



صلاح هاشم يكتب من باريس لجريدة " القاهرة "
 عن فيلم " ثورة الزنج " للمخرج الجزائري طارق تويقة 


 فيلم " ثورة الزنج " لطارق تويقة : حتى لو كان كل ماتبقي من الذاكرة حفنة تراب !


أفضل مافي " ثورة الزنج " أنه يؤسس لـ " مناخات " في  مبحث الهوية، ويوثق  مابين الشعر والسياسة والفلسفة، ويكفيه فخرا  في رأينا أنه يفتح عيوننا فقط على جمال العالم ..
بقلم
صلاح هاشم





باريس.صلاح هاشم



من ابرز الافلام العربية التي خرجت للعرض حديثا في باريس، فيلم " ثورة الزنج " للمخرج الجزائري طارق تويقة ،وهو فيلمه الروائي الثالث، وكان مركز جورج بومبيدو " بوبورغ " أقام تظاهرة تكريمية لتويقة للتعريف بفنه وأفلامه ، وعرض مجموعة منها بعد أن ظافت مع مخرجها العديد من المهرجانات السينمائية المرموقة، وحصل بعضها عى أرفع الجوائز، مثل حصول فيلمه " ثورة الزنج " على الجائزة الكبرى، في مهرجان بلفور السينمائي في فرنسا..




لكن ماذا في فيلم " ثورة الزنج " يستحق الإشارة والإشادة ،وبستوقف الجمهور الغربي ويجعله مشدودا الى ذلك المخرج الجزائري الذي درس الفلسفة والفن التشكيلي في فرنسا  وعمل كمصور فوتوغرافي،  واقيمت له العديد من المعارض ؟.هل لأن أفلامه كما يري البعض بطيئة ومملة ،وتستعصي على الفهم، أما لأن السينما التي تعنينا من خلال أفلامه،  تطرح دوما تساؤلات فلسفية ،ليس فقط على " الواقع الجديد " الذي تصوره، بل أيضا على الإسلوب الفني الذي يجب أن  تنتهجه – وهو سؤال الفن- لكي تقبض على ذلك الواقع ، وتقدمه لنا، في أفضل شكل؟





                   بن بطوطة من عصرنا يحكي عن " زنج الحاضر "



يحكي فيلم " ثورة الزنج " اذا أردنا أن نلخص الفيلم في كلمتين، عن صحفي جزائري يدعى " بن بطوطة " وإسمه هكذا يذكرنا في التو، بأننا سنكون بطبيعة الحال  مقبلين على رحلة في صحبته ،وهي رحلة بالفعل التي نقطعها في الفيلم مع بن بطوطة من عند الجنوب الجزائري الذي يهبط إليه بصفته المهنية لإجراء تحقيق عن انتفاضة ويسمع بن بطوطة آنذاك على لسلن الجزائريين المتمردين عن " ثورة الزنج " فيقرر أن يبحث في حقيقة  تلك  الـ" ثورة الزنج " التي قامت في  مدينة البصرة في جنوب العراق في القرن التاسع الميلادي واستمرت أكثر من 14 عاما وأنهكت دولة الخلافة العباسية وقضت عليها، وكانت الثورة تضم  العديد من الطوائف والقبائل وليس الزنج أو السود وحدهم التي سميت الثورة بإسمهم ،لأنهم كانوا يعانون من فسوة العمل وضنك العيش ويعاملون كالأرقاء العبيد، وكانوا كلفوا بردم المستقعات في مدينة البصرة وتجفيفها، ويروح يبحث بن بطوطة في الفيلم عما خلفته تلك الثورة في تاريخنا وذاكرتنا ، يروح يبحث كما تقول له صديقته الفلسطينية التي التقي بها في معسكر صبرا وشاتيلا في لبنان عن "أشباح" في عالم صار في خبر كان ، لأن آفة حارتنا  - كما يقول الروائي الكبير نجيب محفوظ  - النسيان ، بعد أن دارت عجلة التاريخ والزمن..

 وداست عليهم وأكلتهم، وصار أصحاب ثورة الزنج موضوعا للجدل والشك حتي في وجودهم ذاته بين المؤرخين، ولم يتبقى من تلك الثورة غير بعض قطع  من النقود المعدنية التي سكت في ذلك الزمن، وبضع قطع حجارة أثرية يقوم بعض العراقيين بنهريبها ويعرضونها للبيع لبعض أصحاب محال الانتيكة والكتب القديمة في بيروت ..



                     السينما أهم من  عقدة القصة في الفيلم





لاتوجد في فيلم " ثورة الزنج " حكاية أو قصة بالمعنى المتعارف عليه، يوجد في الواقع أهم من ذلك. توجد " دراما " و " سينما " وهما الاثنان أهم من عقدة القصة في الفيلم الذي يحكي في الواقع عن " رحلة " وتجعله ينضم الى أفلام الرود موفيROAD MOVIE  أو " أفلام الرحلات " وخلال هذه الرحلة يتوقف بطوطة الصحفي الجزائري بالطبع عند بعض المحطات الأساسية في تلك " الأوديسة " التي تنطلق بنا من الجنوب الجزائري مرورا بسالونيكي في اليونان وبيروت في لبنان والشوارع الخلفية  وحتى الوقوف في نهاية الرحلة عن مدينة " المختارة "  عاصمة ثورة الزنج في جنوب العراق ،و هي ذات الرحلة بالطبع التي قطعها عوليس في  " أوديسة " الشاعر اليوناني العظيم هوميروس عندما انتهت حرب طروادة وأراد أن يعود الى بينلوبي زوجته الحبيبة ومدينته إيثاكا ويخلص مدينته من حكامها الاشرار.لاتوجد في فيلم " ثورة الزنج " قصة بل توجد رحلة تصور " دراما " . دراما أو مأساة الواقع  "الكارثي" الذي صرنا نعيشه في مجتمعات القهر والقمع والاستبداد بعد أن إنهارت ألأسوار والحدود وصار الشقاء الإنساني الواحد هو ما يجمعنا..

يطوف بن بطوطة في رحلته ليحكي عن \الانتفاضات والثورات المعاصرة في سالونيكي، ويحكي في تطوافه عن " زنج الحاضر" المعاصر، وحال الناس المفهورين والبشر. مع الهم والأرق والشقاء والفرح وهراوات  السلطة التي تتتعقبهم وتطاردهم، ويقول لنا وهو يصور هؤلاء الثوار وهم يرسمون  ويكتبون شعاراتهم على الجدران ، يقول لنا مع الشاعر الالماني العظيم برتولت بريخت أنه حتى في وقت الثورات والانتفاضات سوف يكون هناك أيضا غناء، فالطلبة اليوناننيين الملثمين في الفيلم لاتمنعهم المشاركة في المظاهرات من الاحتفال ببهجة الحياة والرقص والغناء  في حفلاتهم ..

يؤسس طارق بن تقية في فيلمه للوحة تشكيلية أشبه ماتكون بموزاييك ومنذ أول لقطة في الفيلم ويبتكر شكلا جديدا – كما فعل المخرج والمفكر السينمائي الفرنسي الكبير جان لوك جودار في فيلمه الأخير البديع "وداعا للغة " ADIEU AU LANGAGEوفي " ثورة الزنج " ملمحا من ملامحه - لكي يطرح من خلال ذلك الشكل واقعا جدبدا، ويؤسس  بذلك لسينما مغايرة . سينما تتدعو الى التأمل، وتحفز على التفكير، ويشيد  أيضا بفيلمه " مناخات " نفسانية وفلسفية – كما في مشهد في بيروت بالابيض والاسود بين بن بطوطة الجزائري و" نهلة " الفلسطينية وهو مشهد حميمي جدا ،وفيه يقومان بقراءة تعريف للفوضوية في كتاب – الفوضوية كفعل ثوري- وهذه " المناخات " CLIMATS هي أهم  عندي من عقدة القصة ويطلب طارق تويقة في فيلمه أن نحسها ونستشعرها ونتعايش معها فقط ..



                         ثورة الزنج يصالح بين الشعر والسياسة



 لايريد  تويقة هنا أن يطرح خطابا فكريا بفيلمه – رغم أن الفيلم ملييء بالثوريين المنظرين الذين لايملون من الجدل والنقاش وبخاصة في بيروت ،فليس الوعظ من وظيفة الفن..بل يريد فقط ان نتأمل ونتعايش مع تلك المناخات التي يرسمها لنا في لوحات بديعة في الفيلم، ويمنح نفسه حرية تلوينها والاشتغال عليها ، كما تلك اللوحة البديعة التي نخرج من الفيلم وهي مازالت تسكننا، اللوحات البديعة الخلابة للسماء عند الغروب، وبحر بيروت وأسطخ المنازل في صبرا وشاتيلا ولتموجات المياه في تلك الرحلة النهرية في مستقعات " المختارة " عند " شط العرب " ،حين يصل بن بطوطة الصحفي الجزائري الى مدينة البصرة ،ومنها الى مدينة " المختارة " عاصمة ثورة الزنج، ويكون بذلك قد وصل الى نهاية رحلته، ولايهم في تلك الرحلة الوصول الى النهاية، بل المهم هو الرحلة كلها ، المهم " جماع الرحلة " وشموليتها ،وبكل مافيها من تفاصيل ومناظر ومشاهد ودلالات. والمهم في الرحلة أن يكون السؤال وفي أي بقعة من عالمنا ،وليس فقط في  الجزائر أو بيروت أو العراق، أن يكون السؤال سؤال الحاضر وأين نحن الآن والى أين نحن ذاهبون ؟ كي نتعرف على هويتنا من خلال دروس الماضي، والتفتيش والتنقيب في ذاكرتنا، قبل أن نرسم خريطة جديدة للنضال والمستقبل. المهم هو أن نعيد الاعتبار كما فعل طارق تويقة في فيلمه لكل هؤلاء الذين  ينتمون الى " أشباح " الماضي ، والتفتيش والتنقيبب في الحقيقة، والبحث عما تبقي في ذاكرتنا ،حتى لو كان كل ماتبقى.. مجرد حفنة تراب..

يؤسس تويقة بفيلمه لسينما مغايرة لجيل جديد مغايرمن شباب السينما العربية الجديدة. هوجيل مهموم بتساؤلا ت الحاضر في علاقتها بالواقع الجديد الذي يعيشه ومن طبيعة الحال أن تكون فكرة هذا الجيل الجديد عن ثورة التحرير مختلفة عن فكرة الجيل الذي عاش الثورة ومن الطبيعي أيضا أن تكون أحلامه وطموحاته مختلفة وهو يبحث عن " شكل " جديد للمضامين والقضايا والتساؤلات التي تسكنه وتشغله و تهمه، ولذلك نتعاطف مع بن بطوطة في الفيلم، ونحن ندور معه من بلد الى بلد  - يبدأ الفيلم باليونان وينتهي وينتهي بالمظاهرات التي خرجت تطالب بإسقاط الحكومة والنظام وفرض سياسات التقشف بالقوة،وهو يرسم لنا صورة مغايرة  ومدهشة لكل تلك المدن التي زرناها  في فيلمه ،ويرسم طبوغرافيا جديدة للمكان.لايفاضل طارق تويقة في فيلمه "ثورة الزنج "بين شكل الفيلم ومحتواه ،بل يجدل فيلمه من رباط واحد لاينفصم بين الاثنين، فيصبح محتوى الفيلم ومضمونه في شكله وإيقاعه وشموليته الفنية..

لاتكمن أهمية فيلم " ثورة الزنج " في القصة التي يحكيها لنا الفيلم، وليس هناك في فيلم" ثورة الزنج " قصة بالمعني المتعارف عليه..بل تكمن أهميته في " الشكل " الذي يبسطه لنا على الشاشة،ونوعية "القماشة " الموزاييك – سلسلة اللوحات والمشاهد الرائعة في الفيلم - التي صيغ منها..وكذلك "إشتغالات" المخرج الجزائري الشاب طارق تويقة الفنية الجمالية والفكرية الفلسفية الملهمة في فيلمه.حيث أن تلك الاشتغالات أيضا هى التي تمنح فيلم " ثورة الزنج " الفيلم الثالث لمخرجه تفرده وتميزه عن استحقاق وجدارة، وتجعله من أفضل الأفلام العربية التي شاهدتها وأعجبت بها حديثا،.

وهذا مايفعله تويقة في فيلمه، إذ ينطلق من أرض الجزائر، ويفتتح فيلمه بمشهد لبطل الفيلم الصحفي الجزائري الذي يدعى إبن بطوطة وهو يتقدم بطيئا جدا مثل قادم من بعيد من أعماق صحراء الجزائرو أعماق الزمن، وعلى إيقاع موسيقي ودق الطبول الافريقية، ويجعله يدخل مثل نصل سكين قاطع حاد، في لحم الفيلم..


                              فيلم يفتح عيوننا على جمال العالم 

               

لا يعني طارق تويقة في فيلمه – الذي قد يجده البعض مملا بمقارنته بالافلام الاستهلاكية التجارية التي تعودنا عليها في عصر الأكل السريع والنوم السريع والركض السريع  الخارجة من مصنع " الأحلام " في هوليوود -  لايعني بتصوير " الواقع " الجزائري الذي تعودنا عليه الذي تروج له الاذاعات والشاشات الجزائرية الحكومية الرسمية، وغالبا مايخضع لعمليات ترميم وتجميل ، بل يصور واقع مختلف ومغاير. واقع الشباب من الجيل الذي ينتمي إليه طارق تويقة ،ليحكي عن غربته داخل وطنه، وغربتنا جميعا في العالم ويروح يسأل ذات السؤال في كل أفلامه ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش، وكيف تستطيع السينما أن تقدم لنا ما لانعرف أننا نريده ،ولا تحكي لنا في كل مرة  نفس الـ" قصة " المعادة المكررة التي سأمناها ومللنا منها، وبذلك يحقق طارق تويقه وظيفة السينما الاساسية كونها كما يقول المخرج والمفكر السينمائي الفرنسي جان لوك جودار، كونها مجرد " أداة "  للتفكير في واقع تناقضات مجتمعاتنا الإنسانية..

فيلم ثورة الزنج يقترب في اشتغالاته الفنية – تكوين الكادر واللقطة وحركة الكاميرا ووضع الأشخاص في  المكان - من روح البحث عن شكل جديد للسينما عند الايطالي انطونيوني وبخاصة في فيلمه الأثير " المغامرة "، وعند ا لفرنسي بريسون وبخاصة في فيلم " النشال " ومسكون بالـ " الهم " السينمائي : التفكير في السينما الفن كفن تشكيلي في الأساس،  والمشاركة في مغامرة صنع أفلام تشبهنا، وصنع سينما بديلة مغايرة،غير تلك السينما التجارية الاستهلاكية التي عودتنا على الكسل، وأن تمنحنا كل مانريده..

لايطمح  تويقة فيلم " ثورة الزنج " الى تحقيق " لذة " إستمتاع مريحة ، من خلال  صنع فيلم يسلينا، ولامانع أن يمتعنا وثقفنا في آن ، بل يطمح الى تحقيق وإنجاز سينما من نوع  مختلف ومغاير. سينما تتأمل وتاخذ راحتها، وهي تطهى  أو تطبخ على نار هادئة وتحفز على التفكير.والمهم هنا هو أن يصبح " الخطاب " الفكري هو الرحلة ذاتها، المهم في الفيلم ليس الفيلم ،بل السينما التي يستطيع أن يحققها، والمادة التي يصنع منها، وليس الدرس الأخلاقي المستفاد منها..

 ان مايمنح هنا رحلة بن بطوطة الصحفي الجزائري في فيلم " ثورة الزنج " قيمتها هو التفتيش والتنقيب عن تلك الثورات المنسية في ذاكرتنا وتاريخنا- كعنصر ضروري في مبحث " الهوية " – وطبيعة الرسالة المتمثلة في الرحلة كلها ، كمواجهة.. و كمساءلة لـ" واقع " حاضر ومختلف..




 واقع يعلي فيه طارق تويقة بفيلمه من قيمة  " البحث "  في ذاكرتنا حتى لو كان كل ماتبقى منها حفنة تراب ، ويتسامق بقيم " النضال " ضد القمع والقهر، وأهمية واستمرارية التمرد على الظلم وكبت الحريات، و بكل فعل من أفعال " المقاومة " في كل وقت، بعد أن صار  الشقاء الانساني الواحد  يقينا هو الذي يجمّعنا ، ويكفيه فخرا أنه يفتح فقط عيوننا على العالم

تحية الى طارق تويقة وفيلمه الضروري البديع،الذي يصالح مابين الشعر والسياسة، و يستحق المشاهدة عن جدارة ....



باريس . صلاح هاشم

عن جريدة " القاهرة "  بتاريخ  5 مايو 2015


ليست هناك تعليقات: