ليس هناك من أدنى شك أن مصر تمر حالياً
بالمرحلة الأصعب والأخطر، ليس فقط منذ انطلاق ثورة شعبها، ولكن ربما منذ
تأسست الدولة الحديثة فيها قبل قرنين. فكل من الدولة والمجتمع يمران بمخاطر
وتهديدات غير مسبوقة فى خلال هذين القرنين بما يكاد يصل بكل منهما إلى
التفكك والتناحر والوصول إلى حافة الانهيار.
فالدولة بعد ثمانية شهور من حكم الرئيس محمد
مرسى ومن ورائه جماعة الإخوان المسلمين، يتآكل ما تبقى لها من هيبة لدى
المواطنين لعجزها المتواصل عن القيام بوظائفها الرئيسية لهم وسد حاجاتهم
الأساسية. فالأمن الذى اعتقد كثير من المصريين أن غيابه بعد قيام ثورتهم
سيكون مؤقتا وأن انتخاب رئيس للجمهورية سوف يعجل باستعادته، تراجع خلال
الشهور الأخيرة، خصوصاً بعد تعيين وزير الداخلية الحالى، إلى مستويات من
التدهور لم يشهدها من قبل.
وتفاقم الوضع أكثر وأكثر على الصعيد الأمنى
بسبب دفع رئيس الجمهورية الشرطة المصرية لكى تدخل فى صدامات دموية مع
قطاعات من المواطنين المصريين منذ ذكرى الثورة الثانية مما أوقع منهم عشرات
الشهداء ومئات الجرحى وأقل منهم فى صفوف الشرطة، وأعاد إلى نفوس المصريين
من الطرفين مشاعر الثأر والانتقام بينهما. وكان ثمن هذا التوجه من رأس
الدولة ووزير داخليته مباشراً وفادحاً، فقد تفاقمت حالة الأمن الجنائى
والمرورى وسادت البلاد حالة من الفوضى والانفلات غير مسبوقة، مما جعل
المصريين من مختلف الفئات الاجتماعية والمناطق الجغرافية يشعرون بالخوف
والانتظار الدائم لخطر مجهول قادم لا يعرفون طبيعته فى ظل غياب أمنى ربما
لم يعرفوه خلال تاريخهم الحديث كله.
وأما بالنسبة للمطالب والحاجات الاقتصادية
الأساسية لعموم المصريين من الفئات والطبقات الوسطى والدنيا، فقد تأكد لهم
بعد شهور ثمانية من حكم الرئيس محمد مرسى أن الدولة قد باتت عاجزة عن
الاستجابة لها وسدها بما يوجبه عليها دورها، وبما يتناسب مع أهدافهم من
ثورة يناير العظيمة التى مثل الخبز أولها والعدالة الاجتماعية آخرها. فعلى
الصعيد الاقتصادى الكلى بدت الدولة عاجزة عن سد العجوزات المتراكمة فى
الموازنة العامة وفى ميزان المدفوعات، وراح الاحتياطى الدولارى يتآكل بسرعة
هائلة وصلت بالبلاد إلى حافة الخطر بعد أسابيع قليلة، وراحت تهرول لكى
تتوقى شر الانهيار الاقتصادى نحو الحصول على قرض من صندوق النقد الدولى وهو
ما فشلت فيه بسبب القرارات السياسية الخاطئة والصادمة. ولم تتوقف هرولة
الدولة للاقتراض والحصول على المعونات الدولية على قرض الصندوق، بل سعت إلى
دول خليجية وأخرى أوروبية وللولايات المتحدة الأمريكية للحصول منها على ما
يسد العجوزات ويثقل فى نفس الوقت كاهل الدولة بالديون وفوائدها. وأما على
الصعيدين الجزئى والاجتماعى فقد تزايدت بشدة نسب البطالة ومعها ارتفعت
معدلات التضخم بصورة تكاد تكون يومية، وانسحقت قطاعات واسعة من الطبقات
الوسطى والدنيا المصرية تحت وطأة الحاجة وقلة ذات اليد.
ولم يكن تقاصر الدولة عن أداء أدوارها تجاه
المواطنين وبخاصة أمنيا واقتصادياً هو فقط الذى أطاح بهيبتها بصورة غير
مسبوقة فى التاريخ المصرى الحديث، بل إن الصراعات التى نشبت بداخل وبين بعض
أجهزتها الرئيسية بصورة علنية أكملت على ما تبقى لها من هيبة. فجهاز
الشرطة تعرض خلال الأسابيع الأخيرة لأسوأ ما رآه منذ تأسيسه فى القرن
التاسع عشر، حيث تصاعدت الاحتجاجات بداخله ورفضت الأغلبية الساحقة من رجاله
سياسات وزير الداخلية الذى يرأسه مطالبين برحيله عن قيادتهم، فى مشهد ينذر
بإضراب عام لقوى الأمن غير مسبوق بهذه الصورة فى تاريخ الدولة المصرية
الحديثة. وفى نفس هذه الفترة العصيبة بدت نذر صدام حقيقى بين قوات الشرطة
والقوات المسلحة فى بعض المناطق أبرزها بورسعيد، وهو الأمر الذى بدا أنه
مطلوب من بعض جهات الدولة الحاكمة لدفع الشرطة إلى مزيد من الانهيار
والتفكك الداخلى. ولم تكن هذه النذر للصدام بعيدة عن رئاسة الدولة نفسها مع
القوات المسلحة التى سرت شائعات كثيرة حولها، بعضها يتحدث عن محاولات
الرئاسة لإقالة قيادة هذه القوات، وبعضها الآخر يتحدث عن نزول وشيك لها
لتسلم إدارة البلاد فى ظل تزايد التوكيلات القانونية لها فى مختلف
المحافظات المصرية. وبدت الخلاصة بسيطة وخطيرة: الدولة المصرية تعجز عن
أداء وظائفها الحيوية وهى تتآكل من داخلها وتبدو على حافة التفكك
والانهيار.
أما المجتمع فلم يكن أحسن حالاً من الدولة.
فقد نجح الرئيس محمد مرسى ومن خلفه جماعة الإخوان المسلمين فى شهور حكمهم
الثمانية أن يصلوا به إلى حالة من التفكك والانقسام والصراع لم يعرفها منذ
تأسيس الدولة الحديثة فى مصر مع محمد على باشا. فعلى الصعيد الاجتماعى أدت
الأحوال الاقتصادية المتدهورة إلى تزايد الفوارق ومن ثم التصارع بين
الطبقات الأكثر غنى قليلة العدد والأكثر فقراً التى يتزايد عددها يومياً،
وبدت البلاد على حافة صراع اجتماعى خطير يمكن له أن يأتى على ما تبقى بها
من استقرار وأمن هزيلين.
وعلى الصعيد الجغرافى، أدت الأوضاع
الاقتصادية المختلفة لمناطق الجمهورية إلى وجود استجابات سياسية مختلفة
أيضاً تجاه الأحداث المتتابعة وأبرزها الانتخابات الرئاسية والاستفتاء على
الدستور، الأمر الذى أوجد فى مصر للمرة الأولى انقسامات بين أبنائها
ومحافظاتها فيما يخص الولاء أو المعارضة للنظام السياسى الحاكم، فراحوا
يتبادلون الاتهامات والشائعات والنكات من كل طرف تجاه الطرف الآخر، الأمر
الذى يهدد جدياً وحدة البلاد الجغرافية والاجتماعية. وبدأت الخطورة تتزايد
بالأوضاع التى تعرفها محافظة شمال سيناء والتى بدا أن قوى إسلامية متطرفة
آخذة فى السيطرة عليها وفصلها عن بقية البلاد دون أن تتحرك الدولة بصورة
جدية لوقفها. وزاد الأمر خطورة بما بدأ يجرى ويتطور بسرعة فى مدن القناة
وأبرزها بورسعيد التى أدت السياسة الحمقاء التى اتبعت تجاهها مؤخراً إلى
تحويلها إلى منطقة مستقلة عن سلطات الدولة المصرية.
ولم يقتصر الأمر على القوى الاجتماعية
والمناطق الجغرافية، بل امتد إلى القوى السياسية والحزبية، حيث نجحت سياسات
حكم الإخوان المسلمين فى شهوره الثمانية فى شقها بصورة عميقة يبدو أنه لا
لقاء بعدها بين قوى معارضة وأخرى موالية للإخوان. ولم تحاول الرئاسة ولا
مؤسسات الحكم الأخرى أن تسعى للم شمل هذه القوى التى زاد تصارعها وخلافها
بصورة غير مسبوقة، بل إنها تصرفت كطرف فى الأزمة مما فاقم منها وأبعد
كثيراً أى إمكانية للوصول لحلول وسط لها.
ولم يقتصر الأمر على الخلاف بين الرئاسة
والإخوان والقوى المعارضة الوطنية غير الإسلامية، بل إنها مدت الصراع إلى
داخل القوى الإسلامية نفسها، فرأينا ملامحه وشواهده الواضحة فى المواقف
المتتالية لحزب النور الرافضة لانفراد الإخوان بالهيمنة على الدولة
والاستيلاء على مفاصلها والمنضمة بفوارق ضئيلة لمواقف المعارضة الوطنية
تجاه حكم الرئيس مرسى والإخوان المسلمين. وهكذا تبدو الدولة المصرية ومعها
المجتمع كله وقواه السياسية اليوم فى حالة من التفكك والصراع غير مسبوقة فى
التاريخ المصرى الحديث، بما يجعل كل الأبواب مفتوحة لكل الاحتمالات التى
ترد على ذهن أى مواطن بسيط، بما فيها تلك التى كان البعض يراها قبل شهور
ثمانية مرفوضة أو خيالية، فالوضع الحالى لمصر بات يحتمل كل خيال أيا كان
جموحه
عن جريدة المصري اليوم .