« الإيرلندي»
المافيا جزء أصيل في الحياة السياسة الأمريكية
بقلم
مجدي الطيب
سيظل «سكورسيزي» صاحب بصمة ليس في إبداع أفلام العصابات والجريمة المنظمة فحسب بل في قدرته الفائقة على ربطها بالمتغيرات السياسية، وقراءة الواقع بشكل حميمي.
في سياق حوارات فيلم «الإيرلندي» يصف المخرج الشهير مارتن سكورسيزي بطل فيلمه «جيمي هوفا» بأن شهرته بلغت شهرة «ألفيس بريسلي» في الخمسينيات وفرقة «البيتلز» في الستينيات، لكنه لم يبرر سر انحيازه للراوية التي تقول إنه قتل، رغم تعدد النظريات التي تتحدث عن واقعة اختفائه، وإن وجدها فرصة ذهبية لفضح الحياة السياسية في أمريكا، وتضخم نفوذ المافيا، وسيطرتها على مقاليد الأمور،
نتيجة تغلغل الفساد
نتيجة تغلغل الفساد
اعتمد «سكورسيزي» على كتاب «سمعت أنك تطلي المنازل»، تأليف تشــارلز برانــت، التي كتب لها السيناريو ستيفن زاليان، وتروي مذكرات «فرانك شيران»، القاتل المأجور من قبل عائلة «بافلينو»، التي يكشف فيها الكثير من الأسرار حول مصير زعيم العمال الأميركي القوي جيمس ريدل هوفا المعروف باسم «جيمي هوفا» (1913 – 1975)، الذي غادر منزله ذات يوم متوجهاً إلى موعد مع اثنين من رجال عصابات المافيا (أنتوني بروفنزانو وأنتوني جياكالون)، لكنه اختفى، ولم يُعثر له على أثر ليُصبح واحداً من أكثر حالات الاختفاء القسري المسجلة في التاريخ غموضاً وإثارة؛ فالرجل الذي كان سائق شاحنة، وأصبح واحداً من أكبر زعماء النقابات العمالية الأمريكية، وأصبح شخصية إقليمية رفيعة الشأن، ورئيساً لاتحاد النقابات IBT، قبل أن تستقطبه المافيا، ويعمل لحسابها، ويُصبح رأس حربة بالنسبة لها، بالنظر إلى كونه وصل بعضوية الاتحاد إلى ما يقرب من 2.3 مليون عضو في الولايات المتحدة الأمريكية، تورطً في أعمال الجريمة المنظمة، وأدين بتهمة العبث، ومحاولة الرشوة والاحتيال، وتم سجنه عام 1967 وحُكم عليه بالسجن لمدة 13 عامًا. في منتصف عام 1971 ، وكان من الطبيعي أن يستقيل من منصبه كرئيس للاتحاد، كجزء من اتفاق مشروط للعفو من قبل الرئيس ريتشارد نيكسون، يقضي بابتعاده عن المشاركة في الحركة النقابية والسياسة أو السعي لإجراء انتخابات، لكنه لم يفطن إلى قواعد اللعبة، وأصر، بعد الإفراج عنه، على استعادة نفوذه، وسطوته، والعودة إلى قيادة IBT ، وعندئذ أصدرت المافيا حكماً بإعدامه، فاختفى في أواخر يوليو 1975 ولم يعثر عليه قط، ليُعلن عن موته قانونا عام 1982 !
نظرية سكورسيزي
لم يلتفت «سكورسيزي» إلى النظريات، والقرائن، التي طرحها مكتب التحقيقات الفيدرالي، والمحللون، التي تقول إن جسد «جيمي هوفا» وجد مختلطًا بمواد بناء في ملعب عملاق في شرق رذرفورد نيو جيرسي، وأنه دفن تحت أرضية الملعب العملاق، بينما ذهبت النظرية الثالثة إلى أنه قُتل على يد «فرانك شيران» في منزل أو ريتشارد كوكلنسكي، قاتل المافيا ، ثم احترق رماده، ولهذا السبب لم يُعثر على حمضه النووي، وهي الرواية التي ارتاح لها المخرج الشهير، وصنع من خلالها فيلمه، الذي اختار لبطولته آل باتشينو في دور «جيمي هوفا»، وروبرت دي نيرو في شخصية «فرانك شيران» ومعهما الممثل القدير جو بيتشي في دور رجل المافيا القوي «راســل بافالينــو»، فالأحداث تُروى على لسان القاتل الكهل «فرانك شيران»، أو «الإيرلندي»، كما كان يُطلق عليه، وتمتــد مــن نهايــة الخمســينيات حتــى منتصــف الســبعينيات، مستعرضة شــهادته، حول علاقته التي توثقت و«راسل بافلينو»، بعد ما تحــول مــن ســائق شاحنة تنقل اللحوم إلى قاتل محترف لحساب المافيــا، التي قدمته للأسطورة «جيمي هوفا»، وأعجب به كثيراً، وربطت بينهما علاقة عائلية وثيقة، صار فيها «هوفا» أكثر قرباً من «بيجي» (لوسي جالينا وفي مرحلة المراهقة آنا باكويـن)، ابنة «شيران»، التي توترت علاقتها بأبيها، عقب تنكيله بعنف بصاحب متجر، على مرأى ومسمع منها، لمجرد أنه كان فظاً في التعامل معها، ومن ثم فقدت الثقة في والدها، وأيقنت أنه قاتل أجير، وطوال الفصل الأول من الأحداث يُفرط «سكورسيزي» في تتبع شخصية «فرانك شيران» و«راسل بافلينو» حتى يُخيل لمشاهد الفيلم أنهما البطلان المطلقان للفيلم، قبل أن تستقيم الأمور مع ظهور «حيمي هوفا»، وامتلاكه للكثير من «الكاريزما»، التي أضفى عليها أداء آل باتشينو رونقاً كبيراً، ومن ثم تحول الفيلم إلى مباراة رائعة في الأداء بين الثلاثي دي نيــرو، الذي قدم الكتاب للمخرج، ويتعاون معه لتاسع مرة، وباتشينو، الذي يعمل معه لأول مرة، وجو بيتشي، حيث استحضر كل منهم خبراته، والنضج الذي بلغه، ليقدموا فيلماً من نوعية أفلام العصابات، والجريمة المنظمة، التي برع فيها سكورتيزي، لكنه أكثر نضجاً واختلافاً، وإبداعاً .
تصغير السن
يخطيء من يظن أن فيلم «الإيرلندي» هو الأول من نوعه في استخدام تقنيــة DE-AGING أو تصغيــر العمــر، فقد سبقه إليها أفلام أخرى، لكنه يُعد الأكثر إتقاناً، من حيث التأثيــرات الرقميــة الخاصــة بالصــورة، التي صممها بابلــو هيلمــان، وأسهمت بشكل فاعل وكبير في الإيحاء بالانتقال الزمني، والغوص في حقب مختلفة، من دون التنويه إلى ذلك بالكتابة على الشاشة، كما جرت العادة، فضلاً عن كونها لا تمثل عائقاً بالنسبة للممثل لاستحضار المشاعر التلقائية، وتمنحه قـدرة أكبر على السيطرة على الشخصية الدرامية،غير أن أهم ما أكد عليه «سكورسيزي» تمثل في جرأته في القول إن القاتل «شيران» لم يشعر، وهو يقترب من أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، أنه نادم على ما اقترفت يداه، كما وضح في المشهد الذي سعى فيه القس لاستتابته، لكنه أصر على ما فعل، ورفض محاولات القس، ورغم المدة الزمنية الطويلة لعرض الفيلم على الشاشة (ثلاث ساعات ونصف الساعة)، إلا أن المتلقي لا يشعر بلحظة ملل، أو انصراف عن أحداث الفيلم اللاهثة ( مونتاج ثيلما سكونميكر )، نتيجة أسلوب السرد الذي اعتمده كاتب السيناريو المبدع ســتيفن زاليان، والربط بين واقع الشخصيات، والأحداث السياسية التي شهدتها تلك الفترة (اغتيال كيندي)، ولا يمكننا تجاهل المشهد عظيم التأثير، الذي يبدو فيه «شيران» وقد تملكت منه الحيرة والشجن، بعد تلقيه الأمر بقتل «هوفا»؛ إذ يبدو وكأنه لا يملك من أمره شيئاً، وعليه تنفيذ التعليمات، وإلا انتظر مالا يحمد عقباه؛ فهو «عبد المأمور»، كما نقول، لكنه في الجانب الآخر الإنساني يشعر بتأنيب الضمير، وهو ما تجلى بقوة في مشهد تهربه من زوجته، عقب قيامه بالقتل، ومكالمته الهاتفية المتوترة وزوجة القتيل !
«الإيرلندي» فيلم ممتع، لا يخلو من الشجن الإنساني، وأغلب الظن أنه سيبقى طويلاً، بعد ما يتحول إلى واحد من أهم كلاسيكيات السينما العالمية، مثل «الأب الروحي»، وسيبقى «سكورسيزي» صاحب بصمة، ليس في إبداع أفلام العصابات، والجريمة المنظمة، فحسب، بل في قدرته الفائقة على ربطها بالمتغيرات السياسية، وقراءة الواقع بشكل حميمي، وتقديم النقد الجريء الذي لا يطاوله فيه أحد .
مجدي الطيب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق