يوميات " كان " السينمائي 71
بقلم
صلاح هاشم
سقوط الأقنعة
فيلم الإفتتاح " الجميع يعلمون " للايراني صغر فارهادي
مساءلة " المؤسسة الأسرية "
التاريخ والجغرافيا
فيلم " الجميع يعلمون " للمخرج الايراني الكبير أصغر فارهادي الذي عرض في حفل افتتاح الدورة 70 لمهرجان " كان " السينمائي هو الفيلم الثاني لمخرجه خارج بلده الأصلي إيران، بعد فيلم " الزبون " الذي عرض في مهرجان كان منذ عامين وشارك في مسابقته وحصل ممثل الفيلم على جائزة احسن ممثل
في فيلمه الجديد ينتقل بنا المخرج الايراني أصغر هذه المرة الى اسبانيا حيث تدور أحداث الفيلم في قرية صغيرة في الريف الأسباني الممتد الى ما لانهاية و الذي تنتشر فيه أشجار الكروم، وتصل لورا بطلة الفيلم - تقوم بدورها في الفيلم الممثلة الأسبانية الكبيرة بينيلوب كروز- تصل في صحبة ابنتها ايرين( 16 سنة ) وابنها الصغير ( 5 سنوات ) من الارجنتين للمشاركة في الاحتفال بعقد قران شقيقتها في تلك القرية الصغيرة التي ولتد فيها وكبرت في قلب ذلك الريف الأسباني الساحر- نري مناظر الريف من داخل السيارة التي تقل الأسرة من المطار الى القرية بعد أن تخلف زوج لورا في الأرجنتين، ويبدأ الفيلم من داخل برج الكنيسة التي تطل على ساحة القرية وعندما تهبط تترات الفيلم نكون استمتعنا بمنظر تروس تلك الماكينة- الساعة التي تضبط ايقاع أجراس الكنيسةوهي تدور، كعلامة من علامات الزمن الذي لا تتوقف عجلته ابدا،ونري العصافير الصغيرة وهي تحلق من ثقب يتسلل منه الضوء في نافذة البرج حيث تقرع الأجراس، ويضبط الفيلم ايقاعه على "حركة"تلك الأسرة الكبيرة العدد التي تنتمي اليها لورا، ونتعرف في الجزء الأول من الفيلم على أفراد الأسرة ونشارك لورا في الابتهاج بليلة الفرح- العرس التي تتوهج بالغناء والرقص والركض في مكان العرس
عندما ينقلب الفرح الى مأتم والحلم الجميل الى كابوس
وينجح المخرج الايراني على الرغم من المط والمبالغة في عرض فنون الاحتفال بالاعراس في أسبانيا - وتذكرك- أو بالأحرى ذكرتني- مشاهد الاحتفال لفولكلوري بالعرس هنا في الجزء الأول من الفيلم بمشاهد الاحتفال بالعرس في فيلم " صائد الغزلان " للمخرج الامريكي الراحل مايكل شيمينو، لكنها لاترقي بالطبع الى مشهد العرس في فيلم " الفهد " للمخرج الايطالي العبقري فيسكونتي، حيث أن السينما تتغذى أيضا من السينما - رحت أفكر -وتنهل من مناظرها ومشاهدها الماضية وسحرها
وتظهر هنا ايضا في الجزء الأول براعة المخرج الايراني الكبير في ادارة الممثلين، وضبط حركة الشخصيات وتنقلاتها اثناء مشاهد العرس باقتدار ومعلمة حتى لتبدو بعض المشاهد كما لو كانت - وتظهر هنا براعة المونتاج - اقتطعت من باليه او استعراض للرقص، وهو شييء لايخلو قطعا من تسلية ومتعة ونحن نتفرج ولحد الآن من الخارج ونراقب ومن دون أن ندخل بعد في " لحم " الفيلم و " حبكته " إن جاز التعبير
ثم فجأة ينقطع التيار الكهربائي أثناء الفرح لفترة ولما تعود الأضواء تكتشف لورا أن إبنتها اختفت ويتضح انها اختطفت وتتطور هنا حبكة الفيلم على طريقة روايات أجاثا كريتي كاتبة الروايات البوليسية البريطانية، وهكذا ينقلب " الفرح " الى مأتم وحلم السعادة الى كابوس مرعب تعيشه الأم لورا بكل جوارحها وتكاد تجن وتفقد عقلها - تتألق هنا بينيلوب كروز في دور الأم وتجعلنا نتأسي معها- وهنا بالضبط تكمن القيمة الأساسية للفيلم حيث تلغي السينما بفنها وسحرها حدود الجنسيات والألوان بين البشر وتجعلنا نتأسي لحال الأم هنا ولايهم أن تكون أسبانية أو فرنسية أو مصرية ، فالمصر إنساني يمسنا جميعا والهم هنا هم واحد ويسري على الجميع، وبخاصة عندما نعلم أن الابنة ايرين مصابة بمرض الربو وبحاجة الى تعاطي الدواء في أوقات معينة وهو أمر يجهله خاطفوها وسوف تتأثر له وتتعذب أكثر لغياب الدواء في حبسها
ويكرس المخرج الايراني الكبير الجزء الثاني من الفيلم لتطوير " الحبكة " بشكل بوليسي واخلاقي، فنحاول أن نبحث مع مفتش بوليس متقاعد تلجأ اليه أسرة لورا لاكتشاف ومعرفة من الفاعل ، ترى هل يكون الأب لأسباب تقال في الفيلم طبعا على لسان الشخصيات أم أحد أفراد الأسرة، ومن خلال البحث عن ايرين وخاطفيها تتطور أحداث الفيلم والعودة الى ثيمة مفضلة عن مخرجنا الايراني الا وهي تأثير الماضي أحداثه وذكرياته ووقائعه على الحاضر المعاش، ولابد ان التفتيش في الماضي يعني التفتيش في تلك " الأسرار " التي تحاول كل أسرة - أن تخفيها وتهيل عليها - من دون جدوى- التراب، ثم هووب..اذا بحدث ما يقع فتسقط كل الأقنعة لتظهر تلك الحقائق التي تفقأ العين، ويعالج هنا أصغر فارهادي في الجزء الثاني من الفيلم عدة ثيمات أوموضوعات مثل " الكراهية " و " الغيرة " و " ماذا يفعل المال بنا ؟ " و" الإيمان " وتلك القناعات الأسرية الرجعية العتيقة المتخلفة التي تمثل " دعامات " المؤسسة الأسرية ليس فقط في أسبانيا بل في كل مكان، تلك القناعات التي أتي عليها الزمن وبكل مافيها من ألم ةظلم وأسرار وزيف ودخلت متحف التاريخ
الذي ينجح فيه باقتدار ومعلمة كحكواتي قدير من عصر مضى ومثل كل هؤلاء الحكواتية العظام في تاريخ السينما أن يحبس أنفاسنا - مثل هيتشكوك -من فرط الانتظار والترقب ومتابعة البحث وحتى الوصول الى " لحظة التنوير" النهائية في الفيلم، عندما تجلس الأم في مقهى في ساحة القرية وتطلب من إبنها أن يجلس معها ويحادثها بصراحة بعدما اكتشفت الأم الفاعل والمسئول عن اختطاف الصغيرة إيرين بينما يقوم عمال النظافة في نفس اللحظة بتغسل أرضية الساحة ونتطهر نحن أيضا مع شخصيات الفيلم من كل ادراننا
فيلم " الجميع يعلمون " - EVERYBODY KNOWS -يكشف عن طموح فني كبير الى " العالمية " لدى مخرجنا الإيراني الكبير وهو طموح مشروع بالطبع غير أن الفيلم وعلى الرغم من الاداء التمثيلي البارع لكل شخصيات الفيلم و- وكان الجزء الأول بمثابة استعراض عضلات للممثلين في هذا الصدد - وكذلك الايقاع المتماسك رغم بعض " الترهل " في الجزء الأول من الفيلم والتصوير الجيد
لم يعجبنا - فقد بدا لنا " الجميع يعلمون " أقرب مايكون الى المسرحيات الذهنية التجريدية التي تدعو من خلال حبكة الفيلم الى التأمل والتفكير في " المؤسسة " الأسرية، ماضيها وحاضرها ومستقبلها في العالم، مما جعل الفيلم أقرب ما يكون الى "لوحة تجريدية فلسفية" مما أفقد الفيلم أيضا مصداقيته، بسبب افتقادنا لجغرافية مخرج الفيلم ذاته، وبلده الأصلي إيران، وجعلنا نصدق عالمه الافتراضي " الأسباني " - بالبلدي ناخذه على قد عقله - وجعلنا ننظر الى الفيلم من على بعد ولا ندخل ابدا في لحمه
ان الأفلام تؤثر فينا ليس بسبب "الواقعية الافتراضية" التي يمكن أن نتمثلها في الفيلم " تعال نلعب في أسبانيا " ونصدقها- ويا الهي كم هي عصية لدي على التصديق - بل بسبب " أرضية الواقع الجغرافي الحقيقي" الذي تنتمي اليه، ومحاولة استكشافه في السينما، وكما يقول المعلم الأكبر المخرج الهولندي العظيم جوريس إيفانز ليس المهم أن يكون النهر طويلا وعميقا لكن المهم معرفة إن كانت الأسماك فيه سعيدة
ان فرهادي يغسل أكثر بياضا في إيران - وليس في في أسبانيا - في ظني
صلاح هاشم
في فيلمه الجديد ينتقل بنا المخرج الايراني أصغر هذه المرة الى اسبانيا حيث تدور أحداث الفيلم في قرية صغيرة في الريف الأسباني الممتد الى ما لانهاية و الذي تنتشر فيه أشجار الكروم، وتصل لورا بطلة الفيلم - تقوم بدورها في الفيلم الممثلة الأسبانية الكبيرة بينيلوب كروز- تصل في صحبة ابنتها ايرين( 16 سنة ) وابنها الصغير ( 5 سنوات ) من الارجنتين للمشاركة في الاحتفال بعقد قران شقيقتها في تلك القرية الصغيرة التي ولتد فيها وكبرت في قلب ذلك الريف الأسباني الساحر- نري مناظر الريف من داخل السيارة التي تقل الأسرة من المطار الى القرية بعد أن تخلف زوج لورا في الأرجنتين، ويبدأ الفيلم من داخل برج الكنيسة التي تطل على ساحة القرية وعندما تهبط تترات الفيلم نكون استمتعنا بمنظر تروس تلك الماكينة- الساعة التي تضبط ايقاع أجراس الكنيسةوهي تدور، كعلامة من علامات الزمن الذي لا تتوقف عجلته ابدا،ونري العصافير الصغيرة وهي تحلق من ثقب يتسلل منه الضوء في نافذة البرج حيث تقرع الأجراس، ويضبط الفيلم ايقاعه على "حركة"تلك الأسرة الكبيرة العدد التي تنتمي اليها لورا، ونتعرف في الجزء الأول من الفيلم على أفراد الأسرة ونشارك لورا في الابتهاج بليلة الفرح- العرس التي تتوهج بالغناء والرقص والركض في مكان العرس
عندما ينقلب الفرح الى مأتم والحلم الجميل الى كابوس
وينجح المخرج الايراني على الرغم من المط والمبالغة في عرض فنون الاحتفال بالاعراس في أسبانيا - وتذكرك- أو بالأحرى ذكرتني- مشاهد الاحتفال لفولكلوري بالعرس هنا في الجزء الأول من الفيلم بمشاهد الاحتفال بالعرس في فيلم " صائد الغزلان " للمخرج الامريكي الراحل مايكل شيمينو، لكنها لاترقي بالطبع الى مشهد العرس في فيلم " الفهد " للمخرج الايطالي العبقري فيسكونتي، حيث أن السينما تتغذى أيضا من السينما - رحت أفكر -وتنهل من مناظرها ومشاهدها الماضية وسحرها
وتظهر هنا ايضا في الجزء الأول براعة المخرج الايراني الكبير في ادارة الممثلين، وضبط حركة الشخصيات وتنقلاتها اثناء مشاهد العرس باقتدار ومعلمة حتى لتبدو بعض المشاهد كما لو كانت - وتظهر هنا براعة المونتاج - اقتطعت من باليه او استعراض للرقص، وهو شييء لايخلو قطعا من تسلية ومتعة ونحن نتفرج ولحد الآن من الخارج ونراقب ومن دون أن ندخل بعد في " لحم " الفيلم و " حبكته " إن جاز التعبير
ثم فجأة ينقطع التيار الكهربائي أثناء الفرح لفترة ولما تعود الأضواء تكتشف لورا أن إبنتها اختفت ويتضح انها اختطفت وتتطور هنا حبكة الفيلم على طريقة روايات أجاثا كريتي كاتبة الروايات البوليسية البريطانية، وهكذا ينقلب " الفرح " الى مأتم وحلم السعادة الى كابوس مرعب تعيشه الأم لورا بكل جوارحها وتكاد تجن وتفقد عقلها - تتألق هنا بينيلوب كروز في دور الأم وتجعلنا نتأسي معها- وهنا بالضبط تكمن القيمة الأساسية للفيلم حيث تلغي السينما بفنها وسحرها حدود الجنسيات والألوان بين البشر وتجعلنا نتأسي لحال الأم هنا ولايهم أن تكون أسبانية أو فرنسية أو مصرية ، فالمصر إنساني يمسنا جميعا والهم هنا هم واحد ويسري على الجميع، وبخاصة عندما نعلم أن الابنة ايرين مصابة بمرض الربو وبحاجة الى تعاطي الدواء في أوقات معينة وهو أمر يجهله خاطفوها وسوف تتأثر له وتتعذب أكثر لغياب الدواء في حبسها
ويكرس المخرج الايراني الكبير الجزء الثاني من الفيلم لتطوير " الحبكة " بشكل بوليسي واخلاقي، فنحاول أن نبحث مع مفتش بوليس متقاعد تلجأ اليه أسرة لورا لاكتشاف ومعرفة من الفاعل ، ترى هل يكون الأب لأسباب تقال في الفيلم طبعا على لسان الشخصيات أم أحد أفراد الأسرة، ومن خلال البحث عن ايرين وخاطفيها تتطور أحداث الفيلم والعودة الى ثيمة مفضلة عن مخرجنا الايراني الا وهي تأثير الماضي أحداثه وذكرياته ووقائعه على الحاضر المعاش، ولابد ان التفتيش في الماضي يعني التفتيش في تلك " الأسرار " التي تحاول كل أسرة - أن تخفيها وتهيل عليها - من دون جدوى- التراب، ثم هووب..اذا بحدث ما يقع فتسقط كل الأقنعة لتظهر تلك الحقائق التي تفقأ العين، ويعالج هنا أصغر فارهادي في الجزء الثاني من الفيلم عدة ثيمات أوموضوعات مثل " الكراهية " و " الغيرة " و " ماذا يفعل المال بنا ؟ " و" الإيمان " وتلك القناعات الأسرية الرجعية العتيقة المتخلفة التي تمثل " دعامات " المؤسسة الأسرية ليس فقط في أسبانيا بل في كل مكان، تلك القناعات التي أتي عليها الزمن وبكل مافيها من ألم ةظلم وأسرار وزيف ودخلت متحف التاريخ
الذي ينجح فيه باقتدار ومعلمة كحكواتي قدير من عصر مضى ومثل كل هؤلاء الحكواتية العظام في تاريخ السينما أن يحبس أنفاسنا - مثل هيتشكوك -من فرط الانتظار والترقب ومتابعة البحث وحتى الوصول الى " لحظة التنوير" النهائية في الفيلم، عندما تجلس الأم في مقهى في ساحة القرية وتطلب من إبنها أن يجلس معها ويحادثها بصراحة بعدما اكتشفت الأم الفاعل والمسئول عن اختطاف الصغيرة إيرين بينما يقوم عمال النظافة في نفس اللحظة بتغسل أرضية الساحة ونتطهر نحن أيضا مع شخصيات الفيلم من كل ادراننا
فيلم " الجميع يعلمون " - EVERYBODY KNOWS -يكشف عن طموح فني كبير الى " العالمية " لدى مخرجنا الإيراني الكبير وهو طموح مشروع بالطبع غير أن الفيلم وعلى الرغم من الاداء التمثيلي البارع لكل شخصيات الفيلم و- وكان الجزء الأول بمثابة استعراض عضلات للممثلين في هذا الصدد - وكذلك الايقاع المتماسك رغم بعض " الترهل " في الجزء الأول من الفيلم والتصوير الجيد
لم يعجبنا - فقد بدا لنا " الجميع يعلمون " أقرب مايكون الى المسرحيات الذهنية التجريدية التي تدعو من خلال حبكة الفيلم الى التأمل والتفكير في " المؤسسة " الأسرية، ماضيها وحاضرها ومستقبلها في العالم، مما جعل الفيلم أقرب ما يكون الى "لوحة تجريدية فلسفية" مما أفقد الفيلم أيضا مصداقيته، بسبب افتقادنا لجغرافية مخرج الفيلم ذاته، وبلده الأصلي إيران، وجعلنا نصدق عالمه الافتراضي " الأسباني " - بالبلدي ناخذه على قد عقله - وجعلنا ننظر الى الفيلم من على بعد ولا ندخل ابدا في لحمه
ان الأفلام تؤثر فينا ليس بسبب "الواقعية الافتراضية" التي يمكن أن نتمثلها في الفيلم " تعال نلعب في أسبانيا " ونصدقها- ويا الهي كم هي عصية لدي على التصديق - بل بسبب " أرضية الواقع الجغرافي الحقيقي" الذي تنتمي اليه، ومحاولة استكشافه في السينما، وكما يقول المعلم الأكبر المخرج الهولندي العظيم جوريس إيفانز ليس المهم أن يكون النهر طويلا وعميقا لكن المهم معرفة إن كانت الأسماك فيه سعيدة
ان فرهادي يغسل أكثر بياضا في إيران - وليس في في أسبانيا - في ظني
صلاح هاشم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق