مختارات سينما إيزيس
« لابد أن تكون الجنة» ..
المقاومة بالصمت الساخر والتأمل القاتل !
• عنوان ساخر يؤكد على أن الجنة وهمية ومزعومة .. وأن العنف والفوضى والعبث يجتاح العالم بأكمله وليس فلسطين وحدها !
بقلم
مجدي الطيب
في فيلمه الساحر «لابد أن تكون الجنة»، يقطع المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، مشواراً كبيراً في طريقه، الذي اختاره بإرادته، وميزه عن غيره من مخرجي السينما القلسطينية، بإصراره على التذكير بالقضية الفلسطينية، بأسلوب سرد مختلف، وزاوية إنسانية مبتكرة،، تتبنى لغة بديلة، تلعب فيها الكوميديا السوداء، والسخرية، فضلاً عن الصمت المتأمل، نقطة إنطلاق جوهرية، بعيداً عن «الحدوتة»، وكل ما اعتدنا عليه في الأفلام التي تتناول القضية الفلسطينية .
كالفنان التشكيلي البارع يرسم «سليمان»، بأسلوب «كافكاوي»، لوحات، من الواقع العالمي المأزوم، يرى أن ثمة علاقة تربط بينها وهموم وطنه فلسطين، وما يموج به العالم من عبث، فوضى، وعنف، ثم يُعلق عليها بوضعية المراقب، الذي يُخالجه شعور قاتل بأن «نهاية العالم الآن»، ولا يخفي انفعاله، لكنه يعبر عنه بلغة صمت بليغة لا تخلو من سخرية، يوظف فيها عينيه المندهشتين، وحاجبيه المرفوعين، وقسمات وجهه المعبرة، ليقول الكثير، من دون جملة حوار، أو ثرثرة، فهو، وهنا الذكاء، يختار مشاهد من الواقع اليومي، لا تملك، بعد أن تراها، سوى أن تقول : «كيف لم أتوقف مثله أمام هذه المشاهد، وأنا أراها كل يوم»، وهنا تتجلى عبقريته، التي أفصح عنها في فيلمه الجديد المليء بالايحاءات والإحالات والإيماءات .
المقاومة بالسخرية
في «لابد أن تكون الجنة» يستلهم إيليا سليمان روح «حنظلة»، الشخصية الكاريكاتورية، التي أبدعها الفنان الفلسطيني الكبير ناجي العلي، ويظهر فيها «حنظلة» دائماً، وقد عقد يديه خلف ظهره، ويشيح بوجهه بعيداً عنا، ليتأمل العالم من خلالها، ويربط بينها وقضايا آنية، قد تبدو عابرة، لغير المتأمل / الفيلسوف، كإيليا سليمان، الذي يبدأ فيلمه بكوميديا سوداء، وسخرية لاذعة، من رجل الدين، الذي يقود احتفالاً شعبياً بعيد الفصح، ووسط طقوس الاحتفال، يفاجأ بإغلاق الكنيسة، لأن القساوسة مشغولون داخلها بتعاطي الخمر، فلا يملك سوى أن يتخلى عن وقاره، وسماحته المعتادة، ويخلع غطاء رأسه الكهنوتي، ويقتحمها، عنوة، في مشهد غاية في الجرأة، التي تتحول إلى طرافة، ورسائل لها مغزى، مع تتابع لوحات فيلمه؛ الذي يبدأه بتحية للمرأة الفلسطينية، التي ارتدت الزي الوطني، وراحت تجول، في حقل الزيتون، حاملة جرتين مملوئتين بالحليب، لتضع إحداهما على الأرض، وتمضي لتبيعها، في ما يبدو، ثم تعود لتنقل الأولى، في رتابة متعمدة، وإيحاء واضح، بتشبثها يالأرض، وإصرار على العطاء، ومواصلة الحياة اليومية، رغم أهوال، وفظائع الاحتلال الإسرائيلي، الذي يتعمد «سليمان» تهميشه، وفي المشهد الذي يُظهره فيه يرصد وحشية جنوده، وعنفهم، وفاشية، وقمع، دولة الاحتلال، التي لا تقل قسوة وبشاعة عن دول العالم المتحضرة، التي يحكمها رجال الشرطة، وتحلق في سمائها الطائرات، كما في فرنسا، عاصمة النور والحرية، ويسودها العنف، بدليل تسليح مواطنيها، كما في أمريكا، في دلالة كاشفة على التوتر الذي يعصف بالعالم، وليس فلسطين فحسب !
الجنة المزعومة
ربما لهذا السبب (التوتر والعنف اللذان يسودان العالم)، بدا وكأن عنوان الفيلم جزء أصيل في سياق السخرية، التي اختارها «سليمان» منهجاً له؛ فالفارق بين ما يحدث في فلسطين والعالم ليس كبيراً، والجنة ليس لها وجود؛ فالجار الفسطيني الذي يستولي على شجرة الليمون المثمرة في حديقة منزل البطل ((إيليا سليمان نفسه)، أنموذج للاستغلال الذي يسود العالم، والتناقض في مشهد الأشقاء اللذان يتعاطيان الخمر، في المطعم، ويعنفا صاحب المطعم، لأنه وضع النبيذ في طعام شقيقتهما، بحجة أن الإسلام يُحرم الخمر، ليس بعيداً عن التناقض الذي يجثم على أهالي نيويورك وباريس، بينما الوهم في رواية الجار الفلسطبني، الذي أنقذ الحية من النسر، فما كان منها سوى أن ردت له الجميل فنفخت إطار سيارته، وانحنت له، هو الوهم نفسه، والتدليس، اللذان يُحركان العالم، ويدفع المنتج الأمريكي إلى رفض إنتاج السيناريو الذي قدمه له المخرج الفلسطيني، بحجة أنه لا يعبر عن القضية الفلسطينية، بينما الشرطة تُطارد امرأة فرنسية، ليس لأن صدرها عار، بل لأنها تدثرت بعلم فلسطين، وتلاحق شاباً إفريقياً، في قهر لا يختلف عن ذلك الذي يحدث في فلسطين، في تأكيد جديد على أن الجنة وهمية، ومزعومة، والعبث يُخيم على العالم، بدليل حرص الشرطة على ألا يتجاوز المقهى الحدود المرسومة له، على الرصيف، بينما الإنسانية "الصورية" تتجلى في وصول سيارة الإسعاف لرعاية متشرد افترش الرصيف، فترعاه صحياً، وقدم له الطعام الساخن، ثم تتركه على حاله، على الرصيف، وكأنها أدت واجبها "الشكلي"، بينما سيارة النظافة تُزيل روث الجياد التي امتطاها الجنود أنفسهم !
مشاهد عبثية التقطها «سليمان» برؤية تقطر بالسخرية، التي تصل إلى ذروتها بمشهد سائق السيارة الأجرة، التي يستقلها المخرج الفلسطيني (إيليا سليمان نفسه)، أثناء وجوده في نيويورك لتأمين دعم إنتاجي لفيلمه، وعندما يؤكد للسائق أنه فلسطيني من الناصرة، يتعهد له بأن تكون رحلته مجانية، ثم يبادر بالاتصال بزوجته، في فرحة طاغية، ليبلغها بأن معه فلسطينياً وكأنه أعجوبة في هذا الزمان، وتتواصل السخرية مع تحول اسم "عرفات"، على لسانه إلى "كرفات"، وغناء ورقص الشباب المخمور، في الملهى الليلي، على إيقاع أغنية "عربي أنا" !
العودة للوطن بعد الصدمة
بعد الملاحظات الدقيقة، واللوحات الساخرة، يعود بطلنا الفلسطيني إلي وطنه ليجد المرأة الفلسطينة على حالها، مع جرارها، والجار يستولي على ثمار حديقته، وكأن شيئاً لم يتغير، في تجربة سينمائية مغايرة، قالت الكثير من دون جملة حوار، بل لوحات لا مكان فيها للحكايات، تراصت بجوار بعضها البعض، في إبداع جمالي (تصوير سفيان الفاني)، اعتمد على لغة الصمت كسلاح للمقاومة، وطرافة، كما في مشهد حوار البطل والعصفور على طاولة الكتابة، وتكثيف واختزال، كما في مشهد الرجل المخمور، الذي ينطق بالحكمة : «الناس تسكر لتنسى، إلا الفلسطيني يسكر لكي يتذكر» !
فيلم مُفعم بالأمل، رغم خيبات بطله، الذي يزرع شجرة جديدة في حديقته، في إصرار على التشبث بالأرض، والثقة في أنها ولادة، وتفيض بالخير، ولغة سينمائية امتزج فيها الصمت بالسخرية، والتأمل بالحكمة، والخيال بالواقع، والكوميديا السوداء بالرسالة المبطنة، التي تنضح بحب الوطن، من دون خطابة، وطنطنة سياسية، أو شعارات فارغة، كما في المشهد الذي اكتظت فيه منصة أحد المؤتمرات المناصرة للقضية الفلسطينية، في الغرب، بمتحدثين أكثر من المستمعين، في إيحاء بأنها صخب أجوف .. ومجرد «جعجعة بلا طحن» !
عن جريدة القاهرة الصادرة في 17 ديسمبر 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق