الجمعة، يوليو 17، 2015

المرأة العربية والفن التشكيلي بقلم سمير غريب

مختارات سينما إيزيس

المرأة العربية والفن التشكيلي
لوحة للفنانة وسام فهمي

بقلم


سمير غريب


دعتني أحداث متعلقة بفنانات تشكيليات عربيات أخيراً إلى التفكير في علاقة المرأة العربية بالفنون التشكيلية، أو إعادة التفكير فيها. علاقة العرب بالفنون التشكيلية علاقة حديثة تعود إلى بدايات القرن الماضي فقط، فما بالك بعلاقة المرأة العربية بها؟ في أقدم الدول العربية في الفن الحديث وهي مصر، بدأت خطى المرأة في الفن في الربع الثاني من القرن العشرين. ظلت هذه الخطى تتسارع ببطء حتى بداية القرن الحالي حين بدأت هذه العلاقة ثورة في كم الفنانات العربيات، وارتفاع مستوى إبداعهن حتى وصلت إلى مشاركتهن في التظاهرات الدولية في الفنون مثل بيناليهات فينسيا وساوباولو والشارقة ومعرض دوكيومينتا في ألمانيا، هذا عدا المعارض الجماعية والخاصة لهن داخل وخارج العالم العربي. هذه الثورة الصامتة التي أتابع خطواتها عاماً بعد عام تعكس التطورات السياسية/ الاجتماعية التي يمر بها العالم العربي، بما في ذلك ما سميت ثورات الربيع المأساوية وتبعاتها. أثر الاستقطاب بين التيارات الدينية المحافظة وبين التيارات الليبرالية إيجاباً في هذه الثورة، فقد أعلنت الفنانات عن «سفورهن» الفني وتحملهن مسؤولية ذلك. ما أدى إلى انتشار حركتهن واستقلاليتها وتخففها من الضغوط الاجتماعية، وتزايد جمهورهن ومقتني أعمالهن. هي، الثورة النسائية الفنية الصامتة، في الوقت ذاته تطرح كثير من الأسئلة أو تعيد طرحها بغية إجابات جديدة منها: هل يمكن التمييز بين إبداع المرأة وإبداع الرجل عموماً؟ هل للاختلاف الجنسي والأوضاع الاجتماعية علاقة بهذا التمايز؟ هل رؤية المرأة لموضوع الإبداع وتعبيرها عنه تختلف عن رؤية الرجل وتعبيره؟ هل هناك سمات مشتركة لإبداع المرأة؟ فيمكن إطلاق مصطلح «نسوي» على عمل فني؟ في المقابل هل هناك فن «ذكوري»؟ هل نسبة الجنس إلى الفن تنتقص منه؟ أسئلة قديمة تتجدد وتحتاج إلى مزيد من التأمل، مع ندرة الدراسات التأريخية والنقدية في هذا الموضوع عندنا. وفي غيبة معارض نوعية كبرى تعطي صورة بانورامية لإبداع المرأة العربية في فترة زمنية معينة، مثل المعرض الذي نظمه متحف «برادو» في مدريد العام الماضي عن المبدعات من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين. عندنا سيكون الأمر أسهل بكثير نظراً لحداثة تاريخ المرأة العربية في الفنون التشكيلية. وأتمنى رسم لوحة عامة عن إبداع المرأة العربية في الفنون التشكيلية، تضم الفنانات المهاجرات مثل منى حاطوم وغادة عامر، والمقيمات في بلادهن، والبين بين.
أما الأحداث التي دعتني لفتح هذا الموضوع فهي: 1- صدور الكتاب التذكاري «الشرق الفنان» عن المصورة المصرية وسام فهمي المولودة عام 1937. يتضمن مراحل من أعمالها منذ التحقت في معهد ليوناردو دافنشي في القاهرة عام 1963 وحتى العام الماضي. المدهش في أعمالها كلها هو ذلك التناقض بين حرفيتها الأكاديمية المتمكنة في رسوم وصور الأشخاص، وفطريتها في بقية الصور. فصور الأشخاص ملتزمة القواعد الأكاديمية وفيها قدرة تعبيرية عالية نابعة من اختيار الشخصيات المرسومة أولاً والتي تتيح لها تعبيراً قوياً في ملامح الوجه ونظرة العين. وهي تستكمل قوة التعبير من وضع الجسد ومن الخلفية المميزة لكل صورة شخصية. أما بقية لوحاتها فهي لوحات أماكن وكلها في الشرق. فهي فنانة مفكرة متأملة. شدها الشرق بـ «إنسانيته وفلسفاته وتاريخه الحضاري فكان هو النبع الذي لا يفنى» كما كتبت في مقدمة كتابها. فجالت في بلاد شرقية متأملة ومصورة. بدأت ببلدها مصر بالطبع لكنها اختارت مصر القديمة الفرعونية والإسلامية. ثم جالت في تونس والأندلس والمغرب والبوسنة والهرسك وتركيا وأخيراً الهند. في لوحاتها الشرقية حس ساذج وحر بلا اعتبار لمنظور وبألوان قوية صريحة من ألوان الطبيعة. ألوان ساخنة يهدئها اللون الأبيض الموجود في مكان ما في كل لوحة تقريباً. ويتميز تصويرها للمكان أيضاً بتوزيع المساحة على كتل متجاورة ومتداخلة مع اختيار رمز مميز لكل مكان دال عليه يدخل في نسيج العمل. كل هذه العناصر تشكل سمات لوحة وسام فهمي وتميزها. فهل تبدع فناً أنثوياً؟
2- على شاشة بي بي سي العربية ظهرت دوريس بيطار. هي نموذج مختلف فنياً وشخصياً عن وسام فهمي، لكن يجمعهما الانتماء للشرق العربي والتعبير عنه في إبداعهما واهتمامهما بتمازج الثقافات. الاختلاف الأساسي بينهما أن دوريس متعددة الأصول والخبرات والثقافات. فهي ولدت في العراق لأبوين لبنانيين عادا إلى لبنان بعد عام من ولادة دوريس. وقبيل الحرب الأهلية اللبنانية هاجروا إلى الولايات المتحدة حيث حصلت على بكالوريوس في الفنون عام 1981 واستقرت هناك. مع ذلك بدأت هويتها العربية تكشف عن نفسها وتؤثر في فنها كلما وقع حدث مهم في المنطقة العربية. الأحداث تتوالى معها بلا هوادة بدءاً بالحرب الأهلية اللبنانية. لم تكتف دوريس بالتعبير الفني، بل تشارك في منظمات ونشاطات مدافعة عن حقوق الإنسان والجالية العربية في أميركا.
الاختلاف الثاني أن دوريس متعددة الوسائط الفنية، فهي تصور وترسم وتقوم بأعمال التجهيز أو التركيب في الفراغ وتصور فوتوغرافيا. الماضي والحاضر العربي حاضران في معظم أعمالها فكراً وشكلاً. مثلما فعلت في عملها التركيبي المتداخل الضخم المسمى «رنات طرب» الذي عرضته في برلين واخترعت فيه آلة بسيطة تصدر موسيقى تتداخل في العمل، وعملها التركيبي الآخر الضخم «قصة الصابون» الذي عرضته في مدينة رافنا بإيطاليا عام 2008، واستوردت له 1100 قطعة صابون أبيض وأخضر خصيصاً من شمال لبنان. هو بالطبع لا يحكي أي قصة إنما تركيب فني لقطع الصابون على الأرض. تقوم في هذه الأعمال بدور الحرفي أو عامل الحرف اليدوية في تنفيذ ما تبدعه وتصممه من أفكار. أما في بينالي الشارقة عام 2009 فعرضت «حكاية صياد اللؤلؤ». وهي أيضا حكاية لا تحكى، وإنما تدخلنا برهافة إلى البحر، الذي نراه في شريط فيديو عبر حاجز من الأرابسك. من لوحاتها «عروس بغدادية» وليست فيها أي عروس، إنما هي طبقات ملونة ناعمة من نسيج أرابسكي بخامة الزيت على كتان. إذاً الإيحاء هو الأهم والرقة هي السائدة والشغل اليدوي واضح عند دوريس بيطار رغم ضخامة الأعمال أحياناً. أفلهذا يمكن القول إنها تبدع فناً أنثوياً؟
3- فوجئت بحجم المعارض التي شاركت فيها فنانات سعوديات أخيراً. وفوجئت بحجم التميز في أعمال عدد كبير منهن. أسماء مثل جوهرة آل سعود ومنال الدويان والشقيقتين رجاء وشادية عالم اللتين شاركتا في بينالي فينيسيا الدولي عام 2011 في أول تواجد لاسم المملكة في هذا البينالي العريق، وهبة عابد التي شاركت في بينالي فينسيا أيضاً عام 2013 مع سارة العبدلي، ونورا بوزو وغيرهن كثيرات. معظمهن درسن الفنون ويعرضن في أوروبا والولايات المتحدة مما يغير صورة المرأة الخليجية التقليدية لدى الرأي العام الغربي. لابد من الإشارة هنا إلى أهمية الدور الذي تقوم به مؤسسة وغاليري «حافة العرب» في لندن في الترويج لأعمال فنانات سعوديات.
درست جوهرة آل سعود نظرية الفيلم وحصلت على ماجستير في الفنون. هي من فنانات تفصح أعمالهن بوضوح عن نسويتهن من وجهة نظري. هذا الإفصاح لا علاقة له بقيمة العمل الفني، فالإبداع يقيم في ذاته ولا علاقة له بجنس المبدع. أعمال جوهرة متميزة في ذاتها. شاهدت لها أعمالاً طباعية بالأبيض والأسود منها سلسلة لوحات بعنوان «العُقَد». تنويعات تجريدية بنائية إيحائية بدرجات الأسود، من الرمادي الفاتح حتى الأسود الداكن. أتصور أنها تعبير عن صبر الأنثى وشغلها اليدوي في بناء نسيج قوي أو نسج بناء صرحي في حجم اللوحة. لديها رسومات أخرى بطلاتها فتيات بلا ملامح وجه ربما للتعبير عن عمومية موضوع الصورة.
على الطرف الآخر من العالم العربي، المغرب، هناك من تذكرك بجوهرة السعودية. هي الفنانة مليكة صقلي. لا يعني هذا التشابه بين أعمالهما، بل الاشتراك في مسيرة الفن والموضوع. مليكة تعلمت الفن وتعرض أيضاً في أوروبا والولايات المتحدة. أعمالها تفصح كذلك عن نسويتها، كما يبدو من السلسلة بالأبيض والأسود التي سمتها «مشربية» التي استوحت تشكيل المشربية للضوء والظل، لكنها أسقطت هذا التأثير على أجزاء من جسد المرأة. المرأة عموماً حاضرة في معظم لوحات مليكة: وإن لم يكن فرمز لها مثل حذائها أو ساقيها كما نجد في سلسلتها «خط العرض 34». تصوير المرأة للمرأة لا يدل على نسوية العمل الفني بالطبع، فالرجال سباقون في تصوير المرأة ومنهم من تخصص فيها وتوله بها، ليس أدل على ذلك من انتشار الموديل النسائي العاري في الفنون. هناك فنانات رسمن الموديل الرجل العاري أيضاً مثل الفنانة الرائدة المصرية اللبنانية الأصل آيمي نمر. فهل هي الرقة التي تميز إبداع المرأة؟ وكيف يمكن التعبير عن الرقة في التجريد مثلاً؟ هل تعود لرقة الألوان أم لرقة التكوين أم ماذا؟ خذ مثلاً الفنانة المغربية أحلام لمصفر الحاصلة على ميدالية الأكاديمية الفرنسية للفنون وعضو اللجنة الشرفية للفنون الفرانكوفونية. هي فنانة تجريدية خالصة. معظم لوحاتها مقسومة أفقياً إلى ثلث من أسفل اللوحة وثلثين أعلاها. يبدو الثلث الأسفل كوسادة أو سرير أو قاعدة ملونة لبقية اللوحة. تبدو درجات ثلثي اللوحة رقيقة أو باهتة أو شفافة، بينما ثلث القاعدة من ألوان صريحة قوية عادة. فهل يمكن أن يساعدنا التفسير النفسي في فهم هذا التقسيم؟ وهل لهذا التفسير علاقة بجنس الفنانة؟
إنه موضوع معقد: المرأة والفن

عن جريدة " الحياة " بتاريخ 14 يوليو 2015

ليست هناك تعليقات: