الخميس، أكتوبر 27، 2016

نظرة على فيلم : الخطايا بعد نصف قرن بقلم يسري حسين في مختارات سينما إيزيس

مختارات سينما إيزيس
زاوية ننشر فيها مايعجبنا ويحفز على التأمل والتفكير



لقطة من فيلم الخطايا بطولة نادية لطفي وعبد الحليم حافظ واخراج حسن الإمام


نظرة على فيلم 

" الخطايا"  بعد نصف قرن

بقلم
يسري حسين

جمع المخرج حسن الإمام في فيلم ( الخطايا) بين اُسلوب حكايات الميلودراما التي يعشقها ،وحكاية حب بين فتى وفتاة في مصر الستينيات ،فلم يحتاج لمناظر للصالات ليلية ،ولا رقص وغناء على المسرح ،وإنما توجه بالكاميرا نحو كلية الهندسة ودخل عنابر وأقسام تدريب الطلاب أمام ماكينات .
تلك اللقطات تشير لمصر أخرى في هذا الزمن تتخلص من إرث قديم ،ظهر في أفلام الأربعينات وتجلى بشكل خاص في سينما حسن الإمام ،عن الفتاة المصرية الفقيرة الباكية من ظلم المجتمع والناس ،وتبحث عن منقذ ،اذ لا تستطيع مساعدة نفسها ،لأنها فقيرة وغير متعلمة .
في ( الخطايا) الفتاة ابنة لثري اصوله ريفية ،لكنه متمدن ودفع بأبنته للجامعة وكلية الهندسة للتعلم وتقف أمام الماكينة داخل عنابر التدريب بالجامعة ،في تطور مذهل للقفز الإجتماعي ،من فيلم زينب القروية الضعيفة والمريضة إلى سهير في فيلم الإمام طالبة الهندسة والتي يشجعها والدها على الأختلاط والذهاب للبحر الأحمر ضمن رحلة الكلية لزيارة المصانع هناك.
نادية لطفي ،هنا مثال الفتاة الجديدة بنت الستينيات ،الجميلة بنقاء وعلم وثقة وقدرة على الإختيار وتحديد المصير ،تذهب للكلية وتدخل منافسة لدخول اتحاد الطلاب وتشارك في نشاط ،وتلتقي بزميل تحبه وتتزوج منه ولا تنظر لأعتبارات طبقية اذ أنه متعلم مثلها ،لأن العلم يذوب الطبقات.
هذا الخط الدرامي هو الأجمل اما قصة خطأ الأم فيعود لتشبع المخرج بحكايات على هذا النحو ،لا يتفاعل مع آخر عصري تمثله حكاية حب جميلة عبرت عنها الأغاني التي وضعها الإمام في إطار جذاب تخرج عن التقليدي الذي شاع في افلام غنائية سابقة.
اغاني الفيلم تمثل قمة إبداع الأغنية المصرية من الحان وكلمات ويجمعها توزيع ألفنان علي إسماعيل بأسلوبه في فهم التعبير الموسيقي وروح اللحن واستخدام آلات جيدة في ترجمة الكلمة الموسيقية ونشر اللمسات التي تجسد حروف الجمل .
التقى هنا منير مراد مع كمال الطويل ومحمد الموجي وعبد الوهاب في لقاء خاص جداً مع توزيع علي إسماعيل ببث البهجة ،وكأن اللحن يطير في هواء الشجن مثلما حدث مع ( الحلوة) حيث تعانق الكلمات كون الجمال وتفرز الزهور رحيق العشق والهيام.
عندما تسمع تلك الأغاني ترى مصر ،وهي تغني للحب ،هذا قبل عصر برهامي وفتاوى الذبح والرجم وخصام الأقباط.





هذا الفيلم عندما تجرده من خطيئة وصراع حولها ترى الجمال حاضرا في الألحان والكلمات ووجه نادية لطفي بجمال الستينينات وحضورها المدهش بأناقة الطبقة الوسطى التي اختفت ليحل بدلا منها ملابس سوداء تعبر عن كراهية الجمال والألوان والحياة ذاتها.
اتذكر ذهابي لسينما ( ديانا) لمشاهدة الفيلم مع صديق مغرم لحد الجنون بعبد الحليم حافظ ،لا زلت أتذكره اسمه يحي حافظ ،زميلي عامل المطبعة الذي يسكن مع امه المطلقة بمساكن عين الصيرة.
قريب لي منحني تذكرين حصل عليهما من صاحب السينما ،فذهبت مع زميلي حيث شاهد الفيلم بنشوة غريبة وتجاهل حكاية الخطيئة وركز على وجه نادية لطفي الذي يبث الأمل والأشراق.
خرجنا من دار السينما في حالة سكر بسبب الغناء والجمال ،وبعد نصف قرن أعدت مشاهدة الفيلم بغرفتي في لندن ،فوجدت دموعي تنهمر على صورة اختفت من المشهد وأطل برهامي بفتاوى ينصت لها المصريون تحرّضهم عَل الكراهية وتحذرهم من نيران ستلتهم اجسادهم اذا استمعوا لغناء أو طارت ارواحهم في فضاء جمال الفن وصوره.
في ( الخطايا) يشجع الأب ( فاخر فاخر) ابنته على العلم والعمل والأختلاط ،في عصر مختلف توارى ،وجاء آخر متجهم وغليظ القلب يحرض على القتل والكراهية .
تتألق في الفيلم مواهب التمثيل والإخراج والتصوير ومناظر شادي عبد السلام في عصر الفن المصري بتألق رؤيته وتعبيره عن جيل مختلف ،حاصرته الهزائم وحملات التشويه ودفعته بدلا من البناء والغناء تدمير الأوطان بحجة تطبيق الشرع ،وكأنه يعنى الإبادة للشعوب وتمزيقها بخلافات حادة في تفسير النصوص ،مع أن جوهر الإيمان سلامة القلوب ومحبة الآخرين وإعمار الأرض.
( الخطايا) عرض في مارس ١٩٦٢ ،وقد شاهدته في سينما( ديانا) لكني تابعته بعد ذلك في سينمات الدرجة الثالثة بنفس الحب والعشق لموسيقى وغناء وتمثيل ،وبعد نصف قرن شاهدته في لندن فتفجرت انهار الذكريات والصور عن وطن شاهدنا في قمة جماله. الذي توحد مع وجه نادية لطفي ، والآن نرى هذا الوجه إصابته أمراض الشيخوخة والجهل والمرض والتخلف ممثلة في وجه برهامي الذي يزعج الحياة بفتاوى تحرض على كراهية الكون وجمال الخلق الإلهي العظيم.





ليست هناك تعليقات: