أنغام الموسيقى تفجر قضية النهضة والحضارة
في فيلم صلاح هاشم عن الطهطاوي
لندن - يسري حسين*
نقل المخرج المصري صلاح هاشم جمهوره من نقاد وأكاديميين وباحثين ودارسين , إلى قاهرة المعز في زمنها المعاصر للبحث عن ما تبقى من تراث رجل , نقل العلم والحضارة والثقافة بجناحي العدل والحرية إلى الشرق، ليخرجه من ظلام التخلف . ألى نور ينبعث من الوعي والإرتباط بالأمل ، في بناء حياة أفضل، وبلورتها لتحدي تيار التراجع كله .
وقد ذهب رفاعة رافع الطهطاوي إلى باريس عام 1826، , وعاد منها بزخم معرفي وعلمي , هدفه نقل مصر والشرق إلى ضفة أخرى , تعرف عليها أثناء إقامته في عاصمة النور , إذ أدرك أن هذه الشعوب تقدمت بفتح أدمغتها أمام حقائق والوصول إليها من خلال بطاقة مرور، ترفع راية الحرية مع العدل , إذ بدونهما لا يتحقق , لا تقدم ولا إبداع أو إزدهار .
كان < الطهطاوي > لديه الثقة بأن مجرد نقل الرسالة سيستجيب لها مواطنيه ،ويلتقطون شفرة حل الألغاز الحضارية , لكن على الرغم من مرور ما يقرب من مائتي عام , لا تزال المسيرة تتعثر , بل تراكمت على الأدمغة الأحجبة والشك في الثوابت , وإعتبار التقدم عاراً وتجديفاً , والعودة مرة أخرى للوقوف أمام سر الحضارة في حالة تلعث،م وإندفاع إلى الوراء .
عرض < هاشم > في تتبع ينسج من معمار الموسيقى نهج أسئلة ، من خلال كلام الناس البسطاء وبعض رجال النخبة الذين يبدون أكثر إرتباكاً , نتيجة عدم لمس توهج شعلة الطهطاوي , التي حملها في القرن الثامن عشر , ولم تصل إلى بعض العقول بعد .
كانت مصر ، وهي تبني دولتها في عهد محمد علي , أكثر إدراكاً لأسئلة التقدم وبناء الصناعة وفتح المدارس وترجمة الكتب ، وحمل الشعلة رواد مثل طه حسين , غير أن التراجع العنيف، حاصر شرارة النهضة , بحيث تعيد الأمة إفراز المواد المحبطة، وتحشو العقول بالمعلومات الفاسدة ، حتى تصبح ضد نفسها .
تحدث رائد التنوير عن تعليم البنات وصقلهم بالمعرفة، وتأهيلهم للمشاركة في البناء . وقد تراجعت هذه الدعوة إلى الوراء , وهناك من يُعبر في فيلم صلاح هاشم عن معارضته لهذه الفكرة , لأن كرامة المرأة في رأيه البقاء في المنزل وليس خارجه ، لكنها إذا لم تتعلم وتتثقف ، فلا قيمة لها ولا مكانة على الإطلاق .
وتعلل البعض بأن أزمة البطالة، تدفع لوضع النساء في منازلهن حتى يعمل الرجال ، في حين كان < الطهطاوي > القادم من صعيد مصر الجواني , أكثر فهماً بتبشير أفكاره عن حق التعليم , الذي هو مثل الماء والهواء، ضرورة لكل مواطن , كما قال طه حسين بعد ذلك .
يحمل المخرج صلاح هاشم فيلمه التسجيلي غير التقليدي المئات من الأسئلة , وهو قد حمل الكاميرا مع مصوره اللامع سامي لمع , للكشف والتنقيب في أرض مصر، لمعرفة ماذا حدث للرسول ؟ الرسول الذي ذهب إلى باريس ، وعاد محملاً بالأماني والعمل والأفكار , وشيد مدرسة الألسن لتعليم اللغات وترجمة الكتب ونشرها ، بالدعوة إلى العلم والعدل والحرية .
وكان المصريون والعرب في أحقاب مختلفة، يقودون العالم إلى نور التنمية، مع الحرية والعدل , لذلك ظهرت حضارات إنتعشت في ظل الرؤية الإسلامية الحضارية التي إحتضنت الآخر , وسمحت لفلاسفة مثل موسى بن ميمون وإبن سينا , وإبن رشد ، سمحت لهم بالنبوغ والجرأة الفكرية , بينما كان الغرب الأوروبي يخشى هذه الأفكار، وتعتبرها الكنيسة تجديفاً ونويراً خطيراً ، يربك العقل الديني المتزمت .
وتقدمت أوروبا , لأنها أخذت بالمنهج الذي تركه العرب , مما سمح بتكالب التخلف والإستعمار عليه , ومع بداية القرن الماضي، برقت شعلة الطهطاوي مرة أخرى , فبدأت حركة التصنيع ،وفتح استديوهات السينما، وتألق الموسيقى والتمثيل ، وبناء الجامعات ، وتنشيط حركة الترجمة .
غير أن قبضة سوداء ، أطاحت بكل هذا , فعاد الحجاب يخفي نور العقل , وتسلل الغم والإحباط نتيجة بطالة وفساد وإستبداد , فتم خنق رحيق زهور نهضة طه حسين وطلعت حرب، مع أنور وجدي ومحمد عبد الوهاب وصوت أم كلثوم .
عاد < هاشم > المقيم في باريس، للبحث عن آثار هذا الجد اللامع < الطهطاوي > الذي يشبه ما تحدثت عنه الأساطير اليونانية بشأن سارق النار , الذي وضعها في قلب الإنسان , حتى يعرف ويتعلم ويفكر، وينطلق عبروجوده كله .
المخرج المصري المشبع بالحرارة المعرفية، وتراث مشروع النهضة , عاد إلى وطنه , وإلى حي السيدة زينب ليفتش عن < الطهطاوي > في عمق أجيال جديدة، وداخل ساحة الحسين، وعلى صفحة النيل . وقد تدفقت على مر أحداث صور الفيلم الموسيقى المعبرة، عن وجدان الناس وأحلامهم، وبحثهم عن شوق إلى نور يهزم الظلام .
وهذا إرث حامل الشعلة , التي لا تزال رسالتها قائمة، وتنتظر من يحملها ، ومظهر الواقع يسيطر عليه زحام وفوضى وعشوائيات ، وإيقاع يعود إلى الوراء , غير أن الموسيقى الجميلة تؤكد بأن هناك شعباً يعيش، ويتطلع بجموح وأمل إلى معانقة رسالة < الطهطاوي > ، على الرغم من غيابها في طيات هذا الزحام المحبط ، والمظلم أيضاً .
قال المخرج كل هذا الكلام ، وطرح الأسئلة من خلال الصورة والجملة الموسيقية , حتى الفتاة الصغيرة التي ترقص وهي محجبة , ينبض جسدها بديمومة متألقة، تعبر عن عناق مع الأمل , وتستجيب للموسيقى بدفقات شعورية هائلة , أسقطت ما تخفيه من ملامح , إذ الحركة عبرت عن حرية , والفتاة ملجمة بثياب ترفضها آلة الزمن، التي تعيد إلى فلسفة القشور ، ولا نتذكر تحية كاريوكا وسامية جمال , حيث كان إبداعهما تعبيراً كاشفاً عن ثقة وعمق يتحلق حول الفن ، وليس بشأن أسئلة ساذجة عن السفور والحجاب .
إن الأمم تستطيع أن تبدع إذا أدركت ذاتها ، وكان < الطهطاوي > على بينة من مهمة غمرت عقله , إذ وجد < السر > في باريس، وحمل طريقة التقدم ، وقدمها على صحن من العمل والجد وبناء مدرسة الألسن , والإنكباب على الترجمة، لتقديم أمهات كتب الحرية وحقوق الإنسان , مع طريقة تجريد البشر من قيود التخلف، بالعلم والمعرفة ،لصنع الحضارة .
وكلما إقتربت مصر من هذه المعادلة تقدمت , كما حدث في بداية القرن الماضي , وعندما تُعبر وتطرح أسئلة السذاجة , تتراكم عليها سحب وظلال , تقول بأن تعليم المرأة بدعة ، وخروجها إلى العمل ضلالة . كما أن الحرية لا تستقيم ، دون تحقيق العدل، للقضاء على التراكم الطبقي الإستغلالي ،ومنح الفرص المتكافئة أمام الجميع ، حتى يساهم في صنع النهضة .
وقد عرض صلاح هاشم فيلمه الجميل في قاعة بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن . وتحدث عن < الطهطاوي > برحلة الإكتشاف في هذا الجزء، الذي ينطلق من الصعيد إلى القاهرة ، ويتوقف عند ما تبقى من تراث الرجل وصداه ، في طبقات الحياة العامة .
ولدى هاشم رحلة أخرى طموحة، في تصوير المشهد الباريسي، ووجود الطهطاوي هناك , ثم الجزء الأخير في تتبع مشواره ورحلة العودة ، بعد أن اكتشف سر التمدن البشري .
إستخدم المخرج طريقة سردية بصرية , حيث تتدفق الصور كما هي دون تعليقات , مع حوار سلس وبسيط لناس في الأحياء الشعبية وأماكن التجمعات في منطقة < الحسين > المشبعة بالتراث , لإعطاء صورة عن كيان بشري هائل , يملك زخم الحراك ، ولديه بجانبه الطهطاوي , ذاك الذي رسم طريقة للخروج من المأزق ، والتحليق في سماء الإبداع الإنساني , والإصرار على صنع حضارة لا تُقلد ، وإنما تغوص في تراثها للمس الجوهر , الذي يقف مع التقدم ،وتعليم المرأة ، والتمسك بفعل الحرية .
وكانت تعليقات د . صبري حافظ أستاذ الأدب المعاصر بجامعة لندن , تدور بشأن العلاقة بين رسالة الطهطاوي والحاضر الراهن , وتعثر مسيرة المصريين في ترجمة ما قاله قبل ما يقرب من مائتي عام .
وطرح د . أيمن الدسوقي أستاذ الأدب المقارن بالجامعة ذاتها , طرح بعض الأطروحات النيرة عن مسيرة التعليم ، وفقرات مشروع النهضة الذي بشر به الطهطاوي ، كما تحدث حاضرون من عرب وبريطانيين عن معنى الحضارة , وهل هي ترتبط بالنموذج الغربي ، أم يمكن الأخذ بالإسباب، وصُنع النمط المحلي ، لخصوصية العقائد والقيم والتقاليد ؟ . وهذا ما كان يقصده < رفاعة > المجدد، وليس المقلد على الإطلاق .
وتدفق صلاح هاشم بالحديث عن تجربة طويلة في عالم السينما . وقد إنتقل من المكتوب إلى المصوّر بطريقة في فهم لغة الصورة , وترك المناظر تكشف عن مكنونها الجمالي والإبداعي والفكري أيضاً .
وقد إستمتعت لهذا الفيلم , الذي من الصعب وصفه بالتسجيلي , لأن خلفه طاقة إبداعية ، تملك حس السرد الروائي من داخل منظومة الدراما السينمائية . إن هناك أشخاص يتحدثون ويعلقون , وصور من نمط حياة، تم إلتقاطها كما هي , ووظفتها لغة التحرير السينمائي في بناء متكامل , يبدو من الوهلة الأولى بأنه عفوي، ولا يخضع لفقرات سيناريو محدد , لكن عندما تغوص في الصور التي التقطها، تشعر بالحبكة السينمائية قائمة , لكنها متخفية ، وراء هذا النهر الغامر من لقطات وصور ، وأناس يتحدثون بعفوية تلمس القلب .
أعطى المخرج صورة أخيرة إلى إيقاع الموسيقى , في لقطات الطفل الذي يحبو، ويتطلع وينظر إلى المستقبل , كأنه يرى رسالة الطهطاوي ونبضها في دمه , وستكون أداته، في عالمه المقبل ، لصنع حياة أكثر علماً وجمالاً وحرية وديمقراطية .
ودائماً هناك من يتحدث، بأن مصر في كل عصور الجدب والضباب , كان في قلبها نقطة ضوء صغيرة، تتجمع في داخلها أحلامها، في عدل وحرية ونماء وتعليم ، وان هذا الشعب المحاط بأسوار الإحباط , يملك قدرة القفز عليها كما فعل صلاح هاشم نفسه، إبن حي < قلعة الكبش > بالسيدة زينب , الذي ذهب إلى باريس ، وفي قلبه الحلم بالسينما والتغيير والأمل , لذلك إختار عمنا < الطهطاوي > ، حتى يقول أن تكرار تجربته ممكنا , وأن التحليق في أحلامه يستطيع إنقاذ الواقع، من تعثره وقيوده الكثيرة ، وبعض المواد الفاسدة التي ذهبت واستقرت في عقول نخبة متعلمة , لكن عالمها أكثر بشاعة، نتيجة الجهل , لأنها تحوط فكرها بألفاظ ، تبدو قشرتها كما لوكانت تستخدم ألفاظ العلم، بينما الجوهر لا يخرج عن تخلف الظلام البشع .
هذا الفيلم الجميل، صوره الفنان سامي لمع , الذي ترجم رحلة مع الكاتب والمخرج الفنان صلاح هاشم , تمتد إلى عشرين عاماً .
إن المبدع المصري مع آخر لبناني ، وبدعم من مثقفة كويتية هي نجاح كرم , عزفوا على أوتار الخلق الفني , فجاء هذا الشريط بتلك الصور الدالة عن معركة الحضارة , ولكن في صيغة تحاكي البناء الموسيقي، وتعزف بإقتدار على تنويعات لحنية ، يتدفق بين أصابعها هذا الشجن البديع، والرغبة للقفز خارج أسوار التعثر , للحاق بمسيرة العلم، وبآخرين يبدعون ، في نطاق الحرية ، مع العدل العظيم
يسري حسين
* يسري حسين.كاتب وصحفي ومعلق سياسي مصري مقيم في لندن
عن موقع " آرام " بتاريخ 15 يونيو 2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق