الأربعاء، أكتوبر 15، 2014

مختارات سينما إيزيس : محمد الفيومي..مثّال الذات بقلم ياسر جاد



 مختارات
سينما إيزيس


محمد الفيومي..مثّال الذات

 المثال المصري الأصيل محمد الفيومي

بقلم


ياسر جاد




تتميز أعمال محمد الفيومى كواحدة من علامات النحت المصرى المعاصر وذلك لما تحمله من جينات لها كامل الصلات بمصريته والتى تميزها عن غيرها من الأعمال النحتية ..ولا يملك متلقى أعماله سوى الوقوف امام تلك الأعمال ليرى فيها شخوصا يعرفهم ..ربما بملامح مغايرة ولكن بأروح شديدة الشبه قد تصل إلى حد التطابق فى بعض الأعمال ..فأعمال محمد الفيومى تحمل هذا الدفء ولا ينطبق عليها سوى تعبير العامية المصرية ( أعمال ذات عشرة ) ... فالكتلة لديه تأرجحت بين التمثل فى الصورة البشرية تارة والصورة الحيوانية تارة أخرى ..وغلبت عليه فطرة النحت المصرى القديم الذى تناول الصورتان بشكل موسع ومتنوع .
وتأتى أعمال محمد الفيومى وكتله لتتجسد من خلال إختزال ليس بالقليل لتفاصيل تشريحية .. يجد الفيومى فى وجودها زحام بصرى لا حاجة لإبرازه فى أعماله ..ويستعيض عنها بإختصارات تعبيرية ومبالغات لها علاقة بتلك الكتلة من سماكة أو إستطالة تخدم خياله عن منحوتته والذى إرتسم فى مخيلته قبل بدء العمل ..ومحمد الفيومى واحدا ممن يجدون فى مبالغات الكتلة أسلوبا أمثل يوجد من خلاله كافة إسقاطاته وطرح وجهة نظره عن ذاتية أفكاره وموضوعاته وقضاياه ..
وقد تأرجحت المبالغات فى أعمال الفيومى وتفاوتت ومرت بالعديد من المراحل ولكنه نجح بصورة كبيرة فى إظهار ذاتية كل شخوصه . وعبرعن حالتهم بغاية السلاسة والبساطة مع إحتفاظه بثراء كتلته وتنوع حلول الإختزال والتى أوقعها بين الإنحناءات الناعمة والزوايا الحادة ومزج بينهما فى عذوبة شديدة ولعبت ملابس شخوصه دورا هاما فى رمزية اسقاطه ..فعند تناول تمثاله المصنوع من الألومنيوم والذى يمثل من وجهة نظره شخصية ( الرجل المتأمل ) جاء العمل يحمل هذا التجرد الذى يجمع بين العمق والبساطة... فوضع رأسه فى حالة تطلع إلى مدى بعيد ونزع عنه ملابسه ليضعه مجردا منها ولايشتت انتباهنا عن ما يدور فى ذاته من تناول مسبب لتلك الوضعية المتأملة والشاردة وجعل إتكاءه على إحدى كفيه مع زراع منبسط وإستقامة ظهر رشيقة وعلت إحدى رجليه اﻷخرى لتمثل تلك الجلسة البسيطة التى نلجاء اليها جميعا عندما يعلونا هما ما ..أو نصل إلى طريق مسدود ..لقد رأيت فى عمله ذات هذا الشخص الذى طل عقله الشارد من نظرته وجائت خامة الألومنيوم لتكمل ذالك الإحساس المعبر عن تلك البساطة ..أما المبالغة فى الإستطالة فوجدتها قد أتت معبرة عن طول ما عانى وكابد .. ويأتى النموذج الثانى فى أعماله المتسمة بالمبالغات ذات الإستطالة فهو تمثال ( حلاوتهم ) تلك المرأة الجالسه على كرسى من القش والتى جائت معبرة بصورة رائعة عن النموذج العامى لمفهوم الفتاة أو المرأة الجميلة فى أحيائنا الشعبية ( نوارة الحتة ) .وجائت جلستها على جانب الكرسى لتزيد من تصدير حالة الدلال الأنثوى الصادر منها ...كما أكد ذلك كشفها عن أحد أكتافها دون إسفاف أو إبتذال ... وحتى الكرسى جاء معبرا عن إقليم وجودها الجغرافى... فكراسى القش من سمات مدن السواحل وكأنها سكندرية مثلا . وبنيتها القوية جائت دون الإخلال بأنوثتها ..وفى مجمل جلستها كأنها جلست لتختار فى كبرياء من صنف الرجال من تعتقد باستحقاقه لها ..لقد رأيت فيها نموذج ذات المرأة التى تضع قوانين العلاقة وليست التى تخضع لقوانين تفرض عليها .
اما نموذج البدانة فى منحوتاته فقد سيطر على معظم منحوتاته واصبح من علامات طرحه وجاء تمثال (كيداهم ) الشهير والذى يعبر تلك المرأة المترهلة والتى نجدها فى واقع مناطقنا الشعبية ..والتى جائت جلستها معبرة عن ذات الجلسة فى الواقع والتى غالبا ما تكون على احدى المصاطب امام البيت .جلست بجسدها المترهل دون الكسل .وكانها تهم بان تنادى احدا من أولادها أو أحد جيرانها ..جلست فى لباسها العارى الأكتاف إلا من حمالتين رفيعتين تحملانه .و(كيداهم )هى من يجتمع لديها نساء الحارة ليستشيروها فى امورهم ويحتكموا اليها فى نزاعاتهم ويرضوا بحكمها ..وهى التى تشرف لهم على عمل تلك الأكلات الشعبية (كالمفتقة والكسكسى وكحك العيد وغيرها ...)من الأكلات الشعبية والتى ترتبط بالموسمية لدى الطبقات الشعبية ..لقد وضع محمد الفيومى فى تمثال (كيداهم ) كامل مخزونه البصرى وإنطباعته المتراكمة عن الحارة المصرية والتى عايشها لسنوات فى حى الحسين الشهير..لقد نجح محمد الفيومى ليصل بنا من خلال عمله لذات كيداهم وشخصيتها فأسمعنا صوتها وأرانا نظرتها وزفراتها وعبراتها ونقل لنا ثقل مقامها فى محيطها وبين جيرانها فكانت ملكة الحارة بلا منازع

 ..
وعلى الرغم من ان مسميات بعض الأعمال قد لا تنم عن واقعها ودورها الحياتى وجائت مبالغاتها مغايرة لطبيعة شخوصها فى الواقع المصرى فقد مثلت تماثيل فلاحيه نموذجا يحمل حالات داخلية تباينت بين الهم والعناء والطيبة.. وأجلسهم جلسات اتسمت بالهدوء والإستكانة ما بين مستريح ومهموم ومتطلع ومتأمل .وجائت اجسادهم تشريحيا متأثرة بنماذج تعود إلى عصر الدولة القديمة ولا ادل على ذلك من نموذج منحوتة (حم أونو) مهندس الهرم اﻷكبر الشهير إلا ان الفيومى أوجد حلولا تشريحية وأوضاعا للجلسات لم يتطرق لها المصرى القديم لطبيعة مفهوم النحت وما ميز تلك الحلول والأوضاع هو استساغة العين لأعماله حيث تجد راحة النفس فى النظر اليها كما ان كل فلاحيه تعلوا قسماتهم البراءة والطيبة رغم هموم بعضهم
وجائت طيوره وحيواناته متشابهة الحلول مع منحوناته البشرية من حيث الأسلوب والمبالغات ..وقد وقع إختياره على طائر ( البوم ) ليحتل فى منحوتاته مكانا متميزا ..هذا الطائر الذى صور فى مصر القديمة كحرف هجاء مرادف لحرف ( الميم ) ..وكذلك كحرف جر بمعنى ( فى ) وإن كان المصريون بشكل عام ينقسمون فى تعاملهم مع هذا الطائر ..فأهل المدن يضعونه فى خانة التشاؤم وأهل الريف يجدون أنه من حلول التخلص من آفات وفئران حقولهم .ولكن أجمل ما فى بوم الفيومى أنه جرد ملامحه وبالغ فى بدنه فأراح عين المتلقى من التطرق إلى فكرة التشاؤم ....
إن منحوتات الفيومى من اﻷعمال الفنية التى تحتمل التحليل من أوجه عدة ووجهات نظر مختلفة ..إلا أنه رغم إختلاف وتباين نظرتى كمتلقى لإبداعه ووجهة نظره فى طرحه وتناول غيرى وغيره لها .إلا أنها أعمال تتسم بالصدق فى مجمل مشهدها ...وكذالك بشدة محليتها وإنتسابها لبيئتها وتعبر عن روح أجسادها. وتحمل تلك الرصانة وهذا الثقل فى المعنى ..وتحمل هذا الشبه بينها وبين مبدعها محمد الفيومى ..
ويبقى أن ننتظر أياما قليلة ليخرج علينا محمد الفيومى فى تجربته الأخيرة بقاعة الزمالك فى عرض يحمل اختلافا تشكيليا عن سابقة أعماله التى تعودنا علي تلقيها من طرعه وإبداعه ولكنى أرى انها لا تختلف من حيث المضمون وهو ذاتية المنحوتة ..فقد تطرق فيه إلى مفردات حياتنا التى تشاركنا هذه الرحلة العمرية فتمنحنا من وجودها وتلعب دورا متفاوتا فى حياة كل منا ...
إن صدق التجربة لدى محمد الفيومى وإنكفاءه على ذاته وإخلاصه وتفانيه لطرحه هو ما ميز أعماله وجذبنا جميعا
إلى الوقوف أمامها لنشهد مبالغات بصرية مريحة وجاذبة ومعبرة عن واقع يصادف كثيرا منا ولكن ربما نرى فيهم مجرد ملامح إلا أن الفيومى رأى فيهم ذاتهم التى صاغها لنا بمزيج متزن ومتأرجح بين الحذف والإضافة فكان ( مثال الذات )
 

.
ياسر جاد

ليست هناك تعليقات: