ضاحية تستطيع ان تعيد الحياة الي منتصف العالم
شهوة الانتقام و"موسم الجفاف" في مهرجان لندن السينمائي
بقلم أمير العمري
لعل من حسنات مهرجان لندن السينمائي أنه يوفر عادة فرصة جيدة لجمهوره الكبير، للاطلاع على أحدث الأعمال السينمائية من شتى أنحاء العالم.
هذه الأعمال تشمل أفلاما من بلدان يعد نشاطها في المجال السينمائي مجهولا إلى حد كبير.
من بين هذه الأفلام فيلم "موسم الجفاف" The Dry Season للمخرج محمد صالح هارون من تشاد.
ويمكن اعتبار هارون الرائد الحقيقي للإخراج السينمائي في تشاد، وليس للسينما، فلا توجد هناك صناعة سينمائية أو إنتاج سينمائي له صفة الاستمرارية والدوام، بل وقد دمرت معظم دور العرض في البلاد بسبب الحرب الأهلية.
وقد أخرج هارون فيلمين قبل فيلمه الجديد هما "باي باي أفريقيا"و"أبونا " وكلاهما، بالإضافة إلى "موسم الجفاف"، من التمويل الفرنسي. ويدور الفيلم الجديد في أجواء الحرب الأهلية التي تمزق تشاد، والتي كانت أيضا الخلفية الرئيسية التي تدور حولها أحداث الفيلمين السابقين.
وتبدأ الأحداث في إحدى القرى القريبة من العاصمة نجامينا. الإذاعة تعلن صدور عفو رئاسي عن الجرائم التي ارتكبت أثناء الحرب، في محاولة لتحقيق مصالحة ووقف لأعمال العنف. تكليف بالانتقام
الشاب الصغير "يتيم" قتل والده بطريقة بشعة ودون مبرر. جده الأعمى يطالبه بالانتقام كمبدأ أساسي ضمن تقاليد القرية.
البيئة صحراوية فقيرة، والشمس الحارقة تضفي جفافا يتسلل إلى ما تحت جلد الصورة ويمنحها حرارة وقسوة. واللقطات الطويلة بتكويناتها الخاصة التي يتسع فيها الفراغ ويبدو الشخص ضئيلا في منظور الصورة، تكثف الإحساس بالوحدة.
"يتيم" يتسلح بمسدس أعطاه إياه جده، ويشق طريقه خارج القرية نحو العاصمة، بهدف العثور على قاتل والده والانتقام منه.
في المدينة.. يحاول أحد الشباب مصادقته، يبدو ودودا يريد أن يساعده. صاحبنا، ماض في طريقه، لا يرغب في أن يحرفه أي شئ عن هدفه المحدد والمستقر في أعماقه.
وعندما يعثر على الرجل الذي قتل أباه ويدعى "نصّارة" يجده قد تاب عن العنف وأصبح شيخا متدينا، يعمل خبازا، يقدم الخبز للأطفال والأسر الجائعة بدون مقابل. أب بالتبني
يرحب الرجل بالفتى. يدخله إلى بيته، يعرفه على زوجته، يعلمه كيف يصنع الخبز. يحاول التودد منه، ويعتبره هدية من السماء، تعويضا من السماء لحرمانه من الإنجاب.
زوجة الرجل الشابة تعيش حياة مليئة بالوحدة والملل مع "نصّارة" الذي يكبرها كثيرا في العمر. تحاول التودد إلى "يتيم"، تقضي بعض الوقت معه في لعب الورق فيما الزوج غائب يأتي بمواد صنع الأرغفة.
تبدأ ملامح علاقة صداقة بين يتيم والزوجة. الزوج يلحظ التطور الوليد. يسارع إلى تحذير يتيم. يستفيق يتيم من غفوته العابرة. يرتد إلى التمسك بهدفه المبطن.
عصر كل يوم يتجمع الأطفال والنساء من الأسر الفقيرة التي مزقت حياتها الحرب الشرسة الدائرة، أمام منزل نصّارة، ينتظرون الخبز.
نصّارة يؤذن الصلاة بانتظام، ويؤم المصلين. لقد أصبح الماضي القاسي العنيف وراء ظهره تماما.
يتيم يتقاسم مع نصّارة كل شئ تقريبا: المسكن والطعام وحب الناس. أما الزوجة فهي بعيدة مغيبة في الخلفية. تساؤلات وجودية
إصرار الفتى يتيم يبدو أنه قد بدأ يهتز قليلا. أكثر من مرة يحاول أن يخرج مسدسه ويحقق انتقامه الخاص، لكنه يتراجع.
وتبدأ عشرات التساؤلات تدور في ذهنه: هل يمكن أن يتغير الإنسان من الشر إلى الخير؟ وهل يمكن للمرء أن يصفح وهو القادر على الفعل؟ وهل يسهل عليه أن يتقاعس عن تنفيذ ما وعد جده بالقيام به؟
ما معنى إن تقتل رجلا أطعمك ووفر لك الملجأ والمأوى وجعلك مثل ابنه تماما؟ هل سيؤدي هذا القتل إلى عودة الأب إلى ابنه، و الإنسان إلى حياته السابقة يستأنفها دون أن يهتز له جفن؟
تساؤلات فلسفية كثيرة يكثفها هذا الفيلم الساحر الممتع الذي تتوالى فصوله في أجواء تشيع فيها اللقطات البعيدة والمتوسطة التي تسمح بمسافة ذهنية للمتفرج لكي يتأمل في معنى وقيمة ما يراه.
بعيدا عن المدينة، في الصحراء، يشتد التعب بالرجل "نصّارة". لقد أصبح كهلا شبه عاجز عن الحركة. يظهر الجد يطالب حفيده يتيم بأخذ ثأره من الرجل الذي قتل أباه.
يخرج يتيم المسدس، يصوب مباشرة إلى رأس الرجل. يبعد فوهة المسدس ويطلق النار في فراغ الصحراء.
لقد فضل التسامح والتخلي عن الثأر طلبا للحياة، الحياة بعيدا عن دائرة القتل والقتل المضاد.
هذه الرسالة الروحية الكبيرة التي يصوغها الفيلم بعبقرية وبساطة، موجزها أن العالم كفاه ما فيه من عنف، ولا يوجد ما يدعو لأن نزيده عنفا ورعبا وبؤسا.
صحيح أن العفو الجزافي عن مرتكبي "جرائم حرب" قد يؤدي إلى المساواة بين الضحايا والجلادين، وقد يبعث برسالة خاطئة إلى أقارب الضحايا ويدفعهم إلى تولي تطبيق العدالة بأيديهم وعلى طريقتهم الخاصة. انتصار العقل وقيمة التسامح
غير أن العقل يجب أن يتغلب على العاطفة، والتقاليد المتوارثة يتعين علينا تهذيبها وتطويعها لمزاجية عصرية جديدة، لأننا جميعا نعيش في عالم قاس لم يعد فيه مكان إلا لتوجيه ضربات ثم ضربات مضادة، سواء باسم العقيدة أو الانتقام لما وقع في الماضي، أو الحرب على الإرهاب أو تلقين بعض المجموعات البشرية دروسا لا ينسوها.. وغير ذلك.
هذه الرسالة البسيطة التي عرضها الفيلم من خلال شكل فني يستفيد من البيئة بتقاليدها الجافة، ويصورها في إطار المتوارث من التقليد، والراسخ من العقيدة، قد يبدو للوهلة الأولى أنه شديد المحلية، إلا أن هذا الطابع الخاص هو تحديدا ما يضفي أبعادا إنسانية كونية على الفيلم.
ويجسد الفيلم مرور الزمن من خلال الإيقاع البطئ الذي يتناسب مع الطبيعة الصحراوية والجفاف ومحدودية الشخصيات التي تتحرك في المحيط، كما يستخدم حركة الكاميرا بحذر شديد، ويجعل ملامح التقدم في العمر تبدو تدريجيا على نصّارة حتى يصل به إلى العجز التام قرب المشهد الأخير في الصحراء. الحرب الأهلية
الفيلم ينطق في معظم أجزائه باللغة العربية، فهو يدور في أوساط السكان من المسلمين ذوي الأصول العربية.
ومنتج الفيلم لحساب الجهة الفرنسية هو المخرج الصومالي المعروف عبد الرحمن سيساكو (صاحب فيلم آخر عرض في مهرجان لندن هو "باماكو" الذي يستحق وقفة خاصة).
أما المخرج محمد صالح هارون (مواليد 1960) فهو نفسه عانى الأمرين أثناء الحرب الأهلية، فقد اختطف عمه، وأصيب بجروح وتمكن من الهرب من بلده على عربة يدفعها شخص استأجره.
وهو يقول إنه كان يعرف الكثير من الأشخاص الذين قتلوا زمن الحرب الأهلية أثناء حكم الرئيس حسين حبري، ويقدر عددهم بـ40 ألف شخص، وإن فيلمه مستمد من شخصيات حقيقية عرفها.
ورغم أن الحرب الأهلية انتهت هناك رسميا إلا أن أعمال العنف والاشتباكات لا تزال تدور على نطاق واسع.
وقد بدأ تصوير هذا الفيلم في شهر أوائل أبريل/ نيسان الماضي، وبعد عشرة أيام هاجم المسلحون العاصمة نجامينا وتعطل التصوير.
يقول هارون: "البعض ينظر إلى القارة الإفريقية على أنها ضاحية من ضواحي العالم. ولكن البعض منا يرى أحيانا أنه يمكن لهذه الضاحية أن تعيد الحياة إلى منتصف العالم".
عن موقع البي بي سي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق