عطر .. قصة حياة قاتل
شريف حتاتة
توقفت في الصالة الرخامية اللامعة أمام الإعلان المثبت على عامود . كرهت أفلام القتل, والعنف تحتل شاشاتنا منذ سنين , فترددت . لكن جذبني إليه التناقض في عنوان الفيلم , وكوني أعرف أنه مبني على رواية الكاتب الألماني المعروف "باتريك زوسكيند" الصادرة سنة 1985
بعد قليل وجدت نفسي جالساً في الظلام , أتطلع إلى المشاهد الأولى في فيلم "العطر", وأستمع إلى تقدمة الراوي "جون هيرت" لأستغرق بعدها في العرض الذي يحكي قصة شخصية خيالية تُدعى "جان باتسيت جرينوي ". صانع عطور عاش في فرنسا في أواسط القرن الثامن عشر ( قام بدوره الممثل الإنجليزي "بينيدكت ويشاو") اشتهر بأنه منذ ولادته كان يتمتع بقدرة خارقة على إلتقاط مختلف الروائح , ومعرفة أنواعها , ومصادرها , والفروق بينها مهما كانت دقيقة . وقد تمكن هذا الشاب الصامت دائماً من إختراع عدد كبير من العطور لاقت نجاحاً مشهوداً بين نساء الأسر الغنية في "باريس" , وهذا أثناء عمله مساعداً لصانع عطور إيطالي اسمه "جوسيبي بالديني " كان يمتلك وكالة لبيعها ( قام بدوره الممثل الأمريكي المشهور "داستين هوفمان" )
لكن قبل أن يلتحق بعمله مع "بالديني" يقع لـ"جان باتسيت" حادث مؤلم يعجز عن نسيانه, ويُولد عنده رغبة طاغية تتحول إلى حلم مجنون في أن يتمكن من عزل العناصر الأساسية التي تتكون منها رائحة الانسان ثم حفظها. لذلك يترك عمله مع "بالديني" بعد أن تعلم منه بعض أسرار المهنة وإقتنع بقوله أن العبقرية والنجاح لا يعتمدان على الموهبة وحدها , وإنما أيضاً على الصبر والجهد الطويل
ينتقل "جان باتيست" من "باربيس" إلى مدينة "جراس " المعروفة بتملك تجارها أسرار تقطير العطور . هناك أثناء عمله في أحد المعامل يكتسب ثقة المرأة التي تقوم بإدارته نتيجة حذقه وحساسيته في التعامل مع الورود والزهور أثناء إعدادها لتقطير العطر . هكذا تمكنه من الإنفراد "بالبدرون" الواسع أثناء ساعات الليل ليقوم بتجاربه الخاصة تدفعه للقيام بها رغبته المهووسة في أن يستعيد رائحة الفتاة التي انجذب إلي رائحتها وتتبعها في سوق " باريس " أثناء فترة سابقة عمل فيها صبياً في دبغ الجلود
يقوده هذا الدافع الملح إلى التورط في القيام بتجارب مروعة , غير عابيء بأية موانع أو أخطار , إلى القيام بقتل أعداد من النساء الشابات وتقطير رائحتهن بغية الوصول إلى الرائحة الوحيدة التي أحبها , والتي أخرجته من قبح حياته وبؤسها في معمل لدبغ الجلود , من عفن الروائح التي كانت تُحيط به في النهار والليل
أثناء هذه التجارب كان يغطي جثة الضحية بطبقة من الدهن الحيواني ويلفها بإحكام في ثوب من التيل السميك , ثم عندما ينتهي من كل هذا يقشط طبقة الدهن التي غطى بها الجثة ويقوم بتقطيره . فقد اكتشف أنه بهذه الوسيلة يستطيع أن يصل إلى استخراج الرائحة التي يبحث عنها وحفظها في قنينة صغيرة كانت هذه الخطوات تشبه في بعض تفاصيلها عمليات تحنيط الأموات التي لجأ إليها الفراعنة لحفظ الجثث بعد الوفاة . فعندما كان يعمل معاوناً لتاجر العطور "بالديني" قال له إن الفراعنة تمكنوا من استخراج ثلاثة عشرة رائحة , منها اثنتى عشرة رائحة أمكنهم تحديدها , ومعرفة خصائصها . أما العنصر الثالث عشر , فلم يستطع أحد الوصول إليه رغم أنه كان أهمهم . ذلك أن أثره كان يسيطر على الناس ويصيبهم بنشوة غريبة . فظل هذا العنصر أسطورة عجزوا عن التعرف عليها
تمكن "جان باتيست " من قتل إثنتي عشر إمرأة وحفظ رائحة أجسادهن في عدد مساو من القنينات الزجاجية الصغيرة دون أن يعثر على رائحة فتاته . وحتى يصل إليها كان لابد له من قتل ضحيته الثالثة عشرة. وهى أجمل فتيات مدينة "جراس" , وابنة أكثر تجار العطور ثراءاً ونفوذاً . كما أنها كانت تشبه في ملامحها الطفولية الرقيقة وشعرها الأحمر المشتعل حول رأسها فتاة السوق التي لم يستطع أن ينساها خيال له معانيه
الاستمتاع بالأعمال الفنية , وتفسيرها عملية ذاتية , تتأثر بثقافة وشخصية المشاهد أو القاريء . لقد استمتعت بهذا الفيلم , وبالمعاني التي رأيتها فيه رغم كل الغرابة التي اتسم بها. رأيت فيه عملاً فنياً يعتمد على الفانتازيا , وعلى خيال غير عادي . مع ذلك لم يكن هذا الخيال مفصولاً عن نواحي من الواقع الذي نعيشه . كان يرمز إليها في مواضع, ومشاهد كثيرة . موضوعه الأساسي هو روائح الحياة , الجميلة منها والكريهة , أو بالأحرى رائحة الحياة نفسها التي تظل أقوى , و أجمل من أي رائحة آخرى تنبعث من العالم الذي نعيش فيه. فالحياة نفسها ورغبتنا فيها تفوق كل ما عداها في جاذبيتها , وفي تأثيرها علينا . لذلك نصارع للإحتفاظ بها , وبكل ما فيها من حيوية , وتنوع , وثراء يُغرينا . نقاتل للحفاظ عليها , بل نحن على استعداد للقتل من أجل استمرارها
نجح المخرج الألماني " توم تيكفير " في الاستحواذ على اهتمام المشاهد , وتركيزه طوال الفيلم من الإحتفاظ بوتيرة التوتر , والتوقع أمام ما هو حادث , وأمام احتمالات ما قد يحدث دون أن يعرض مشاهد القتل أو الدماء وهى تراق . نجح في تحويل القبح الذي كان سائداً في "باريس" منذ ثلثمائة عام إلى شيء جميل , بأسلوب عرضه للفقراء من الرجال والنساء والأطفال الذين اكتظت بهم شوارع وأحياء المدينة , ليرقات الحشرات تزحف في السوق بالملايين , لأحشاء الحيوانات الملقاة على الأرض وفي السلال , للأجسام المتقيحة للبشر تلفها الأثمال , لجثث النساء الشابات بعد وفاتها , لمدينة تنضح بالعفونة والقذارة . ذلك أن تصوير القبح يُمكن أن يكون له جماله
شارك "توم تيكفير " أيضاً في كتابة السيناريو وفي تأليف الموسيقى التصويرية الذي قامت بتأديته فرق موسيقية ذات مستوى رفيع مثل فرقة "برلين الموسيقية " وفرقة "برشلونة"
في رأيي أن الفيلم كان يرمز بطريقة عميقة لتمسك الإنسان المبدع بالحياة , بالأشياء التي يحبها وبالسعي إلى تحقيقها. تجسد هذا في مشهد ولادته داخل سوق السمك حيث ألقت أمه, بائعة السمك , بطفلها الوليد "جان باتسيت" وسط الرؤوس المقطوعة والأحشاء المتناثرة للسمك فيصرخ بقوة رافضاً الموت, ونرى جسده الشاحب الصغير المغطى بالدم يتحرك وسط الفضلات , ونرى عينيه ترتفع عنهما جفونه المثقلة بالمسموم المحيط به . إنه يعلن عن استمساكه بالحياة بينما تتركه الأم ليموت , كما تركت غيره من أطفالها , فيمسك بها الناس , ويقودونها إلى المشنقة بتهمة القتل . هكذا تنتهي حياتها ليعيش هو , وليباع إلى إمرأة تدير ملجأ للأطفال اليتامى . وفي الملجأ نشاهد قدرته على الإفلات من عدوان الصبية الآخرين معتمداً على حاسة الشم الحيوانية الخارقة التي وهبتها له الطبيعة . إنه يتشمم مواضع الخطر ويتفاداها إلى أن يشب ويصبح صبياً فارعاً , فتقوم مديرة الملجأ ببيعه إلى رجل جسده عملاق, ونفسه محقونة بالقسوة , رجل مهنته دبغ الجلود والمتاجرة فيها . هكذا ينتقل "جان باتيست" ليحيا وسط الروائح الكريهة للجلود , ضحية لأقسى أنواع العقاب والعذاب , والضرب المبرح بقضيب من الحديد على جسمه النحيل . أما مديرة الملجأ فتقوم عصابة من اللصوص بذبحها والاستيلاء على النقود التي حصلت عليه مقابل بيعها له
يلف "جان باتيست" نفسه في الصمت ويتحمل , لكن في أحد الأيام يصطحبه العملاق إلى "باريس " حيث يسعى لبيع الجلود في السوق . وهناك أثناء سيره في المدينة تجتذبه رائحة فتاة ذات ملامح جميلة وهالة من الشعر الأحمر . تحمل سلة من البرقوق تقوم ببيعها فيتتبعها إلى ميدان صغير مهجور سائراً ورائها في الحواري , ليقترب منها ويحاول أن يستنشق رائحتها . لكنه أثناء محاولاته يسمع خطوات أحد المارة فيضع يده على فمها حتى يمنعها من الصراخ والاستنجاد بمن قد يؤذيه . بعد أن تبتعد الخطوات يتركها ليكتشف أنها اختنقت وفارقت الحياة فيتهاوى فوقها , ويتشمم جسدها وهى راقدة على الأرض ليحمل رائحتها معه ذكرى لا يريد أن ينساها
في هذه الأثناء يبحث عنه تاجر الجلود , وعندما يعثر عليه ينهال عليه ضرباً بقضيب من الحديد حتى يفقد وعيه . عندما يعود إلى اليقظة تبرق عيناه كأنه تنبه إلى شيء مهم وينطق بجملة معناها أنه أخيراً اكتشف مشروع حياته . منذ الآن سيسعى إلى استعادة رائحة الفتاة التي لم يعد قادراً على نسيانها . كانت لحظة الجمال والضوء , ولحظة رائحة الحياة الجميلة الوحيدة التي عرفها منذ أن ولد . يصبح فاقد الإحساس بكل ما يدور من حوله , صامتاً تماماً , عاجزا عن الإهتمام بكل شيء سوى البحث المحموم عن ذكرى استحوذت على حياته , واستولت على خياله , عن سر يستطيع أن يقوده إلى مقدرة الإحتفاظ برائحة الجسم الانساني , برائحة جسم المرأة الشابة التي التقى بها وسط مستنقع القبح والقسوة والمعناة الذي عاش فيه
في اليوم التالي يحمل لفة من الجلود إلى تاجر العطور الإيطالي "جويسبي بالديني" تنفيذا لأوامر صاحب مدبغة الجلود . هناك يكتشف التاجر مقدرته الفذة على اكتشاف العناصر المكونة للعطور عن طريق حاسة الشم التي تمتع بها , ومن بينها عطر جديد اسمه " الحب والروح" صنعه منافس له , فيوافق على الإستفادة من قدراته كمساعد , أما صاحب مدبغة الجلود فأثناء سيره على حافة قناة للمياة وهو ثمل يسقط فيها ويغرق في المياه
خلال الفترة التي يعمل فيها مع تاجر العطور "بالديني " يتمكن "جان باتيست" من استنباط عدد كبير من العطور الجديدة التي تباع للنساء المنتميات للأسر الأرستقراطية الثرية فتروج تجارة "بالديني" بعد أن أوشك على الإفلاس . أما "جان باتسيت " فيتعلم من خبرات الرجل ويستوعبها . لذلك يقرر مغادرة "باريس " والذهاب إلى مدينة "جراس " حيث يوجد أشهر صناعة عطور في فرنسا حتى يواصل البحث في تقطير وحفظ رائحة الجسد الإنساني . لكن يوم أن يترك وكالة "بالديني " تنهار البناية التي يقيم فيها الرجل وهو راقد في سريره ويموت تحت الأنقاض . هكذا تقترن كل مرحلة في حياة "جان باتيست " بموت الشخص رجلاً كان أو إمرأة الذي كان عقبة تقف دون مواصلة مشروعه وكأن الفيلم يقول أنه لا جديد إلا بموت القديم , أنه لا يوجد طريقة للإكتشاف , للإبداع , لتحقيق مشروع له قيمة سوى بزوال العقبات والقوى المعطلة للتقدم التي تُصر على ممارسة القهر , واستيلاب الانسان المتطلع إلى تحقيق أحلام الغد
هكذا يتعرف "جان باتيست" على الطريق الذي يجب أن يسلكه لتحقيق مشروع حياته . لكن أثناء السير إلى "جراس" يدخل إلى كهف ليتسريح من مشقة المشي , وهناك يشعر بجو من السكينة والهدوء بعيداً عن المعاناة والقهر, بأن التأمل في جو من الهدوء فيه متعة لم يعهدها . يسقط في النوم وأثناءه يرى الفتاة بائعة البرقوق في حلمه . أما هى فلا تراه رغم وقوفه أمامها. عندما يستقيظ يكتشف أن جسده بلا رائحة فيحس بالفناء , ويدرك أنه لابد من مواصلة مشروعه , من أن يحيا وسط الناس فينفض عن نفسه جو الخمول الذي استولى عليه ويخرج من الكهف , من العزلة في بطن الجبل ليستأنف مسيرته
إن المعرفة التي حصل عليها لم تكن لتتحقق بسهولة . كان لابد أن يمر بتجارب مختلفة فيها قسوة , أن يشك , أن يعاني فوضى البحث وسط غيوم تعترض رؤيته , أن يُدرك معنى الإخلاص لهدف واحد , وأن يزيح عن طريقه كل الموانع , والعواطف , والعلاقات التي تعرقل مسيرته
انتصار مسيح الحب
هذا ما أوحى به إليّ فيلم "عطر" تم هذا بأسلوب فيه خيال قاس وشذوذ غير مألوف . مع ذلك حدثني عن الحب , عن الإبداع , عن مشروع للحياة , عن أهمية الإصرار والصبر, وعن أن المعارضين لحلم "جان باتيست" بإكتشاف عطر الحياة كانوا من أغنياء القوم , أصحاب السلطة و أقطاب الكنيسة في "جراس" , فهم الذين طاردوه , وحاصروه , وسجنوه , وعذبوه لينتزعوا سر ما كان يسعى إليه , بينما ظل هو يتحمل في صمت , ويحيا حياة التقشف والإستغناء والجهد , ويكرس كل لحظة , وكل خطوة , وكل جهد للحلم الذي استولى عليه . وتم كل هذا عن طريق الصور والأحداث , دون خطب , أو وعظ , وبأسلوب لم أملّه طوال الفيلم
بعد أن اكتشفوا جرائم القتل التي نفذها في ضحاياه , أي في إثنتى عشر من النساء الشابات, قام والد الفتاة "لورا" أغنى أغنياء مدينة "جراس" , وصاحب النفوذ الأكبر في هيئات الحكم بتهريبها من المدينة تمهيداً للسفر بحراً لتزويجها من الأمير الماركيز "مونتسيكيو " . في الطريق إليه يتوقفان في استراحة على جبل يمتد داخل البحر ليقضيا فيها الليلة, ومرة آخرى عرض الفيلم مشهداً طبيعياً بديعاً أُضيف إلى المشاهد التي التقطت من قبل في شوارع "باريس", وقصور "جراس" , وأثناء تنقل "جان باتيست " مسافات طويلة سائراً على قدميه في البراري والجبال . لكن لم يمر إختفاء "لورا " دون أن يكتشفه "جان باتسيت" بحاسة الشم التي وهبتها له الطبيعة , فينطلق في الاتجاه التي صارت فيه هى وأبوها ممتطين ظهري حصانين ليصل إلى الإستراحة في ظلام الليل . وهناك يتمكن من التسلل خلال الغرفة التي تنام فيها النساء المشرفات على الاستراحة , وتخطي الكلب الراكد عند الباب وكأنه روح بلا جسد , من الدخول إلى الغرفة التي يحتلها الأب والاستيلاء على مفتاح حجرة "لورا" , ثم فتح الباب المُفضي إليها وتنفيذ جريمته
في اليوم التالي يتم القبض عليه ويوضع في السجن إلى أن يصدر الحكم بصلبه , وقرب نهاية الفيلم يخرجونه من الزنزانة التي يرقد فيها مكبلاً بالحديد , ويسوقونه وسط صراخ وتهليل عشرات الآلاف من سكان المدينة تجمعوا ليشاهدوا صلبه على يد أحد الجلادين . هذا بينما يقف أغنياء القوم ونساؤهم , ورئيس أثاقفة الكنيسة في "جراس" على شرفة عالية ليتابعوا المشهد
لكن "جان باتيست " يصعد السلالم إلى منصة الصلب بخطوات ثابتة مرتدياً بزة زرقاء زاهية اللون وحذاء من ذات القماش مغلقاً على قدميه تمكن من الاستيلاء عليهما باستخدام قنينة العطر التي كان يخفيها في ثيابه الرثة . يتطلع بهدوء إلى الجماهير المحتشدة في الميدان وهى تطالب بالقصاص منه صارخة بأعلى صوت , رافعة قبضاتها في الجو . بعد أن يهدأوا قليلاً يُخرج قنينة صغيرة فيها سائل أحمر اللون ويصب منه نقاطاً على منديل أبيض يُلوح به في الجو , ثم يلقيه من أعلى ليتهادى ساقطاً فوق رؤوس الحشد . وفجأة يتغير كل شيء . يتبادل الناس الأحضان والقبل , وتشرق وجوههم بالفرحة والحب , ويخلع الجلاد ملابسه السود , ويقف رئيس الأثاقفة رافعاً ذراعيه ناطقاً "إنه ملاك , بل إله , وليس إنساناً مثلنا"
هذا المشهد يعيد إلينا قصة المسيح , وكأن "جان باتيست " لم يكن رجلاً شريراً وإنما روح طاهرة تنثر عطر الحب على الناس بعد أن أكتشف سر صناعته , وارتباطه بجسد المرأة التي انجذب إليها , وبجسد "لورا" التي تشبهها هذا التحول الفجائي في الفيلم لم يكن مقنعاً بالنسبة إليّ , أحسست أنه يتناقض مع ما سبقه, لكني التمست لصناع الفيلم العذر . ختموه بطريقة ممعنة في الخيال . مع ذلك طالما أن الخيال هو جوهره ربما يمكن قبول شطحة أخيرة في ذات الإتجاه . بالإضافة فإن هذا التقابل مع قصة المسيح أعطى للنهاية نغمة روحية دينية لم تقنعني حتى وإن كانت تعبيراً عن شخصية "جان باتيست" التي بدت في كثير من أجزاء الفيلم وكأنها روح بلا جسد تستطيع أن تتخطى كل العقبات المادية في طريقها وأن تتحمل مالا يتحمله إنسان لتعيد إلينا أسطورة اليسوع الذي ذاق أبشع أنواع العذاب من أجل خلاص الإنسانية جمعاء
أما آخر مشهد في الفيلم فقد سار في هذا الطريق خطوات آخرى. يعود "جان باتيست " إلى ناسه , إلى الفقراء في سوق السمك , وهناك يتجمعون حوله , ويغرقونه بالأحضان والقبل إلى درجة تُؤدي إلى تلاشي جسمه لم يبق منه سوى ملابسه يعبث بها الأطفال . ليبدو وكأن الفيلم يريد أن يُؤكد ما جاء في بعض فقرات الإنجيل حول تضحية سيدنا "عيسى" بلحمه من أجل إنقاذ البشرية جمعاء
خاتمة
قرأت ما كتبه النقاد الأجانب عن فيلم "العطر" , لم أجد فيه أدنى تقارب مع التحليل الذي أوردته في هذا المقال . هذا ماعدا الجزء الخاص بأسطورة المسيح . لا شيء عن كونه يرمز من قريب أو من بعيد إلى قضايا تتعلق بالإبداع , بمشروع للحياة يستحوذ على خيال الإنسان, بالصراع بين الفقراء والأغنياء , بين موت القديم تمهيداً لولادة الجديد , بعطر الحياة وقوة تأثيره على الناس , بصراعهم من أجل الحفاظ عليها , بجمال القبح عندما تتناوله يد الفنان. لم ير فيه هؤلاء النقاد سوى قصة خرافية عن إنسان غريب لديه قدرة خارقة على التمييز بين الروائح والوصول إلى عناصرها , انسان استولت عليه نزوة شاذة ارتبطت بقدرة حيوانية خارقة قادته إلى القتل . وذلك رغم تقديرهم لنواح فنية في الفيلم . لكن ربما يعني هذا أن التذوق الفني قضية معقدة ترتبط بعوامل كثيرة إجتماعية , وسياسية , وثقافية , وذاتية , وأن الأحكام الجامدة ليس لها فيه مكان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق