الاثنين، مارس 17، 2014

تجسيد الشخصيات الدينية في السينما بقلم خالد ربيع السيد



تجسيد الشخصيات الدينية في السينما
بقلم
خالد ربيع السيد


يمكن القول بأن السينما الأوروبية قد خطت في بداية القرن الماضي بعض الخطوات الوجلة نحو تقديم الشخصية العربية الإسلامية، على وجه الخصوص، في السينما. لكن هذه الخطوات لم تصل الى ذروتها إلا في عام 1926م عندما قررت إحدى شركات السينما الألمانية تصوير فيلم عن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام تحت اسم (محمد رسول الله)، وشاركت في نفقات إنتاجه حكومة تركيا بتوجيه من الرئيس أتاتورك ، وقد أعد السيناريو وصرحت بتصويره لجنة مكونة من كبار علماء الإسلام في استامبول بعد قراءته والتشاور في شأنه. نص السيناريو على ظهور شخصية النبي محمد، من خلال مناظر يتم تصويرها في الصحراء السعودية، صحراء النفود غالباً، وأعلن عن مباراة عالمية ستقام بين الممثلين العالميين الكبار، آنذاك، لاختيار من يقوم بدور الرسول.

 تقدم لأداء الدور الممثل "أميل يانيجز" الألماني، "كونر دافيدت" الإنجليزي، "ماتون لانج" و "ننجي" الإيطاليين و "دي ماكس" الفرنسي. ولكن أتاتورك كان يفضل أن يلعب الدور ممثل عربي ومسلم، فوقع الاختيار على الممثل "يوسف وهبي"المصري/العربي/ المسلم، وتم إخطاره بهذا الترشيح الذي قابله "وهبي" بالترحيب، وفور إعلان الخبر ثار رجال الأزهر وثار معهم الرأي العام المصري والإسلامي، كما يذكر "يوسف وهبي" في مذكراته.
 وظهرت بعد أيام في الصحف المصرية فتوى من شيخ الأزهر تنص على أن (الدين يحرم تحريماَ باتاً تصوير الرسل والأنبياء والصحابة رضي الله عنهم)، وأرسل الأزهر على إثر ذلك تحذيراً شديد اللهجة الى الملك فؤاد يحثه باجتثاث فكرة مشاركة ممثل مصري في فيلم تظهر فيه شخصية الرسول من جذورها، ومن ثم يجب أن يصدر الملك قراراً بنفي الممثل "يوسف وهبي" من البلاد وحرمانه من الجنسية المصرية واعتباره مرتدا تجوز حرابته، وقد أجبر "وهبي" على تقديم اعتذار وتنازل عن قبول أداء الدور.

ولكن تلك الضجة التي حدثت لم تمنع الشركة من تنفيذ إنتاج الفيلم وقام بإخراجه المخرج التركي "وداد عرفي"، وقام بالدور ممثل يهودي، لم يذكر اسمه "يوسف وهبي" في مذكراته. ولأسباب تتعلق بصراع الأديان ومجابهة التيارات المناهضة للإسلام في ألمانيا تم التعتيم عليه ولم يسوق عالمياَ كما خطط له .

ما يجب الالتفات إليه هنا أن حادثة فيلم (محمد رسول الله) هذه، كانت بداية التأسيس الديني لموقف إجماعي في العالم الإسلامي من ظهور شخصية النبي محمد عليه الصلاة والسلام على شاشة السينما. حيث تأسس تبعاَ لذلك موقف ديني جذري يقطع بتحريم ظهوره وصحابته في الفنون المرئية إجمالا، وظل التحريم قائماً، الى أن خرج إلى النور الفيلم الديني العربي الأول "ظهور الإسلام" عن قصة "الوعد الحق" للأديب طه حسين و إخراج إبراهيم عز الدين.
وقد استقبل الفيلم بترحيب كبير من الجماهير العربية المسلمة في كل مكان، ووقف رجال الدين موقفا متأرجحاً بين الرفض القاطع والتأييد المشروط و تلخص موضوع التحريم لدى السلفية الإسلامية وقتها إزاء التمثيل في المسرح أو السينما بفكرتين أساسيتين هما : التحريم بالموضوع والتحريم بالذات، وفي هذا الصدد أسهب الناقد حسن بحراوي عبر مناقشته لرسالة الباحث الفقيه أحمد بن الصديق المعنونة (إقامة الدليل في حرمة التمثيل) الصادرة في القاهرة سنة 1953.
وحدث أن تكرر موقف التحريم مع بداية إنتاج فيلم (الرسالة ـ محمد رسول الله) للمخرج مصطفى العقاد في العام 1971م، وتأسس حينذاك لهذا الموقف قوة سلطوية تقارب في قداستها قداسة (الحد الشرعي) .

وصدر عقب ذلك بسنوات قرار برقم 220 في العام 1976 من وزارة الإعلام والثقافة المصرية، ونص على منع ظهور صورة الرسول صراحةً أو رمزاً أو صورة أحد الخلفاء الراشدين وأهل البيت والعشرة المبشرين بالجنة، أو محاكاة أصواتهم وكذلك نص القرار بمنع إظهار صورة السيد المسيح أو صور الأنبياء بصفة عامة، على أن يراعى الرجوع في كل ما سبق للجهات الدينية المختصة .

ومع ذلك ظلت أصوات الاحتجاج تنبعث من أفواه عدد غير قليل من المثقفين المسلمين الذين يحبذون ظهور الشخصيات الإسلامية في الأدوار التلفزيونية والمسرحية والسينمائية.
 أما القدر الكبير من أصوات المدافعين عن موقف رجال الدين فيكاد يجمع على حجة واحدة يلتمسون بها مكان الأنبياء والرسل ورجال الإسلام بعيدا عن الفنون .
كانت هذه الحجة هي: استحالة تصوير الأنبياء وصحابة الرسول محمد تصويراً صادقاً يمثل أشكالهم وملابسهم وحركاتهم ، وأي محاولة لذلك ستكون افتراء على التاريخ مهما بلغ فيها الاجتهاد بالرأي وأن الشخصيات الإسلامية الممنوع ظهورها في أي مشاهد تمثيلية أو تصويرية هي: أياً من الأنبياء، الرسول محمد، أبوبكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، عبدالرحمن بن عوف، سعد بن أبي وقاص، أبوعبيدة الجراح، طلحة بن عبيدالله، الزبير بن العوام وحمزة بن عبدالمطلب.
ودون أن نخوض في تفصيل التفسيرات الدينية أو أن نلجأ الى وجهات النظر المذهبية، وهما أمران خارجان عن نطاق البحث هنا، وكذلك بعيدا عن الرغبات والآمال والمشاعر التي يحملها الكثيرون بحسن النية تجاه رغبتهم في ظهور الشخصيات الإسلامية على الشاشة العالمية ،وبخاصة بالنسبة لشخصية الرسول محمد، على أن تجدر الإشارة الى بعض الحقائق الموضوعية التي يمكن أن تستخلص من تاريخ السينما العالمية، وتصب في تقييم المحاولات والمشاريع الغربية التي ترتبط بظهور الشخصيات الدينية  .

أولاَ : كثيراَ ما يسيء العمل الفني إلى موضوع الرسل والأنبياء إذا أسيء تقديمه فنياَ أو أرجع مغزاه العام الى تفسير دون آخر . . أو أعتمد على معتقدات غير سليمة ، فيفقد العمل الفني بذلك حيويته التصويرية وكل ما له من قوة لإقناع المشاهد .
ونجاح بعض الأفلام التي صورت شخصية المسيح عليه السلام، مثل "الوصايا العشرة " لسيسيل دي ميل و "الإغواء الأخير للمسيح" لمارتن سكورسيزي أو حتى الأخير "الآم المسيح" لميل جيبسون، لا ينبغي أن تحملنا على تبسيط القضية، لأن أغلبية الأفلام استغلت استغلالا سيئاً على أيدي أعداء المسيحيين من السينمائيين اليهود وأصحاب الاتجاهات اللادينية.
فقد دس اليهود على هذه الأفلام الكثير من الأكاذيب التي كانت تبغي في المقام الأول محو بعض السلبيات العالقة بالتاريخ اليهودي الأمر الذي ظهر جلياً في فيلم "ملك الملوك" لمخرج "الوصايا العشرة" سيسيل دي ميل ومن تأليف الكاتبين صامويل برنستون وفيليب بوردان اليهوديان ، وكذلك فيلم "بين هور" لمخرجه وليم وايلر.

ومع تزايد عدد الأفلام التي أنتجت عن المسيح حتى بلغت 390 فيلماً، بدأ من فيلم "حياة والآم يسوع المسيح" للمخرج فردينان زيكا عام 1904م كأول فيلم من نوعه، ثم "حياة المسيح" 1908م، و "ميلاد المسيح" 1909م، وقدم في نفس العام المخترع الأمريكي توماس أديسون فيلم "نجمة بيت لحم"، وفي عام 1912م قدم سيدني أولكوت فيلم "من المهد الى الصلب"، ثم الفيلم الناطق الأول الذي قدمته جماعة (شهود يهوه) عن رواية "أيام الخلق المصورة" في عام 1914م وتناول قصة الخلق ابتداء من خلق الأرض وحتى نهاية "ملك المسيح" كما يطرح الفيلم.. وهكذا، استمر تدفق الأفلام حتى وصل العدد الى 390 فيلما مع "الآم المسيح" لميل جيبسون في عام 2003م.
ومع كثرة هذه الأفلام وإثارة الكثير من الجدل حولها بدأت الكنيسة تتدخل وتدرس: هل تمنع ظهور المسيح والأنبياء على الشاشة أم لا، وهل تقوم بمراجعة الأعمال التي تتناول سيرته أو سيرة أحد الأنبياء قبل عرضها أم بعد العرض .
النقطة الأولي حسمها البابا بولس السادس حين وافق علي تصوير فيلم "يسوع الناصرة" للمخرج فرانكو زيفيريللي وأعلن مباركته لهذا الفيلم .
والشيء نفسه حدث مع فيلم "جبل العذاب" الذي أخرجه الفرنسي جوليان دوفافيه عام 1935.
أما النقطة الثانية فرأتها الكنيسة ضرورة ملحة حين ظهرت أفلام أثارت غضب رجال الدين المسيحيين كثيراً، وأدانتها الكنيسة في الوقت نفسه مثل فيلم "الرداء" لهنري كوستر أو فيلم "بين هور" بنسختيه: الأول إخراج الأمريكي فريد نيبلو عام 1925والثاني إخراج وليم وايلر عام 1959م.
كانت هناك أيضا اعتراضات كثيرة على أعمال رأتها الكنيسة تركز علي ضخامة الإنتاج والإيرادات دون أن تضع في اعتبارها أي قيم روحية أو دينية مثل فيلم "ملك الملوك" الناطق الذي أخرجه نيكولاس راي عام 1961 وكانت أبرز الانتقادات التي تم توجيهها لهذا الفيلم هي أنه قدم المسيح على أنه أشقر الشعر وأزرق العينين (تم عرض الفيلم بالقاهرة في منتصف الستينيات وأحدث جدلا هائلا أدي إلي سحبه من دور العرض خلال عشرة أيام) والى ضخامة الإنتاج الفارغة من المحتوى الديني ، وكذلك فيلم "أكبر قصة لم تخبر بعد" لجورج ستيفن عام 1965م ، الذي سبقت عرضه هالة إعلانية كبيرة من أجل استقطاب الجماهير لمشاهدته، وعندما عرض كان مخيباً للآمال الكنسية، إن صح القول. أما فيلم "يسوع المسيح سوبر ستار" لنورمان جويزون عام 1973م الذي أخرجه عن المسرحية الغنائية التي حملت الاسم نفسه ، وظلت تعرض علي مسارح لندن وبرودواي لأكثر من اثنتي عشر سنة لقت خلالها الكثير من الانتقاد بسبب ما يعتريه من تشويه وفبركة درامية لا تمت للتاريخ بصلة ، حسب ما يدعي ناقدوه .

ومن نافلة القول أن نؤكد على طبيعية ومنطقية أن يقدم المسيحيون أفلاما عن المسيح أو عن النبي موسى، لكن من غير الطبيعي والذي تتصدر سوء النية المشهد فيه هو أن يقوم يهودي ملحد بتقديم فيلم عن المسيح، وهذا ما فعله روبيرتو روسوليني عام 1976 حين قدم فيلم "المسيح"، فمن المعروف عن روسوليني أنه كان يهودياً ملحداً، وهو الأمر الذي أثار حفيظة المتدينين المسيحيين واليهود علي حد سواء، خاصة أنه أظهر المسيح في صور وصفها الناقد هنري فاسكييه بقوله: "روسوليني يهودي وأظهر المسيح في صورة باهتة غير قادر علي قيادة تلامذته وأتباعه".
 هناك أيضا فيلم المخرج الإيطالي بير باولو بازوليني الذي أخرجه عام 1964(اعترضت الكنيسة الكاثوليكية على عرضه في مصر فاكتفت شركة التوزيع بعرضه في نادي السينما فقط ) بازوليني أهدى فيلمه هذا والمعنون بـ "إنجيل متي" إلي "ذكرى البابا يوحنا الطيبة"، لكنه أثار جدلاً نخبوياً لما تضمنه من مشاهد جعلت صورة المسيح تلتصق بالفكر الثوري وبطبقة البروليتاريا في العالم الثالث في سياق رؤية بازوليني الاجتماعية والفكرية كداعية ترتبط دعوته إلي قيم روحية جديدة بالدعوة الاجتماعية إلي تغيير أوضاع الفقراء والبسطاء والمهمشين والبؤساء وسعيهم إلي خلق مجتمع جديد، وهي الآراء التي اعتبرها الأصوليون المسيحيون تحريفا وتشويها لصورة المسيح .

والشيء نفسه تقريبا حدث مع المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني فقد أقام الدنيا كلها، وطالته اتهامات عديدة أدت في النهاية إلي تأخير عرض فيلمه "الحياة حلوة" 1962، وهذا كله بعد أن احتج الفاتيكان على المشهد الأول في الفيلم ، ولكنه حصل على جائزة السعفة الذهبية في كان 1962.
كل تلك الاعتراضات والجدل يمكن وضعها في كفة وفيلم "الغواية الأخيرة للمسيح" في كفة أخرى، وهو الفيلم الذي أخرجه مارتن سكورسيزي، كما أسلف الذكر، عام 1988 عن رواية للكاتب اليوناني نيكوس كزانتزاكس، صور فيها المسيح في صورة الإنسان الضعيف أمام شهوات الجسد، ووقت عرض الفيلم قامت جماعات مسيحية بالاعتداء على عدد من دور العرض وتم تفجير قنبلة بإحداها في باريس، وأقيمت دعاوي قضائية عديدة ضد الفيلم ومخرجه في كثير من الدول بينها بريطانيا التي لم تجز عرض الفيلم بنسخته الكاملة إلا بعد فترة طويلة نسبيا "نظرا للنوايا الطيبة والمخلصة لصاحبه"، كما ذكر الإعلام البريطاني عن مذكرة السماح الصادرة من الكنيسة حينذاك .
وفي عام (1989) قدم المخرج الفرنسي- الكندي دينيس أركان فيلمه "مسيح مونتريال" وهو عمل بصري أصيل غير مسبو، يحاومن لوله كشف تناقضات ثقافة كاملا وانهيار العلاقات الإنسانية وتفككها في الغرب .

ثانياً : أن الفيلم الديني ينتمي بالضرورة الى السينما التاريخية. ومن الشروط المؤكدة بهذه السينما إقامة علاقة معينة بين الأطراف المسئولة عن عالم السينما وبين النظام العام للسلطة فالفيلم التاريخي بصفة خاصة يحتاج الى إعادة خلق فترات زمنية معينة، مما يستلزم إمكانيات مادية باهضة، لذلك كان من الصعوبة تنفيذ الأفلام التاريخية الخارجة عن نطاق مصلحة الدولة وإهتماماتها .
ولهذا فإن الإنتاج العالمي سواء في الشرق أو الغرب يوضح بدرجة كبيرة العلاقة المباشرة بين ما تهدف إليه السلطات الرسمية وما يهدف إليه المنتجون من وراء تنفيذ الأفلام التاريخية عامة والدينية خاصة.

وبالعودة الى مبتدأ حديثنا عن الفيلم التركي الألماني ( محمد رسول الله ) في محاولة لربطه بالفترة الزمنية التي ظهر فيها كمشروع ، سنجد أمامنا عدة معطيات لا ينبغي تجاهلها. فالسلطة التركية ،وهي الطرف الأول المشارك في إنتاج الفيلم والتي باركته، كانت سلطة "أتاتورك" الذي رفع شعار التخلي عن مظاهر الحضارة الإسلامية في سبيل اعتناق ثقافة أوروبا وحضارتها، مستغلا في ذلك الوسائل الإنسانية وغير الإنسانية ، فقد ألغى الخلافة الإسلامية وأغلق المحاكم الشرعية وأوقف عمل الهيئات الدينية ، وأصبحت مباديء عدم التدين مكفولة بنصوص الدستور . وفي عصره أيضاً ساد التفكير الغربي أو بالأحرى "الفلسفة الوضعية الغربية" بقوة سلطة الحكومة وأصبح من العسير على المنصف أن يسميه تفكيراَ. وتحول الأمر الى أن أصبح لا دينية تفرضها إدارة السلطان أتاتورك كما يقرر "ت كويلربنج" بترجمة الدكتور عبدالرحمن محمد أيوب في سلسلة الالف كتاب العدد 116 .

أما الطرف الثاني وراء المشروع وهو السينما الألمانية التي كان فهمها للعرب والإسلام واضحا وصريحا ومسجلاً في عدة أفلام منها : "ليلة عربية" 1920، "عطيل" 1922، "هارون الرشيد"1924 و"مغامرات الأمير أحمد" 1925 . وهو فهم يتضمن فكرة واحدة تدور حول الحاكم العربي المتبجح الذي لا يقيم وزنا لأي مبدأ وكل ما يشغله التمتع بملذاته المتمثلة في الجنس والطرب والخمر. تلك الصورة النمطية التي تصوره جالساً على عرشه وقد اعتمر عمامته التي تزينها جوهرة كبيرة وأصابعه الممتلئة بالخواتم وهو ممسك بقدح الخمر الذهبية المرصعة بالأحجار النفيسة .
بالإضافة الى تلك الأفلام هناك فيلم "موسم في القاهرة" 1933 الذي صور في مصر وكان نموذجاً بالغ الضدية للعرب المسلمين، وهاجمته الأقلام العربية حين ذاك، مؤكدة على أن الرقابة المصرية قد حذفت منه الكثير من المشاهد المسيئة مثل ذلك المشهد الذي يصور حفلة ذكر للدراويش على أنها صلاة المسلمين شديدي الإيمان .
* * *
ما يهمنا هنا هو أن موقف العداء من الدين الإسلامي كان قائماً بالنسبة للسينما الألمانية ـ وهي جزء من الفكر النخبوي الألماني ـ سواء قبل الحرب العالمية الثانية أو بعدها وعندما تحالفت مع أتاتورك لتقديم فيلم عن الرسول محمد كانت النية الحسنة بالنسبة للطرفين مفقودة ، وكان الهدف من تصوير شخصيته أو الشخصيات الإسلامية لا يمكن رصده لصالح الشعوب المسلمة، وهو بالضبط ما يمكن سحبه على الأفلام التي أنتجت في دول مختلفة أوروبية أوأمريكية عن المسيح ، حيث لا يمكن توصيفها في مجملها لصالح الشعوب المسيحية، فهناك دائماً صراع وأيديولوجيا وثقافة تحاول إثبات ذاتها وترسيخ أفكارها على حساب الأخرى .

ثالثاً : بالإفتراض جدلا أن النية الحسنة كانت قائمة وأن كل العناصر المادية والفنية كانت مهيئة بحيادية لتقديم فيلم عن الرسول أو الشخصيات الإسلامية فستواجهنا الحقيقة التي تؤكد أن "تقديم الحقائق الدينية أو التاريخية بشكل غير متحيز من خلال السينما أمر صعب الحدوث. . بل يمكن القول أنه أمر مستحيل تماماً إذا اعتبرنا متطلبات الوسيلة ـ سينما كانت أو مسرحاً ـ متاحة ، ففي كثير من المشاهد يمكن أن  يستغنى عن الشخصية الدينية تماماً، أو قد تبرز بشكل مبسط وصغير جداً. كما أن الكثير من الأحداث تختلق ليمكن السير درامياً بالقصة الى نهاية معقولة".
وستتأكد لنا هذه الحقيقة من خلال فيلم "الرسالة" محمد رسول الله. لمصطفى العقاد والذي شاركت في تمويله المغرب والكويت وليبيا ، حيث بذلت جهود كثيرة لإحياء الفترة ما بين بلوغ النبي لسن الأربعين ـ سن بداية الرسالة ـ وحتى وفاته بعد اثنين وعشرين عاماً وهي الفترة التي برزت فيها أحداث التاريخ الإسلامي والدعوة المحمدية. كل ذلك ودون أن يظهر الرسول على الشاشة، فكانت النتيجة بروز الكثير من عناصر التقصير الدرامي، حيث أعترى بعض المشاهد الركاكة والغرابة .
 ورغم أن المخرج حاول أن يستحضر في نطاق وظيفته كل ما لديه من إمكانيات فنية لتحقيق الإدراك الكامل للأصل التاريخي ذو الطابع الديني إلا أن التأثير النهائي كان محدوداً.

وقد استوعب العقاد هذه الحقائق بعد تقديمه لفيلم الرسالة حيث نراه يصرح عام 1985 في حوار تلفزيوني ( فيلم الرسالة كموضوع أعتز به، ولكن المحظورات التي واجهتها سواء من الناحية الفنية أو التاريخية جعلت من الصعب علي تكثيف ومتابعة الشخصيات من الناحية الدرامية ، فقد كانت الشخصية تقتل في فترة معينة لتظهر شخصية أخرى مما أفقد الفيلم التسلسل الدرامي من بدايته حتى نهايته ).

ومع ذلك وبعيدا عن الشخصيات الإسلامية التي حرم ظهورها على الشاشة كان أمام السينما العالمية عشرات الشخصيات الإسلامية التي كانت ذات أهمية أو ذات طابع مفصلي في تاريخ العالم والأمة الإسلامية، ورغم ذلك تم تجاهلتها واكتفت بالشخصيات التي تحقق للسينما الغربية الفرصة لخلق مواجهة وصدام بين هذه الشخصيات الإسلامية وشخصيات أوروبية لها ثقلها التاريخي ويمكن مساندتها سواء بالحقائق أو بالزيف لمسخ دور الشخصية العربية من التاريخ .
ولكن ثمة بوارق سينمائية تلمع مرة هنا ومرة هناك من شأنها تقليص حدة الصراع الدائر وتهدأ من وتيرة الصدام مثل أفلام : "لورانس العرب" 1962م للمخرج ديفيد لين، الذي قدم الشخصية العربية المسلمة في إطار يقارب الحقيقة التي وقف عليها مؤلف كتاب "أعمدة الحكم السبعة" توماس إدوارد لورانس، برؤية مستشرق (ضابط) عايش وتفاعل وأثر وتأثر بالشخصية العربية المسلمة عن كثب وحميمية .
وكذلك فيلم "مسيح مونتريال" المشار إليه قبل أسطر، وفيلم "إبراهيم وأزهار القرآن" للفرنسي فرانسوا دوبيرون الذي نال عنه عمر الشريف جائزة سيزر 2004م .

غير أن ما يدعم توجه التعتيم والتجهيل بالشخصية الدينية الإسلامية هو بعض الممارسات التي تفرضها بعض الجهات الدينية الإسلامية، ففيلم "القادسية" للمخرج صلاح أبو سيف والمنتج عام 1979م والذي أصبح جاهزا للعرض في عام  1981م وقد منعت لجنة الأزهر عرضه جماهيريا، وجاء في نص المنع : تدور أحداث هذا الفيلم حول الصراع بين العرب والفرس وانتصار العرب في معركة القادسية بقيادة الصحابي سعد بن أبي وقاص واللجنة التي شاهدت الفيلم ترى أنه قد خرج على ما أجمع عليه علماء المسلمين وأقره مجمع البحوث الإسلامية من منع تمثيل شخصيات العشرة المبشرين بالجنة ، وسعد بن أبي وقاص بطل هذه الملحمة واحد من هؤلاء المبشرين العشرة . ويستند هذا المنع في الأصل إلى قرار وزارة الإعلام والثقافة المصرية رقم 220 لعام 1976 المشار إليه فيما تقدم بشأن القوانين الأساسية للرقابة على المصنفات الفنية, فهذا القرار في حد ذاته قد ساهم بصورة أساسية في إبتعاد المنتجين والمهتمين بهذا النوع من الأفلام عن إنتاجها خشية الوقوع في شرك قرارات المنع وتدخل علماء الدين في تفسير كل شاردة وواردة مما يعيق حرية التفكير والإبداع في تناول الموضوعات الدينية فنياً .
 والمشكلة تتكرر كلما أقدم مخرج أو منتج على التفكير في تقديم عمل جديد يتناول موضوعا دينيا ولعل ما حدث للمخرج المصري يوسف شاهين في فيلم المهاجر 1992م خير دليل على ذلك، فقد وصل الموضوع إلى حد الحسبة التي أقامها أحد المحامين لوقف عرض الفيلم ، ورفض الأزهر الفيلم بشكل تام كونه يجسد شخصية أحد الأنبياء"النبي يوسف عليه السلام". وتحت ضغط الأزهر أضطر المخرج لإعادة كتابة السيناريو، كما غير أسم الفيلم من "يوسف وأخوته" إلى "المهاجر"، و اضطر أيضا إلى كتابة مقدمة تعرض في بداية الفيلم تنص على أن الفيلم لا يتعرض لشخص من الأنبياء ولا علاقة له بقصة النبي يوسف ولا يمت بصلة إلى أية أحداث تاريخية. إلا أن الأزهر رفض الفيلم رفضا قاطعا بحجة تحريم ظهور الأنبياء على الشاشة .
ومما تقدم يتضح أن معظم الأفلام الدينية التي أنتجت داخل مصر وخارجها قد تعرضت إلى الكثير من الاعتراضات والمنع من قبل الأزهر .
                                        * * *
"يصنع الناس التاريخ أكثر مما يصنع التاريخ الناس ، بيد أنه لا يمكن وجود جنس أو أمة اتسم تاريخها بالطابع الشخصي أكثر مما اتسم به تاريخ العرب، ففي قرابة أربعة عشر قرنا منذ ظهور النبي محمد عليه الصلاة والسلام تتكشف قصة العالم العربي مثل سلسلة جبال ممتدة تمثل قممها الشاهقة الفتوح وعظائم الأعمال التي قامت بها الشخصيات التاريخية الكبرى وفيما بين القمم أغوار شديدة الانحدار من التدهور العميق بعد أن تغادر كل شخصية كبرى التاريخ" .
تلك كانت المقدمة العميقة المغزى للسياسي الإنجليزي "أنتوني ناثنج" في مدخل كتابه المعنون بـ (العرب)، وهي كلمات تجسد الوجه الآخر من النظرة الغربية تجاه الشخصيات التاريخية العربية سواء التي عالجتها المؤلفات الغربية ذات الطابع التاريخي أو التي قدمتها السينما الأمريكية والأوروبية في أفلام سينمائية ، وما صاحب هذه الأفلام من تنقيب عن تفسيرات دينية وسياسية تصلح كأساس لتشويه هذه الشخصيات أو تجاهل أدوارها الإيجابية ، أو التركيز المقصود على شخصيات كان لها أدوارها السلبية في تاريخ الأمة العربية ، وقد يساور الشك في الخروج من الحالة الراهنة مع انعدام وجود سينما عربية قوية التأثير تستطيع الوصول الى المتفرج العالمي بالإمكانيات الفنية العالية. . فلو وجدها هذا المتفرج فإن الأمر سيتلف بالنسبة لعرض القضايا والاحداث والشخصيات الدينية ، وهذا لا يعني أن تكرر الأخطاء وتقدم أفلاما مجابهة تشوه الشخصية الدينية الأخرى ، فستصبح النظرة حينذاك أحادية الجانب ويجب إدراك مقولة أنتوني ناثنج ففي "حالة النزاع والتباين بين الشعوب يختلف موقف البطل والشرير وفقاً لاختلاف نظرة كل شعب له".

ومن هنا تفرض المسؤولية الحضارية تقديم الأحداث والشخصيات التاريخية بعيداً عن أية مؤثرات تنصرف عن طريق الحقيقة والموضوعية .
ولا جدال أن السينما العربية في الثلث الأخير من القرن العشرين بدأت تدرك الضرورة الى تقديم صورة تتحرى الحقيقة التاريخية مثل "الرسالة" و "عمر المختار" لمصطفى العقاد و "المسألة الكبرى" لمحمد شكري جميل و "وداعاً بونابارت" و "المصير" ليوسف شاهين و الفيلم الوثائقي "إبن سعود ـ ملحمة الصحراء" وهو فيلم مشترك بين التلفزيون السعودي و القناة الثانية الفرنسية ضمن برنامج ملفات الآن ديكو .  

ـــــــــــ
المصدر : كتاب الفانوس السحري ـ الجزءالأول : خالد ربيع السيد ـ 2008 دار الإنتشار العربي . بيروت 

ليست هناك تعليقات: