الخميس، مايو 10، 2018

فيلم " يوم الدين " أوديسة لإكتشاف مصر من جديد والإعلاء من قيمة التسامح بقلم صلاح هاشم



نرشحه للحصول على جائزة " الكاميرا الذهبية " و "جائزة لجنة التحكيم الخاصة "



فيلم " يوم الدين " لأبو بكر شوقي : "أوديسة" لإكتشاف مصر من تاني
 تطرح سينما جد مغايرة
 تعلي من قيمة التسامح.. وتتسامق بإنسانيتنا

بقلم

صلاح هاشم

لم يكن تيري فريمو المندوب العام لمهرجان " كان " السينمائي يبالغ عندما صرح في حوار معه نشرته مجلة " مدام فيجارو " في عددها الصادر 4و5 مايو 2018 بأن أكثر ما يفتخر به في تلك الدورة الكانية الاحتفالية السينمائية الجديدة و" الاستثنائية " كما كتبنا، هو تلك  "الأفلام من انتاج الشباب" التي  تدلف لأول مرة الى ساحة المسابقة الرسمية للمهرجان التي كانت في دورات سابقة محجوزة لمجموعة من كبار المخرجين من أمثال البريطاني كين لوش والأسباني بدرو المودوفار الخ، وذكر في تصريحه ذاك بأنه يفتخر خاصة و " مبهور " بفيلم " يوم الدين " - yomeddine - الفيلم الأول للمخرج المصري الشاب أبوبكر شوقي، ولم يكن فريمو يبالغ قط..
فيلم " يوم الدين " الذي عرض بالأمس يوم 9 مايو في إطار المسابقة الرسمية للمهرجان أعجبنا وفرحنا به كثيرا وقد غمرنا الاحساس ونحن نشاهد الفيلم بأن فريمو لم يكن يبالغ فقد بهرني أنا شخصيا الفيلم بجد لأنه يطرح سينما مصرية جديدة جد مغايرة خارج نمط الأفلام و المسلسلات المصرية التجارية  التي تضع عينها على " شباك التذاكر " ولا تهتم إلا بحسابات المكسب والخسارة وتحتكر وتتحكم في أسواق الفيلم وصناعة السينما في بلادنا فلا تقدم إلا ماهو في أغلبه تافه وغث والسينما منه براء



ثلاثة على الطريق

يحكي الفيلم - عن بشاي - جامع القمامة - الزبال " المسيحي " المريض بالجذام ، وعلاقته بحماره " حربي " انه حمار جد عنيد ولايطيع الا صاحبه بشاي وبخاصة في تلك الأوقات الحرجة عندما يتعرض " حربي " لعملية سطو، كما يحكي الفيلم عن  صداقة بشاي مع " أوباما " الطفل النوبي اليتيم، الذي تم نقله حديثا من بيت للايتام في جنوب مصر الى بيت أيتام يقع على مقربة من مستعمرة الجذام  في صحراء أبو زعبل التي يعيش فيها بشاي، وتتطور العلاقة بين ابطال الفيلم الثلاثة بشاي وحربي والطفل أوباما ( 10 سنوات ) وبخاصة بعد أن تموت زوجة بشاي في قسم " المجانين " بمستعمرة الجذام ويفاجيء بشاي بأن أمها حضرت لتعزيته  في وفاة ابنتها وأتت هكذا من البعيد الى تلك المستعمرة البعيدة عن العمران والواقعة في مخبأ عن العيون في تلك الصحراء الشاسعة الممتدة الى ما لا نهاية ، وتدفعه تلك الزيارة الى اتخاذ قرار بأن يبحث هو أيضا عن أسرته في أعماق جنوب وصعيد مصر في قنا فيأخذ عربته الكارو التي يسحبها الحمار " حربي "- وهو وحربي لايعرفان بسبب عزلة المستعمرة أين تقع قنا - ويقرر أن  يسافر  الى قريته الصغيرة أبو مطر  من أعمال شياخة قنا ليتعرف على أهله من جديد ويتذكر بشاي في أحد أحلامه كيف حضر والده بعد اصابته بمرض الجذام ووعده  وهو يتركه عند باب المستعمرة بأنه سيعود ليري بشاي ويسأل عنه بعد أن يكون عولج من مرض الجذام وشفى، ويكتشف  بشاي بعد أن أخذ الطريق هو وعربته الكارو والحمار " حربي " بأن الطفل اليتيم " أو باما " - هكذا أطلق عليه الصغار في ملجأ الأيتام لأنه نوبي وأسود مثل الرئيس الأمريكي أوباما - قد تسلل واختبأ داخل متاع بشاي فوق العربة الكارو عندما انطلق على الطريق ، فييوافق على أن يصطحبه أوباما في رحلته الى قنا في جنوب مصر ، وتنشأ علاقة محبة وصداقة بين بشاي وأوباما وحربي وتتطور عبر تطور أحداث الفيلم حتى تصل الى نوع من التبني فيصبح بشاى والا لأباما وساهرا في رحلتهما الشاقة عبر ربوع مصر بموازاة بحر النيل على صحة " حربي " وقلقه عليه..ونعيش خلال الفيلم ومع أبطاله الثلاثة مغامرة جد مثيرة ومشوقة لاكتشاف مصر من تاني. ونلتقي مع  الاثنين في رحلتهما وبعد أن يموت الحمار حربي في السكة على الطريق وهم يتوسلان بشاي وأوباما بأت لايتركهما وحدهما على الطريق ويموت ويحضنا حربي ويحزنان - ونحزن نحن أيضا معهما -و لحد البكاء على موته..وعندما يسأل أوباما في الفيلم إن كانت الحيوانات أيضا ستحاسب يوم الدين أي يوم القيامة يرد بشاى بأنها لن تحاسب يوم الدين وتحشر جميعا ومن دون حساب في الجنة..


" يوم الدين " ليس فيلما بل " مشروعا " لتقديم سينما "مختلفة" وجد " مغايرة "

فيلم " يوم الدين "  البديع لأبو بكر شوقي - الذي يذكرني بفيلم " رحلة في ايطاليا " لرائد الواقعية الايطالية المخرج الايطالي الكبير روبرتو روسوليني -  ينتمي الى نوع " أفلام الطريق " للمخرجين المشاءين الكبار من أمثال الألماني فيم فندرز كما في فيلمه " باريس - تكساس " الرائع، وهو في رأيي ليس فيلما ، بل " مشروع سينمائي متكامل" - cinema project - لأبو بكر شوقي، لتقديم سينما جد " مغايرة " وتطرح بديلا لأفلام " الهراء العام " المصرية وخبط الحلل، التي هلكتنا بثرثراتها الفارغة الامجدية الضحلة التافهة  وهي تعرض لنا أفلامها أو بالأحرى تلك "بضاعة " ملفوفة في ورق سوليفان مثل شطائر الهمبورغر للاستهلاك السريع فحسب و في أفلام بلا رأس أو عقل يفكر ،لدغدغة مشاعر الجمهور المصري العريض، ولا تحمل هما..وهى تقف بالمرصاد لأي فيلم أو مخرج جديد، وتعوق هكذا حركة تطور السينما المصرية الشابة الجديدة  المستقلة - أو التي تطمح بأن تكون " مستقلة " وانفتاحها على السينما والعالم..
مشروع أبو بكر شوقي  السينمائي لايطمح الى صناعة فيلم بل يطمح من خلال الفيلم أن يفتح" سكة " ويحفر " طريقا " لاكتشاف مصر من تاني- من جديد - وهو مشروع  سينمائي وفكري أيضا، يمثل جل طموحاتنا- في أن تخرج السينما المصرية الجديدة الشابة من ذلك النفق المظلم الضيق الذي يجعل كل أفلامها " نسخة " من ذات " القصة " و نفس " حكاية الفيلم " المكررة المعادة..
في حين يتسامق فيلم " يوم الدين " بما فيه من سينما " مبهرة " تتحقق معها وظيفة السينما الأساسية عندما يجعلنا الفيلم في شموليته الفنية- artistic totality -  نقترب أكثر من إنسانيتنا ، عندما يقرب لنا في الفيلم من " الغريب " و " المريض " و " المنبوذين المهمشين والمعذبين في الأرض- تنهم بشر وليسوا حيوانات وهم لايشعرون ابدا كما يظهر لنا الفيلم يشعرون بالضآلة- ويجعلنا نتطلع من خلالهم الى صورتنا، ونقترب أكثر بالفهم والحب وقيمة التسامح من انسانيتنا، وتتحقق معهكا هكذا وظيفة السينما الأساسية..
لم تكن رغبة أبو بكر شوقي أن يحكي لنا قصة في فيلمه " يوم الدين " ويصنع فيلما -وعلى الرغم من ما في قصة بشاي المريض بالجذام من  ترقب وتشويق -suspense -  بل أن يقدم لنا " سينما " أولا وهي الهدف والقصد أليس كذلك ؟ في كل الأفلام - حيث ترقي وتتسامق الأفلام بما فيها أولا من " سينما " ذلك الشييء المضييء الساحر الذي يلسعنا ويقفز في وجوهنا ولاندري كنهه، ولانستطيع تعريفه أو وصفه- وصف تلك المشاعر الجبارة التي تجتاحنا مثلال شلال هادر وطوال فترة مشاهدة " يوم الدين " وتجعل الحديث عنه جد صعبا. وتتحق معه مقولة المفكر السينمائي الكبير جان لوك جودار: " اننا عندما نعجب بفيلم ما فإانه يصير في التو أكبر منا "..
فيلم " يوم الدين " من بطولة ممثلين غير محترفين وبإيقاع نابض  وحي وبسرد سينمائي ساحر وتصوير سينمائي رائع، ربما تكمن قيمته الكبرى في أنه يحيي فينا الرغبة في اكتشاف بلدنا مصر وفي كل لحظة من تاني من جديد، ليجعلنا نحبها - تلك المستعمرة الكبيرة التي تمتد بطول وعرض الفيلم ، وبما فيها من أناس وبشر صالحين وطالحين، ويقوي فينا من الشعور بالانتماء الى ثقافة وحضارة ووطن يسع الجميع..انه اقرب ما يكون اى قصيدة سينمائية من أفلام الطريق للبحث عن هوية بلد ودعوة الى  مد يد الى " الآخر " المختلف،.. ويجعلنا هكذا نتصالح مع أنفسنا والعالم
تحية الى المخرج المصري الشاب أبو بكر شوقي على فيلمه " البديع "- facinating - الذي يتسامق بإنسانيته وشاعريته والذي نرشحه من الآن للحصول على جائزة من ضمن جائزتين : جائزة " الكاميرا الذهبية " كعمل سينمائي أول لمخرجه، أو جائزة لجنة التحكيم الخاصة التي سبق أن فاز بها المخرج الفلسطيني ايليا سليمان بفيلمه " يد إلهية "  في دورة سابقة من مهرجان " كان " كما نرشح فيلم " يوم الدين " -  -  ومن الآن للحصول على جائزة النقاد الدوليين " الفبريسي " في الدورة 71 ..

ليست هناك تعليقات: