الملكة الافريقية امي الحاجة سيدة في ريعان شبابها
يامسافر لوحدك
بقلم
صلاح هاشم
--
الأم . الملكة الافريقية
تعلمت من أمي النوبية الحاجة سيدة بنت الحاج سيد محمد مرزبان التي تطبعت بطابعها ، أن أحترم البشر وأحب الخير لكل الناس، من عند عم محمود بائع اللبن الذي كان يأتينا في حينا العريق "قلعة الكبش" في السيدة زينب، قادما على دراجته من أعماق مجاهل الجيزة وهو يحمل لسكان منزلنا الحليب،ومرورا بالحاج بيومي النجار ،الذي كان يلاحقنا نحن الصغار الأشقياء بالشتائم حين نعبر من امام دكانه ، حتى لو لم نكن قد اقترفنا جرما،ولحد عم عوض صاحب محل البقالة ، في أول الدحديرة ، الذي كنت اقصده كل صباح، لكي آت لمنزلنا بالخبز، وعم عربي الترزي والاسطى حسين المكوجي وعم حسن الحلاق..
وكانت أمي توقظني وانا طالب في الجامعة من أحلاها نومة، وأنا اقف فوق مئئذنة مسجد احمد بن طولون ،وأستعد للقفز والتحليق، فاذا بها تقطع على سعادتي بالحلم، لكي اقوم وأسلم على عم محمود بائع اللبن، الذي يقف عند الباب،و تطلب مني ان أعامله بمقام جدي الحاج سيد محمد مرزبان مقريء القرآن ..
من غير ماتبقي كريم ونبيل وشريف في افعالك، إيش تسوى غير حفنة تراب على الأرض يا آدم. هكذا كانت تردد، ولم أكن أعرف هذا الآدم الذي تخاطبه امي في صلواتها..
وعندما غادرت مصر، وانطلقت في رحلتي الطويلة، وبعيدا جدا عن هنا، كانت دعوات امي النوبية الحاجة سيدة سيد محمد مرزبان من قلعة الكبش، تصحبني تحت بوابات العالم، فاذا بي أتبين جليا بعضا من ملامحها، في كل إمرأة عشقتها،وتسقيني من فمها الحليب..
***
* يامسافر لوحدك
كانت شمس الصباح الباكر، في حينا العريق ( قلعة الكبش ) قد أشرقت، وبدأت تدب حركة الحياة في شوارع وحواري وأزقة وعطفات الحي العتيق، وهو يطل من فوق هضبة ( جبل يشكر ) ، على الأحياء المجاورة. ويقال كما حكي لي جدي الحاج سيد محمد مرزبان، أن موسي ناجي ربه ، من فوق قمة الجبل، ونادي عليه..
طلب موسى من الرب، عدة أشياء، وأستجاب ربنا لطلبه. نفذ له ربنا عدة طلبات، وطلب من سيدنا موسى أن يحقق عدة طلبات أخري بنفسه.
فكرت أن الرب لو حدث وإستجاب لكل دعواتنا وطلباتنا، لخربت الدنيا.
فقد كنت أدركت بمرور الوقت ، ومن خلال تجربتي الشخصية، أن هناك طلبات انتقام وسحل وقتل وحرق وإبادة، بسبب التقاعس، والخيبة وقلة الحيلة، والتخلف والجهل، للانتقام ليس فقط من شخص، أو حاكم بلد، بل الانتقام في مايشبه ( التطهير العرقي ) من شعوب باكملها، وطوائف وجماعات وديانات، وتطهير العالم، من إثمها وشرورها وإرهابها.
أجل حكي لي جدي (الحاج ) سيد محمد مرزبان كثيرا عن طلبات موسى من ربه في طفولتي،كما حكي لي كذلك أبي ( عم هاشم ) من منيا القمح شرقية، الذي علمني السباحة وعمدني في بحر النيل، لكنني لم أعد أتذكرها..
لم أعد أتذكر كل الطلبات، ولم أعد أتذكر كذلك ، بعض الطلبات التي إستجاب لها الرب، والطلبات التي لم يستجب لها، فلم تكن تلك الظروف والأحداث التي عشتها وخبرتها عند عودتي من باريس الي القاهرة، تسمح لي بالتفكير في أي شييء آخر،غير التفكير والتركيز في ذلك الشييء، الذي حضرت الى مصر من اجله.الا وهو البحث عن فيلم ( كلام العيون )، وكتابة هذا التقرير الى الشاعر والمفكر والروائي اليوناني الكبير نيكوس كازانتزاكيس، صاحب( تقرير الى الجريكو )، ورواية ( زوربا اليوناني ).
إستيقظت أنا الحصان الشارد ياكزانتزاكيس على غير العادة أنذاك مبكرا، وكانت شمس الصباح الباكر في حينا العتيق ( قلعة الكبش) قد أشرقت، ولم أنشغل بأكل أو شرب أو إفطار، لأكتب لك هذا التقرير وبدأت أجمع بعض القمصان، ، ورتبتها مع بنطلونين وكتابين داخل حقيبة السفر.
ألتفتت الى ( الملكة الافريقية )، أمي الحاجة سيدة سيد محمد مرزبان، كما أحب أن أسميها..
وسألتني الملكة
- أما زلت تزمع الرحيل ؟
قلت وأنا أحاول أن أكتم عنها حزني ،في أعماقي، لفراقها، ومن يدري، ربما والى الأبد
- أجل
أخذت الملكة الافريقية نفسا عميقا
وصمتت لبرهة، ثم عادت لتسأل وهي مترددة
- الى أين ؟
أجبتها بشكل حاسم وقاطع مثل طعنة خنجر بغتة في الظهر ومن دون أن التفت إليها
- بعيدا جدا عن هنا
كانت صرخاته ،التي لم يلحظها أحد من سكان الحي من العجائز، مازالت تختلط بنباح الكلاب، بينما كانت طلبات الانتقام ترتفع داخل كل الأحياء المجاورة، وأنا أستمع الى أغنية قديمة، من ( كتاب الموتى . أو الخروج الى النهار )، تتردد من مذياع قديم، وتتسلل قادمة من البعيد، من فوق قمة جبل يشكر، الى داخل الغرفة.
وكأن ( الملكة الافريقية ) أمي الحاجة سيدة هي التي كانت تغني لي، وتخاطبني أنا الحصان الشارد بلسانها :.
يامسافر لوحدك ..
ليه تبعد عني .
على نار الشوق
أنا حاستنى.
وأصبر قلبي
وأتمنى
...
صلاح هاشم
فصل من كتاب ( تقرير الى نيكوس كازانتزاكيس ) لصلاح هاشم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق