الأربعاء، أكتوبر 05، 2016

روح خلية النحل: عن تلك الأساطير الضرورة التي تسكننا. بقلم حسناء رجب

فيلم

روح خلية النحل
THE SPIRIT OF BEEHIVE

عن تلك الأساطير الضرورة التي تسكننا
 
بقلم

حسناء رجب

فيلم "روح خلية النحل "
أحد أعمال المخرج الأسباني الأسباني( فيكتور ايريثه)انتاج 1971


"الشعب الذي لا أساطير له يموت من البرد " هذا ما كان يردده الشاعر الفرنسي "باتريس دولاتور دوبان "في عبارته الجميلة .. الطاقة التخيلية التي تكتنزها الأسطورة والتي من خلالها وعلي أساسها تشكلت أفكارنا حول العلاقات الإنسانية،الخير والشر.. مخزونا من الذكريات نحمله معنا منذ الطفولة حتي الكبر،من شأنها أن تطلق العنان للشغف والجموح الفطري وسعي الصغار في وضع أنفسهم نقطة اتصال بينهم وبين الأسطورة وهذه الشخصيات الخيالية، التي قد تتمثل في الغول أو الوحش والقوة الهائلة وغير ذلك،  تلعب دورا كبيرا في قدرتنا علي التخيل والتعاطف والتي تحدد من نحب ومن نكره وكيف ؟ فكل منا لديه كوكبة من القصص ترتبط بالخيال الأسطوري، تشمل برؤيتها قيما وعلاقات، فتعيد، علي طريقتها النظر في العالم، تكشف الرمز الذي يتواري في خلفية الأسطورة وسرد القصص وبذلك يتفتق المعني، فتظل الحياة أكثر إنسانية، ويظل الوجود تبعا لذلك، أكثر بهاء، ودفئا.
امتد ذلك في هيئة أفلام تقدم للصغار، تسليهم وتبهجهم ..وقد يندمج فيها الطفل وهو يسحب سهما من كنانتها فتؤثر عليه سلبا وتخترقه وتسيطر عليه .
وقديما قيل : الكتاب يقرأ من عنوانه ..والفيلم يقرأ أيضا من عنوانه  " روح خلية النحل" واحد من الأفلام الروائية  التي تقدم رؤية ثاقبة للريف الأسباني في الأربعينات من القرن الماضي، لقطات هذا الفيلم والتفاصيل الغنية ومساقط الضوءكافية لأن تجذب المشاهد وتأسره.مقطع من مسيرة الجنس البشري منذ ألوف السنين، وصولا إلي القائد " فرانكو" ضد حكم الجبهة الشعبية للديمقراطيين، هذا دون أن ننسي شموله لتلميحات ورموز مستقاة من جنون حقبة الحروب علي مر العصور، والذي لا يقل أهمية عن هذا كله، هو تميز هذا المخرج بأمرين أساسين، الظرف الذي لا يفارقه أبدا، أنه ولد في مطلع الأربعينات وعاش نفس الفترة، وقمع الفنانين كضحايا للحروب،والتي استطاع رغم وجوده التعبير عن أدق الحقائق وما جرته الحرب من دمار وموت للروح قبل الجسد..


الفيلم يقدم لنا حقائق نفسية واجتماعية وتاريخية في قرية إسبانية هادئة عقب انتصار فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، حقائق يصعب رسمها بهذه الدقة،شهادة حية علي حجم البؤس الذي تخلفه الحروب بشكل عام. إلا أن الفيلم يخلو تماما من أي أثر لمرتكبي الحروب ..وبدلا من ذلك فضل المخرج  التركيز علي صور الضحاياباهتة الملامح التي تجسد شخصيات وأحداثا متسقة مع الفترة وفية لروح الواقع، من خلال الأماكن والأشياء والحالات المزاجية والصراعات الكامنة في النفس عن وعي أو بدون وعي لإظهار إسبانيا جسد بلا روح .
"آنا وايزابيل" طفلتان لأسرة تعكس مأساة الحرب، والدهما شخصا منعزلا، نمي ميله إلي أن يرعي خلايا النحل التي تعمل بلا هوادة في توازن بالغ الدقة ،  سر من أسرار الكون والبقاء، وخالط فيه هذا الميل مزاجا زائدا ببناء نوافذ البيت بشكل يشبه الخلية السداسية العبقرية للنحل، مع قوة تصور طالما غالت في شحذ أوهامه وانطباعاته وأبحاثهلخلق روح الخلية أواكتشفاها،حتي ردته منظومة أخري تتحرك برتابة وبلا روح، بلغت من القوة حدا جعلت المخرج يظهره في مشهد للطفلة شاردة الذهن وهي تراقب النحل في عمله الكئيب، من شأنه التعاطي مع الرمز،وسرد قصة أعمق،عبر عنها وجدان ولا شعور الطفلة، والتأثير هنا في هذا المشهد له بناء عضوي مع الحياة اليومية في هذا البيت،حيث أن الزمن الممتد قليلا يسمح للمتفرج أن يتأمل بعمق تكوين داخل تكوين بل خلية داخل خلية ،رؤية صغيرة إلي رؤية أعم وأكبر، أم أنه العكس ؟ طفلة في قوالب شمعية التي ابتدعها والدها، ذلك التكوين البصري في عالم الصورة والذي يبهر العين ويجذبها نابع من الإحساس بالسيمترية .أما والدتهما تقضي أوقات فراغها في كتابة رسائل الفقدان والحبلشخص مجهول لا تراه ..جعل رمزا لبطل لم ينج من تأثير الحرب عليه ولا الجروح العميقة التي خلفتها الحرب الأهلية في أرواح النساء.    
الموضوعات المعقدة التي يقدمها  الفيلم تثير انطباعا مختلفا لدي المشاهد، حركة الكاميرا من الكل إلي الجزء ومن الجزء إلي الكل إنها في العادة  تأخذك إلي عالم خاص تقوم فيه بالتفكير العميق  والتأمل والتذكر والتخيل .. وبينما تفعل ذلك ..يكون بما يكفي لاشباع حلم يقظتك ..تفاصيل هذا المشهد نجده لحظة تأمل الفتاتين لمبني مهجور بعيد، لإصرارهما علي معرفة مصير وحش فرانكشتاين والتي ثير درجة من التعاطف لأنه أداة وضحية "فرانكنشتاين" الفيلم الذي اجتمع جمهور من الأطفال لمشاهدته في قريتهما .. والذي يستحوذ علي آنا تورنت، التي تعتمد علي اختها الكبيرة في فض وتفسير ألغازها الغامضة،لتسأل إيزابيل عن السبب الذي جعل المخلوق يقتل. أخبرتها أختها أنه لم يقتل لأنه روح والروح لا يمكن قتلها ..ويمكنها التحدث إليهإذا كانت صديقته،عندها تلحظ العين حظيرة بعيدةفقدت نوافذها وأبوابهاوسط حقول الطين الجرداء في مكان خاليمثل رمزاللهجر، أو الهروب لشيء ما ، أو متعة التلصص علي شيء يتم فيه انتهاك ما هو معتاد. إن المتفرج يشاهد طفلتين تمارسان أفعال الاستكشاف، الشغف والفضول والقصص التي تتضمن أشياء مبهمة ذات عواقب وخيمة أحيانا، إنها مادة تشويق تتملق المتعة الموجودة بشكل خاص في روح المخرج، التفاصيل الصغيرة العابرة التي تشكلت بها طفولتنا، عندئذ يعيش المتفرج وجود كيان إنساني متكامل وهو تلك الطفلةالمهتمة المراقبة الذي تري كل شيء بحواسها والمحاطة بتيار متدفق دائما من التساؤل والحيرة والأحداث ." ففي المدرسة تعرض لها مدرستها مجسما لرجل يدعي دون خوسيه ، هيكله ينقصه الكثير ..يمنحه الأطفال كل ما ينقصه من أعضاء ..لكن المعلمة بعد كل ذلك تخبرهم أنه ما زال بحاجة لشيء مهم جدا، عيناه. مرة أخري يستخدم المخرج إيحاءات عن طريق الربط بين الروح والعين كأيقونة يري بها الوجود ومنفذ للروح ، وأنت بالفعل كمشاهد تعيش تجربتهالمجرد أنك تنشغل لتراقب نفس العين في المجسم لتسكن شخصية الطفلة تماما، ارتعاشة الضوء في عينيها.
استطاع المخرج ببراعة أن يظهره باختياره الطفلة "آنا تورتت" التي تكشف بتلقائية كاملة عن براءة الطفولة التي تشع من عيونها الواسعة وهي تتبادل الكلمات القليلة مع أختها التي تكبرها ، تساؤلاتها الحقيقية وانبهارها وصمتها ، ملامحها عندما تكتشف أن ساعة والدها كانت في السترة التي أهدتها للرجل المصاب في البيت المهجور موقفا يمثل خطرا عليها وعلي والدها .. يحمل الشغف والاثارة والذكاء بل ورؤية المخرج العميقة لجماليات عالم الطفولة الارتجالي لسلوك الأطفال والذي يمكن أن يمزقه الأرق، بحيث يصبح الليل سيئا وحافل بالسهاد مليء بالمشاكل المنتظرة،  والتي امتدت ونجحت في روح وأداء الطفلة الصغيرة " آنا " وردود الفعل المعقدة أحيانا ذات الإيقاع الدرامي الانساني .الصمت، والتركيز، والاسترخاء، لغة العين، أداة لاحتلال المساحة النفسية،والسحر البصري، والهروب من الحياة اليومية في شكل أحلام مستحوذة والانحراف البريء عنالحياة الواقعية،يسير معا جنبا إلي جنب ما لا يمكن وصفه إلا واحدا من أصدق أداء الطفلة علي الإطلاق التي عزفتها بصدق وبطريقة ما،ليحقق الفيلم هويته والتي تمنحنا مذاق الذكري والماضي من خلال الأداء الممتع المتدفق للطفلة.  
الفيلم هو أكثر الأمثلة ثراء بألوانه الذهبية والترابية ، والبنية الداكنة كما خلايا النحل تماما، وأيضا يذكرنا بمدرسة تاركوفسكي المخرج السوفيتي العظيم،باعتبار أفلامه التي كثيرا في صورها ما تشبه لوحات فنان تشكيلي قديم عظيم، مهووس بجنون الفن، ومن ثمالعثور عليك داخل اللوحة.
 الكدرات تلعب دورا كبيرا في تصميم وإضاءة الفيلم، يحكي قصته من خلال الصورة والسلوك وحركة الكاميرا أكثر من الحوار كما لو كان فيلما صامتا ذي عناصر بصرية قوية أخذ من الواقع رتوش الحرب واتكأ علي إحساسهالنفسي بالإنسان والمكان معا، كما أن الآلة التي باتت تحرر الوقت الذي يفترض أن يصرفه الانسان بالتمتع بالحياة تحولت إلي شيئ مبهم يزيد من اضطراب وضحايا البشر إبان الحروب.
وفي النهاية أستطيع أن أقول إن صراع الإنسان ضد الوحوش يرمز في الانسان إلي صراعه هو، الحوافز الخيرة منهاوالشريرةالتي تلاحق خفايا الشعور والرغبات والأزمات، هو ضمن هذه الرؤية العميقة الثاقبة لصناع الفيلم .
                                                                                                                حسناء رجب

 

ليست هناك تعليقات: