نظرة علي فيلم
هي فوضي
بقلم
هشام لاشين
مظاهرات وديسكو وتطرف واغتصاب وحلقه ذكر اقرب للزار .. فساد وتستر وسلخانات تعذيب داخل أقسام الشرطة .. فوضي وعفن وصراع مكتوم من اجل تغيير واقع مزري يشكل ملامحه حزب حاكم ورموز غاشم فاسدة .. تلك ابرز مفردات اخر أفلام المخرج العجوز الشاب يوسف شاهين (هي فوضي) قبل ان تصر الاجهزه الرقابية في مصر علي أضافه علامة استفهام بعد العنوان ليصبح المعني منفيا بدلا من ان يكون مثبتا ومؤكدا ولكن الجمهور بعد دخول الفيلم ورغم حذف مشاهد وعبارات أخري رأت الرقابة أنها تحرض علي الثورة لايشعر بعلامة الاستفهام بل يصبح متأكدا من حقيقة واحده وهي ان حجم الفوضى والفساد قد وصل الي قمته وانه أمام فيلم تحريضي من الدرجة الأولي رغم خطأه الكبير في تحويل رمز السلطة الي مجرد مريض نفسي أو مهووس يقترب بدرجه ما من شخصيه (قناوي) الشهيرة والتي قدمها يوسف شاهين في بداياته في تحفته (باب الحديد) .
وفيلم (هي فوضي) الذي كتب له السيناريو والحوار (ناصر عبد الرحمن) هو الاجرأ في تاريخ السينما المصرية السياسية والاجتماعية المعاصرة فبعد تواري جيل الثمانينيات من مخرجي موجه الواقعية الجديدة في مصر ظهرت سينما تهرب من النقد الي الضحك والجنس والتهريج حتى النخاع وكانت تظهر محاولات طفيفة هنا أو هناك لذر الرماد في العيون لكن الرقابة برئاسة رجل يقول عن نفسه انه مستنير هو علي ابو شادي كانت لهذه المحاولات بالمرصاد كما حدث مع فيلم (ظاظا رئيس جمهوريه) وأمام إصرار وقوه يوسف شاهين تراجعت الرقابة هذه المرة عده خطوات ربما مضطرة واكتفت ببعض المشاهد وعلامة استفهام ساذجة لم تفلح في محو رسالة فيلم تحريضي يقدم فاصلا طويلا ومرعبا مما يحدث في مصر الآن.
في فيلم شاهين يعود مخرجنا الي عالمه الأثير في الشارع وبين الناس أو الجموع كما يحب ان يطلق عليهم .. انه يتجاوز مرحله السيرة الذاتية التي سرقته بعيدا لسنوات ليعود الي منطقته ( الأرض والعصفور والاختيار وعوده الابن الضال وباب الحديد) انه يقدم شهادته علي العصر بالطريقة المحببة له ولنا ففي أول مشاهد الفيلم وعبر استهلالات عديدة يختلط فيها التسجيلي بالدرامي سوف نري واحده من اصخب وأروع المشاهد المصورة لمظاهرات الكتل البشرية التي يحاصرها الأمن وتطيح بها قوات الأمن المركزي ويختلط فيها الحابل بالنابل لتصبح الفوضى هي العنوان والمستهل قبل ان يختم بها نفسها فيلمه حين تندفع الجموع الهادرة نحو قسم الشرطة التي شهد كل التجاوزات لتقذفه بالحجارة ولتصبح هي المطاردة لأمين الشرطة والذين يحمونه بدلا من ان تكون هي المطاردة المنسحقه تحت أقدام وبيادات جنود الأمن المركزي .. انه الحلم أو الأمل الذي طالما حلم به شاهين وغيره رغم انه لم يتحقق يوما ( ثوره الجموع بهدف التغيير).
والفيلم يحكي عن (حاتم) أمين الشرطة بقسم شبرا ( واختيار القسم هنا اختيارا جغرافيا مقصودا حيث كان هذا المكان قصرا للأمير عمر طوسون في عصر ماقبل الفوضى) وهو يقطن في حي شعبي وجار( لنور) الحسناء ابنه بهيه وهي شابه تعمل بالتدريس في مدرسه ناظرتها هي وداد أم وكيل النيابة الشاب التي تهواه نور ويدعي شريف .. ويستعرض الفيلم فساد أمين الشرطة المحمي بمأمور القسم المهزوز نسبيا والمرتبك مع عدم تقدير واضح لحجم المسئولية وحاتم الأقرب الي (حاكم بأمره) في دوله الفوضى يفعل كل أنواع التجاوزات وفي وضح النهار بدءا من التنكيل بالمعتقلين السياسيين ونصب سلخانات التعذيب الجماعي لهم وانتهاءا بالرشوة والابتزاز قبل ان يضيف السيناريو بعدا نفسيا للشخصية الأقرب للسيكوباتيه حيث يتلذذ بالتعذيب وفرض نفوذه بأي ثمن حتى يصل للذروة مع قيامه باغتصاب نور التي أحبها بطريقته الخاصة وحاول بذلك ان يستولي عليها من وكيل النيابة الشاب وهو يضطر للانتحار في النهاية بعد حصار القسم والجماهير وتضييق الخناق حول جرائمه .. وفي سياق هذه الحكاية تتجلي الفوضى ويبدو النقد مباشرا كما في توجيه النقد لنظام التعليم وللخوف المتربع داخل الناس من أي رمز للشرطة دون اعتراض علي تجاوزاته وابتزازه لهم معظم الوقت وينتقد الفيلم أيضا ثقافة الدجل والشعوذة وكذلك الجهل وسيطرة الحزب الوطني .. ولكن يقدم في المقابل رموزا نمطيه علي طريقه (بهية) التي هي مصر التي تقاوم وتحرض وتتصدي ونور هي الاخري امتدادا لشخصيه ماجدة الرومي في عوده الابن الضال وشريف هو وكيل النيابة الشريف الذي يتصدي لفساد حاتم وان كانت المواجهة هنا تذكرنا بمواجهه ليست ببعيدة حدثت مؤخرا بين الشرطة والنيابة اثناء ضرب احد القضاة والتحرش به ولازالت تداعيات هذا النوع من المواجهه غير المعلنة بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية تلقي بظلالها علي الإحداث في مصر المعاصرة .
علي جانب اخر تفرض المباشرة والصخب نفسه علي معظم مشاهد الفيلم وهو الأسلوب الذي يتبناه المخرج خالد يوسف والذي وضع شاهين اسمه بجواره علي الفيلم ليؤكد علي دوره خصوصا وان شاهين مريض وكبير السن فالنبرة الصاخبة والإفراط في مشاهد من نوعيه وجود لافته المعارض الناصري (حمدين صباحي) في الخلفية أو مشهد رمز الإخوان الذي يتحدث بالفصحى وحتى مشاهد العاهرات في السجن وحمص الشام علي كورنيش النيل كلها كلاشيهات لخالد وان كانت بعيده عن أسلوب يوسف الأكثر نعومه وفنا .. ربما لهذا السبب يصبح هي فوضي مزيجا بين اسلوبين الأول يميل للرمز والفن الساحر الغامض أحيانا والثاني أكثر شعبيه وبساطه وربما فجاجه .. ولكنه علي أي حال ليس خليطا منفرا أو رديئا فأن كانت الجرأة تكفيه فهناك أيضا أضاءه رمسيس مرزوق صاحب المعالجة البصرية البسيطة والواقعية المتناغمة مع أحداث الفيلم مع تمييز أضاءه شقه حاتم المرتبطة بقتامته النفسية كما لانلحظ أي فرق بين التسجيلي والمصور للفيلم في مشاهد المظاهرات وديكور حامد حمدان مناسب لأجواء العمل وموسيقي ياسر عبد الرحمن مكرره ولكنها مناسبة وأداء الممثلين في أفضل صوره خصوصا خالد صالح ذلك الممثل الداهية والذي صار نجما وغول تمثيل لهذا العصر بكل المقاييس خصوصا مع شخصيه مركبه وصعبه بحجم (حاتم) كذلك منه شلبي التي تتطور يوما بعد يوم وهاله صدقي التي ارتبطت بابنها بمشاعر يختلط فيها الاوديبيه بالامتلاك والارتباط النفسي المركب كذلك احمد فؤاد سليم وعمرو عبد الجليل يوسف الشريف وكيل النيابة المأزوم مع امرأة متحررة ثم تحوله تجاه نور بعد فقد الجنين وممثل المواجهة بين العدالة والقانون ثم المونتاج الذي تدفق في النصف الأول ثم ترهل في المنتصف وعاود تدفقه في النهاية .. باختصار نحن بصدد فيلم جريء في زمن ولت فيه السينما الجريئة حتى وان شابه بعض القصور الفني والصخب الزائد فهو في النهاية شهادة علي عصر الفوضى .. فإذا شاهدت مظاهرات متقنه ورقصه محبوكة في صالة ديسكو أو علي كوبري في باريس أو حتى القناطر .. إذا شاهدت جموعا هادرة وانين المهزومين وصرخة تطالب بالتغيير فتأكد انك أمام فيلما ليوسف شاهين حتى وان بدت بعض التهتهه في الحوار أو الرؤية أو انضم مخرج اخر مثل خالد يوسف .