الجمعة، يوليو 03، 2015

" كان 68 أصحاب الدار أولا . كشف حساب السينما الفرنسية في الدورة 68 بقلم صلاح هاشم




«كان 68».. أصحاب الدار أولاً
 كشف حساب السينما الفرنسية في الدورة 68


لقطة من فيلم ملكي للفرنسية مايوين 
 
بقلم


صلاح هاشم



إنجازات كبيرة ومفصلية تحقّقت للسينما الفرنسية خلال الدورة 68 من مهرجان «كان» هذا العام، التي كانت بمثابة دورة «التحوّلات الكبرى» خاصة مع انضمام الرئيس الجديد بيير ليسكور إلى قيادة دفة المهرجان، حيث كان له الدور في هذه التحوّلات على مستوى سن معايير جديدة تتحكّم في «سياسة» اختيار أفلام المسابقة الرسمية، الأمر الذي سيكرس لطريقة جديدة سوف تسلكها قاطرة السينما العالمية عبر مهرجان «كان» بعد مرور أكثر من 120 عاماً على اختراع السينما على يد الأخوين لوميير في فرنسا.

فعلى مستوى الآليات والسياسات، حرصت إدارة المهرجان، كما أعلن تيري فريمو المندوب العام للمهرجان، على أن يكون لفرنسا، بصفتها الدولة المنظمة للمهرجان نصيب الأسد في قسم المسابقة الرسمية كما في جميع أقسام المهرجان الأخرى. وذكر فريمو في المؤتمر الصحافي غداة الإعلان عن قائمة الاختيار الرسمي، أنه عانى كثيراً في اختيار الأفلام الفرنسية المرشحة للمنافسة بسبب كثرة الأفلام الفرنسية الجيدة التي عُرِضَتْ على المهرجان من بين حوالي 1800 فيلم من دول مختلفة، وأضاف فريمو، الذي أعلن عن خمسين فيلماً فقط من بينها، أن دورة 2015 ستكون «سنة سعيدة» على السينما الفرنسية بانطلاقتها المظفرة، وذلك بمشاركة خمسة أفلام فرنسية دفعة واحدة في المسابقة الرسمية للمهرجان. وكانت فيلم: «ديبان» لجاك أوديار، و«قانون السوق» لاستيفان بريزيه، و«مارجريت وجوليان» لفاليري دونزيللي، و«ملكي» لماي وين، وفيلم «وادي الحب» لجيوم نيكلو. مما عَزّزَ من فرص حصولها على جوائز «المسابقة الرسمية» و«نظرة خاصة» أهم جوائز المهرجان.

عَوّلَ فريمو إذن، على «فتح» للسينما الفرنسية، وإنصافها في حدث سينمائي بارز خاصة أن السينما الفرنسية تحتل، وفق تقرير 2014 لمؤسسة «يونيفرانس فيلمز» UNIFRANCE FILMS، المركز الثاني عالمياً بعد أميركا من حيث تصدير الأفلام، حيث بلغت عائداتها من توزيع أفلامها في العالم لسنة 2014 أكثر من 655 مليون يورو، وأكثر من 600 مليون يورو في فرنسا، وشاهد أفلامها في الصين وحدها أكثر من 17 مليون متفرج، كما حصلت بحسب التقرير على أرفع الجوائز السينمائية في العالم من ضمنها 15 أوسكار و3 سعفات ذهبية خلال السنوات العشر الأخيرة.

على مستوى «خطة الطريق» أفصح فريمو في المؤتمر المذكور عن ابتداع نهج جديد في اختيار فيلم الافتتاح، يتمثل في اختيار فيلم من بين الأفلام «الاجتماعية» القوية التي تناقش مشاكل الواقع السياسي، وتعكس تناقضات مجتمعاتنا الإنسانية، وتوظف السينما كـ«أداة» للتأمل والتفكير في أزمات عصرنا، وقد جاء فيلم الافتتاح الفرنسي «الرأس المرفوع» للفرنسية إيمانويل بيركو على خلفية هذا التوجه الجديد الذي جاء بدلاً من استمرار تكريس الأفلام «الاستعراضية» الهوليوودية في افتتاح مهرجان «كان» كما جرت العادة في دوراته السابقة. وكذلك الشأن بالنسبة لفيلم الاختتام «الثلج والسماء» لمخرجه الفرنسي لوك جاكي، والذي يحكي عن موضوع البيئة، ويمهّد طبعاً للدعاية للمؤتمر العالمي المقبل لحماية البيئة الذي تنظمه الحكومة الفرنسية.

حضرت «ترسانة» السينما الفرنسية وبسطت حضورها البارز في ساحة المهرجان، فعدد الأفلام الفرنسية التي عُرِضَتْ في أقسام المهرجان الرسمية، وفي التظاهرات الموازية مثل «تظاهرة أسبوع النقاد»، و«نصف شهر المخرجين» وغيرها... تجاوز 25 في المئة من مجموع كل الأفلام العالمية التي عُرِضَتْ خلال الدورة 68. فلا جدال في أن إدارة المهرجان، تحت القيادة والاستراتيجية الجديدتين، في أن تحوّل الدورة 68 إلى عرس حقيقي للسينما الفرنسية على شاطئ بحر كان، توج بالجوائز الكثيرة التي حصلت عليها فرنسا في المهرجان، مع العلم أن لجنة تحكيم الأفلام الطويلة لم تضم إلا عضواً واحداً من فرنسا ممثلاً في شخص الممثلة الفرنسية صوفي مارسو تحت رئاسة الأخوين كوين من أميركا.

غير أن هذه الاستراتيجية الجديدة تعرّضت لعدّة انتقادات، فقد كتب الناقد السينمائي الفرنسي جان ميشيل فرودون من جريدة لوموند، ورئيس تحرير مجلة «(كاييه دو سينما - كراسات السينما) العريقة سابقاً، متهماً إدارة المهرجان بالشوفينية والظلم وعدم الإنصاف وبخاصة في ما يتعلّق بـ«المدفعية» الفرنسية الثقيلة الممثلة في خمسة أفلام فرنسية تشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان دفعة واحدة، في غياب السينما الإفريقية بالكامل.

وبغض النظر عن ثقل الحضور، فإن السينما الفرنسية حلّقت عالياً، خاصة في إطار الاحتفال بمرور 120 عاماً على اختراع السينما على يد الأخوين لوميير في فرنسا، لكن هذا الحضور الذي وُصِفَ بالثقيل، يجب ألّا يختزل في الكم، فقيمة الأفلام الخمسة المُتوَّجة تبقى مهمة قياساً بما تطرحه فنياً وإنسانياً.

نموذج «الرأس المرفوع»

في افتتاح المهرجان، وخارج المسابقة الرسمية، عُرِضَ فيلم «الرأس المرفوع» LA TETE HAUTE، وهو الفيلم الأول لمخرجته الصاعدة إيمانويل بيركو، ليكرس بذلك تقديم مواهب جديدة وجادة. فمنذ أول مشهد من هذا الفيلم، وضعتنا المخرجة في قلب الواقع الفرنسي الحقيقي، حيث يدور المشهد في مكتب قاضية أطفال (الممثلة كاترين دينوف) توكل إليها من قبل الحكومة الفرنسية مهمة الإشراف على الأطفال الذين لا تستطيع أسرهم رعايتهم وتربيتهم، فتختار لهم أسرة مناسبة، وتتابع بنفسها تربيتهم في كنفها، ويظهر في المكتب الطفل مالوني في السادسة من عمره صحبة أم قاسية تحكي عن شقاوته وجنونه، وتصفه بأشبه ما يكون بـ«وحش» لم تعد تقدر على تربيته، بعد مغادرة الأب منذ زمن. ونتابع في الفيلم مراحل تربية مالوني من سن السادسة وحتى سن 18 سنة.

يكشف الفيلم من خلال نموذج «مالوني» مشاكل المجتمع الفرنسي مع المراهقين، عبر رصد الوسط الاجتماعي ووضع القوانين التي من شأنها تكوين مواطنين فرنسيين صالحين، على المحك. وتظهر موهبة المخرجة إيمانويل بيركو في الفيلم، من خلال اهتمامها وتركيزها على التفاصيل الصغيرة، كتصوير الحياة في مركز خاص لرعاية الأحداث في الريف، وتتبع مهنة معقدة كقاضية الأطفال. مما جعل فيلمها أشبه ما يكون بفيلم وثائقي تسجيلي عن حالة «مالوني» الاجتماعية الخاصة والتوثيق لها. وقد أدى استغراقها الممل في سرد تلك التفاصيل، إلى ترهُّل السرد، كما هي نهاية الفيلم «السعيدة» بمصاحبة «شلال» هادر من الموسيقى الكلاسيكية لباخ... لكن يحسب لهذا الفيلم الترويج لذلك النموذج الفرنسي المهم والجدير بالاحتذاء في رعاية الأحداث.

«مَلِكي» حياة خاصة

على مستوى أفلام المسابقة عرضت السينما الفرنسية كذلك لموهبة سينمائية نسائية جديدة في شخص المخرجة مايوين، التي شاركت في المسابقة الرسمية بفيلمها «مَلِكي» MON ROI الذي تبدو لنا حسنته الوحيدة، في أنه اعتمد كلية على موهبة إيمانويل بيركو مخرجة فيلم «الرأس المرفوع» في التمثيل. يحكي الفيلم عن مشاكل امرأة مطلقة تدعى «توني» مع «جورجيو» الذي تعلق به مما قادها إلى تدمير حياتها بالكامل، إلى حَدّ محاولة الانتحار.

فيلم «مَلِكي» هو الفيلم الثاني الذي تشارك به مايوين في المسابقة بعد حصولها على جائزة لجنة التحكيم الخاصة بفيلمها «بوليس» في دورة سابقة، لكن «مَلِكي» فيلمها الجديد جاء زاعقاً في ميلودراميته، وبعيداً عن المنحى الاجتماعي الواعد لفيلمها «بوليس»، فعلى خلاف ذلك تحكي مايوين في فيلمها «مَلِكي» عن حياتها الخاصة وتجربة حب خاضتها بنفسها وأرادت أن تخرجها على الشاشة ولم تجد أفضل من إيمانويل بيركو لكي تجسدها، غير أن انتقالها من تصوير ما هو تجربة ذاتية في السينما مغامرة تحتاج إلى مهارة وحنكة ودربة في الإخراج لم تتوافر هنا في فيلم مايوين، الذي بدا كشريط جامع لمواقف وأحداث ملتصقة ببعضها البعض كما في لوحة من لوحات الكولاج، مع استخدام «الفلاش باك» في السرد.. لكن رتابة الفيلم قابلتها براعة إيمانويل بيركو، وتقمُّصها شخصية «توني» بكل جوارحها وعواطفها، وهو الدور الذي استحقّ جائزة سعفة كان الذهبية لأحسن ممثلة.

«ديبان» مشكلة الهجرة

على الرغم من أن فيلم «ديبان» DHEEPAN للمخرج الفرنسي جاك أوديار فاز بجائزة السعفة الذهبية لطرحه قضية الهجرة والمهاجرين في فرنسا ومشاكل الاندماج في المجتمعات الفرنسية الجديدة، من خلال تصويره لمهاجر من سري لانكا يحضر إلى فرنسا هرباً من جحيم الحرب الأهلية، طامحاً في حياة جديدة في إحدى الضواحي الفرنسية التي يتحكم فيها عنف تجار المخدرات.. إلّا أن الفيلم لم ينجح في أن يستحوذ على إعجاب واسع لدى الجمهور، على الرغم من أنه أحد أهم الأفلام السياسية التي عرضها المهرجان. كما بالغ الفيلم في تصوير مشاهد اندلاع «حرب المخدرات» بعنفها ودمويتها في ضاحية بعيدة عن باريس والتي سكنها «ديبان» المهاجر السري لانكي مع أسرته. هذا فضلاً عن تصريح المخرج جاك أوديار بأن فرنسا، وبسبب تحكم تجار المخدرات في حياة الناس، قد صارت بلداً لن يصلح فيه العيش أبداً للمهاجرين الوافدين، وعليهم أن يهاجروا إلى مكان آخر! وإن كان لا بد من الإشارة إلى أن «ديبان» قَدّمَ إضافة فنية مذهلة حققها جاك أوديار على مستوى الإخراج، حيث جعل شريطه يتوهج بسحر تصوير مشاعر الوحدة والشوق والخوف والقلق، والرغبات الحسية لدى الآخر المهاجر، خاصة عندما يصوّر تعلّق المغترب «ديبان» بوطنه المفتقد سري لانكا.

«قانون السوق»

فيلم «قانون السوق» LA LOI DU MARCHE يحقق متابعة جماهيرية عالية في القاعات السينمائية الفرنسية، خاصة أنه أحد أقوى الأفلام التي عرضها مهرجان «كان» هذا العام. الفيلم من إخراج ستيفان بريزيه وبطولة الممثل الفرنسي فانسان ليندون الذي حصل على جائزة أحسن ممثل في المهرجان، التقط الفيلم واقع البطالة المروع في فرنسا ومناخاته، خاصة بعدما تخطت أرقام العاطلين عن العمل في فرنسا 3 ملايين عاطل. يطرح المخرج هذا الواقع من خلال رصده لحياة «تيري» العاطل عن العمل. تيري الذي تجاوز عمره الخمسين، بعد حصوله على عمل كحارس في أحد المراكز التجارية الكبرى، يواجه مشكلة مبدئية: هل يحافظ على عمله هذا بأي ثمن، فيضحي بضميره بسبب القوانين التي تحكم قانون السوق الرأسمالي المهيمن على الحياة المعاصرة؟ أم عليه قبول ما يجنيه من عمله في ظل واقع الإهانة لشخصه الذي تفرضه طبيعة عمله؟. يعرف تيري الواقع جيداً، يناقش موظفاً في أحد مكاتب التشغيل الحكومية، ويحكي له عن فشل سياسات الدورات التأهيلية للعاطلين التي تنتهجها، وعدم جدواها. وبهذا المشهد الذي يفتتح به ستيفان بريزيه فيلمه والذي يستغرق عرضه على الشاشة أكثر من 12 دقيقة ندخل مباشرة في الواقع المؤلم الحقيقي الذي يعيشه العاطلون عن العمل في فرنسا، والتي فشلت الحكومات المتعاقبة في إيجاد حلول ناجعة للبطالة.

في نهاية فيلم «قانون السوق» يرفض تيري أن يكون جاسوساً على زملائه في العمل، مُخبراً عنهم وعن أخطائهم، فيتسبب في طردهم: اللعنة هذا لن يصير، هكذا يُردِّد تيري مُنتصراً لضميره.
جميع الحقوق محفوظة لمجلة الدوحة
اعيد نشر المقال بموجب إذن خاص
الدوحة عدد شهر يوليو 2015
 

ليست هناك تعليقات: