مختارات سينما إيزيس
الروائي المصري الكبير الشاعر محمد ناجي صاحب " خافية قمر " و " قيس ونيللي " و " مقامات عربية "
هؤلاء الذين هم محمد ناجي
سهام بيومي *
محمد ناجي ظاهرة إبداعية وإنسانية فريدة.. الذين عرفوه من
قرب يدركون كيف كان مبدعاً في الحياة كما في الكتابة والمعرفة، ولا يمكن فصل الجانب
الإنساني فيه عن الجانب الإبداعي. عاش تجارب كثيرة صعبة وقاسية، منها تجربة المرض على
مدى عشرين عاماً، ولعل أكثرها قسوة السنوات الأخيرة التى أمضاها في باريس، حيث المرض
والغربة والوحدة وهو الذي يتنفس الناسَ ولا يستطيع الحياه من دونهم.. الأصدقاء والأهل
والزملاء والمعارف.
في باريس أحاطته وجوه أليفة محبة، ووجوه قتَلة، غادرة متربصة،
لم يترددوا حتى في سرقة أشيائه الشخصية، ملابسه والتحف التي اقتناها وأوراق الإقامة
والعلاج والنقود، فضلاً عمن أزهقوه باستجواباتهم، وكانت كتاباته وإبداعاته هي كل ما
يعنيه ويحرص عليه كل مرة.. هؤلاء القتَلة الأغبياء لم يدركوا أنه مريض استثنائي، فقد
ظل حتى آخر لحظة يتمتع بذاكرته القوية، وعقله المنظم والمرتب. وحتى في آخر مكالمة معه
عندما أفاق لبعض الوقت من الغيبوبة قبل نقله إلى المستشفى كان يقظاً ومنتبهاً، ولم
ينسَ بعض الملاحظات رغم قصر المكالمه. وكان يكلم أصدقاءه رغم ضيق الوقت أيضاً قبل دخوله
غرفة العمليات.
أصيب بغيبوبة في الجبهة أثناء حرب الاستنزاف إثر انفجار،
وأصيب في ساقه، واستُشهد زملاء له، ظن زملاؤه أنه استُشهد وحملوا متعلقاته الشخصية
إلى أهله، فأعلنوا الحداد، ثم فوجئوا بعودته بعد أكثر من شهر.
يقول في «تسابيح النسيان»:
«ذلك..
الذي اختصر عمره
في صرخة مدوية
استمدّ منها الشجاعة
وهو يدوس حقل الألغام
ويترقب أشلاءه بآخر نظرة
كنت في الصفوف الخلفية
أعدّل وضع خوذتي
وأمنّي نفسي بالفداء
وهو ابتلع العالم بصرخة
(ذهب ولم يعد)».
كان مفعماً بالحياة، وتحولت معاناة المرض لدى محمد ناجي إلى
معاناة إبداع وتأمل في الحياه والوجود ككل.. كانت الكتابة هي فعل الحياة نفسها والاستمرارية
في الوجود، وكلما اشتد المرض يسابق الوقتَ بفيض من الكتابة العميقة رغم تباريح الألم
في السنوات الأخيرة، فكانت «تسابيح النسيان»، و»ذاكرة النسيان»، و»قيس ونيللي» التي
صدرت عقب وفاته، و»سيدة الماسينجر»، و»سيد الوداع»، و»البوليتيكي»، ثم مذكراته الشخصية
في حوالي ستمائة صفحة وتتضمن فترة حرب الاستنزاف. هذا فضلا عن نصوص تمثل مشاريع أو
بدايات لأعمال.
لقد دفعته تجربة المرض الطويلة باتجاه الحياة والانغماس فيها
بعمق، وإشاعة جو من البهجة بين أصدقائه واكتساب أصدقاء جدد من أجيال مختلفة حتى آخر
لحظة أثناء زيارته الأخيرة للقاهرة.
لقد أغنى محمد ناجي الجوانب المعرفية بكل ما يثير اهتماماته
-وما أكثرها- وحتى التحف والأنتيكات والتماثيل التي كان يقتنيها، لم تكن مجرد أشياء
للزينة والاقتناء، يتحدث عنها وعن الجوانب الفنية ومغزاها وأصولها، كذلك الأحجار الكريمة
وغيرها من الأحجار، يعرف كيف يميزها ومدى جودتها ومكوناتها وتأثيرها النفسي، وخواصها
في العلاج، حتى إنه في المرات التي كنا نصطحبه إلى خان الخليلي بالقاهرة، كنا نرى مدى
العلاقة العميقة التي تربطه ببعض تجار الأحجار، وكانوا يستشيرونه أحياناً، أما من لا
يعرفونه منهم فيظنونه تاجرَ أحجار.
«كيف تستطيع في هذا الضيق
أن تنبض بكل تك المعارف
أن تقود بهجة الفلك
من خلف قضبان ضلوعك».
التحق بعد فترة التجنيد بوكالة أنباء الشرق الأوسط، ثم سافر
إلى الإمارات وساهم في تأسيس وكالة أنباء الإمارات، وبعض الصحف في الخليج، كما أشرف
على القسم الثقافي بوكالة رويترز في القاهرة، وساهم في تأسيس صحيفة «العالم اليوم»،
وتولى العمل مديراً لتحريرها. كان يتابع الأحداث والأخبار بدأب، ويضعها في سياقها،
وظل هكذا أثناء وجوده في باريس، حتى إننا أثناء مكالماته نعرف منه ما غاب عنا من أخبار
وأحداث ونستمع إلى تحليلاته العميقة وأحياناً نبؤاته.
كان يهتم بالجوانب الروحية وطاقة الروح والجسد، وله قراءات
عميقة في الصوفية والديانات الهندية القديمة، يستفيد منها في تنمية القدرة على التأمل
وشحن طاقته، وكان يرى العالم أرحب بكثير من عالم المريض الضيق، قال لي مرة: «هناك شخص
مريض اسمه محمد ناجي، ومحمد ناجي السليم يخدم عليه ويجيب طلباته ويواصل الحياه.. فن
الحياة».
لكن العلاقة بينهما لا تتوقف عند هذا الحد كقول الشاعر:
«وإذا كانت النفوس كباراً/ تعبت في مرادها الأجسام»..
«فبينما كان ينطلق في الحياة
كان المريض يتململ
صعب أن أنتظر طويلاً
فذلك الذي يتململ في جسدي
متأهباً الإذن بالانصراف
أصبح مذاقه في جسدى مراً وموجعاً
ذلك الذي استعارنى ليرى ويسمع
أضناني ليتذوق بي الدنيا
له المعرفة ولجسدي الهلاك».
وفي مقطع آخر من «ذاكرة النسيان»:
«لم تكن خطيئته أنه ذاق شجرة المعرفة
إذ لم يكن بحاجة إلى المعرفة
ولا أنه طمع في الخلود
إذ كان في حضرة الخلود فعلاً
خطيئته أنه تذوق نفسه
فاشتهى الحياة
لم يفطن إلى أن الحياة تقوده إلى الموت».
ويقول في موضع آخر:
«وما يزال يفر من موت إلى موت».
عايَشَ محمد ناجي المريضَ فيه كما عايَش أبطال رواياته ورصدهم
في الحياة.. يبكي إذا مات أحدهم.. بعدما انتهى من كتابة رواية «قيس ونيللي»، قرأ لي
الفصل الأخير وبكى عندما ماتت «نيللي»، كما بكى قبل ذلك عندما ماتت «نهرية» في «مقامات
عربية»، و»نازك» في «الأفندي». علّقت ابنته سارة على ذلك، وسألَتْه متعجبة: «وإيه يعني؟!»،
فقال لها: «هذه شخصيات خلقتُها من لحم ودم، فكيف تموت ولا أبكي عليها». تقول: «كنت
أتعجب من حالة النكد والحداد التي تصيبه على أبطال رواياته الذين يموتون.. الآن فهمت».
في زيارته الأخيرة بعد غيبة أكثر من ثلاث سنوات، كان يتحدث
عما سيفعله بعد عودته، ونحن نجلس في شقته، كان يقول: «سأغير فيها أشياء عندما أعود»،
بينما المريض كان يغافله، ليلقي نظرة وداع على المكان، ويهمس من خلفه: «جئت لأودّع
أصدقائي وأهلي، وكل الذين أعرفهم».
«تسابيح النسيان» و»ذاكرة النسيان» تجربة تأمل طويلة، الأولى كتبها
ونشرها قبيل سفره إلى باريس، والثانية كتبها خلال إقامته هناك، وما زالت تحت الطبع،
نصوص طليقة متحررة، بالغة الجمال والثراء، كلما أعدتُ قراءتها أكتشف رؤى جديدة ومغزى
أعمق، يتأمل في الوجود ككل، في الذات والماضي والحاضر والمستقبل، في الوجوه التي عرفها،
يستحضر حياته كلها من خلالها، بكل ما تفيض به من مشاعر.
«العيون التى اختزلت كل المدن والوجوه
وأعادت ترتيبها على نحوٍ تحبّه
كيف ستكون إطلاتها الأخيرة على الذاكرة؟!».
في تجربة التأمل الطويلة، كان ينسلخ عن الذات المنهكة، وينطلق
محلّقاً في فضاءات واسعة، ثم يرتدّ إلى الذات مشحوناً بالرؤى، ويتكرر ذلك وتتجمع الرؤى
متمثلة في شخوص تتزاحم داخله، كأنما يدلي كل منهم بشهادته.. كانت محاولاتهم تضنيه وتنهكه
أحياناً، لكنه كان يستعيدهم ثانيةً ليتوحد بهم ثانية، ويعيد ترتيب الأشياء على نحوٍ
يحبه.
في الجزء الذي يحمل عنوان «هؤلاء الذين أنا» في «تسابيح النسيان»
يقول:
«دعيني أحدّثك يا امرأة
عن هؤلاء الذين أنا
الآخرين الذين نموا داخلي خلسة
ويكاشفونني بوجودهم الآن
يتموجون في بقايا دمي
ويتبددون حين أتأملهم
أتوه عن نفسى بينهم
نطف لقطات عابرة
سكنتني خلسة
تكورت في خفاء الحلم
وتشعبت دون أن أدري».
يبدو أن هذه الرؤى كانت تربكه في البداية، لكنه ينجح في التعامل
معهم، يتوحد بهم، أي بالذات، ويتوحد من خلاهم بالعالم؛ بالتاريخ والماضى والحاضر والمستقبل،
كل منهم منشغل بجانب أو بأمر ما، وكلها تلتقي عند نقطة واحدة تتجمع فيها كل الموجودات
من خلال الذات.
كل الصور والمشاهد والكلمات هي رؤى وتأملات تربط الذات بالعالم
والكون، ليس لها وجود مستقل عنه، حتى الصور المتعددة والوجوه المختلفة للمرأة التي
أوردها والوجوه الأخرى، هي مرايا يعيد ترتب الأشياء من خلالها.
«أولئك الذين يشرئبون من عيوني
ليتأملوا بدموعهم
العالم الذى يخلو منهم
هل أستطيع أن أدعوهم إلى موكبي الأخير
فليرفرفوا فوق جثتي كبيارق مجدٍ
ولتدقّ الطبول أمامي عالياً
لتعلن أنهم كانوا هنا
(في القلب دائماً)
وليتقدمنى المنشدون بأهازيج تقول:
- ذهب ولم يعد».
* كاتبة مصرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق