سينما أيزيس .. تحية واجبة
بقلم
حسن النوني
كنت أتصفح النت، حين وقعت مصادفة على موقع سينما أيزيس .. فأندهشت .. من
تراه بذكر هذه السينما.
شردت عن البحث. وأنشغلت بالموقع. وأخذتنى ذكريات
ذات شجون يفصلنى عنها نصف قرن من الزمان، فأحسست بالحماسة والنشوة، وقمت لأعد
قهوتى السوداء، وعدت سريعا الى مكتبى، وأشعلت سيجارى، لاكتب عن سينما أيزيس
وأخواتها .. عن زمن الفن والحب الذى لم يعرف الارهاب .. لأكتب لجار لم ألتقى به من
قبل .. لسوء الحظ.
ولدت
فى شارع المبتديان بحى السيدة زينب. وأعترف بأننى
لم أفكر فبل الان فى تأثير هذا الموقع على نشأتى. فقد ضم خمس دور متقاربة للسينما
.. أيزيس .. والشرق .. والهلال .. ووهبى .. وأستار فى الطرف الاخر من شارع خيرت
قبل ميدان لاظوغلى .. كلها من دور الدرجة الثانية. وكانت تغنينا تماما عن سينمات
وسط البلد. أولا، لأن أسعارها فى متناول اليد، ثلاثة قروش أو خمس، لا أذكر بالضبط
.. ثانيا، لأنها تعرض فلمين معا فى الحفلة الواحدة. وهو ما يمثل وجبة مشبعة.
فى بعض الاحيان يكون العرض مستمرا. وهو نظام
ألتزمت به دائما سينما أستار الصيفية. فكنت تستطيع أن تمد متعتك الى أفصى حد، فتخرج
من السينما لتشترى ساندوتشات العشاء والحلوى ولب وسودانى، ثم تعود لتشاهد العرض مرة أخرى بعين الناقد المحلل .
وزيادة
فى الامتاع، كان العرض يتغير كل أسبوع فى هذه الدور. كل يوم أثنين. ومن ثم، كان
لدينا حصيلة منوعة من الافلام المتاحة للفرجة الأسبوعية .. وهو ما ولد لدينا متعة
جانبية عندما نختلس الوقت خلال أسبوع الدراسة لنمر على السينمات لنعرف عروضها
الحالية وعروض الاسبوع القادم مستمتعين بالفرجة على الافيشات جاهدين أستشفاف نوعية
الافلام لنفاضل بينها مع الاصدقاء لنتخير
الافلام التى نشاهدها ..
تجدر الاشارة هنا الى أن التلفزيون لم يعرف فى
مصر فى ذلك الوقت. فقد بدأ أرساله فى عام 1960، ولم يدخل بيوت الطبقة المتوسطة قبل
عام 62 و64،على أفضل تقدير. وكان وقتها محدود الارسال ببضع ساعات تنتهى فبل منتصف
الليل .. لاتغنى ولا تشبع نهم عشاق الفن.
فضلا عن المتعة الفنية لهذه العروض الفلمية،
كان هناك أفلام ميكى ماوس والرسوم المتحركة، التى كانت وقتها شيئا جديدا علينا، ونادرا،
نحرص دائما على الاستمتاع به .. وعلى الاستمتاع بأشرطة فلمية كانت تسمى بالجريدة
المصورة. وهى شذرات تسجيلية للاخبار المحلية والعالمية، تمااثل ما يعرف الان فى نشرات
الاخبار بأسم التقرير الاخبارى المصور .. وكانت جزءا فاعلا فى تكوينا المعرفى
والوجدانى.
حسن النوني عام 1977 يتسلم جائزة نادي القصة من الأديب المرحوم يوسف السباعي
ليس غريبا أذن، أن أكون عاشقا للفن والادب بحكم
هذة النشأة. رغم حلمى وقتها بأن أكون مهندسا. وهو حلم كل شباب الجيل الذى تفتح
وعيه مع ثورة 23يوليو .. وليس غريبا أن أتجه بعد الثانوية لدراسة الهندسة
المعمارية، بدافع لا شعورى من عشق الفن الذى أخذنى فيما بعد الى كتابة القصة
القصيرة أبان الدراسة الجامعية. والفوز بجائزة نادى القصة فى عام 77 عندما المرحوم
يوسف السباعى وزيرا للثقافة.
ليس غريبا أيضا أن يخرج من هذا الحى ألاساتذة
الافاضل .. نيازى مصطفى .. وسيد مكاوى .. وابو بكر خيرت .. وعبد الحى أديب .. ورشوان
توفيق .. وحسن ومحمد أبو داوود .. ومحمود الجندى .. وأحمد سلامة وفؤاد عطية ..
ونور الشريف الذى تعرفت عليه فى نادى الزمالك .. والمخرج الكبير أحمد عبد الحليم
الذى تعلمت منه الكثير من أسرار الكتابة للمسرح .. ومحمود كامل سكرتير معهد
الموسيقى العربية صاحب البرنامج الشهير ألحان زمان والذى ريطتنى به جمعية أحياء
التراث الشرقى .... وغيرهم ممن لم أعرفهم.
لذلك
أنظر خلفى فى غضب .. الى أولئك العجزة الذين أداروا البلد، فأفسدوا التعليم، ثم
أستداروا الى السينما ليعاملوها معاملة البارات والكباريهات ويكبلوها بنفس الضرائب
الباهظة.. فأبتعد عن صناعتها أصحاب الفكر.
وسيطر عليها تجار اللحم الحيوانى والادمى، فحاصرونا بالرقاصات والرقاصين والمدمنبن
وأحتفوا بالبطجة والعنف وصنعوا من الجهل والتخلف العقلى نماذج كوميدية محبوبة تفخر
بأحتقارها للعلم .. فأنهارت أكبر الصناعات المربحة .. وأفضل قوة ناعمة .. وضاعت
عائدات الضرائب التى طمعوا فيها.
مما
زاد الطين بله، ترك السينما لاحتكارات الانفتاح الجشعة، التى ركزت على بناء سينمات
المولات بأسعارسياحية لا تقدر عليها الطبقات المتوسطة والفقيرة فى زمن ضج الناس
فيه من الغلاء. فأختفت سينمات الاحياء الشعبية، وحل محلها البغض الطبقى
والدينى والارهاب بكل تنويعاته.
لقد عشت فى حى السيدة، وسط خمس سينمات،تجاور وتواجه
مفام أم هاشم، أكبر وأشهر وأحب اّل البيت الى قلوب المصرين. وكان مولدها أحتفالا
صوفيا وشعبيا موسعا. يحج اليه البسطاء من مختلف قرى مصر ليحتلوا الميدان والشوارع
المحيطة به ويبيتون فى مداخل العمارات. وكنا نتأذى حقيقة من من تبعات زحام هذا
اليوم. لكنا نحتمله تقدبرا للمناسبة .. ولم نرى واحدا يخرج من هذا الحى صارخا فى وجوهنا بأن هذه السينمات كفر .. وأن
الاحتفال بالوالد كفر ..أو زيارة مقام السيدة كفر .. أو أن الصوفية وشعائرها كفر
.. أو ان الاحتفال باّل البيت من كفر الشيعة .. أو أن على المسيحين القاطنين بهذا الحى
المقدس أن يرحلوا أو يدفعوا الجزية .. او يختصر القول ويفجر نفسه والزحام بحزام
ناسف !
أنى
لأعجب ممن يظنون أن محاربة الارهاب بالعنف كافية. فالعنف يولد العنف. وكلما سقط
جيل من الارهابين ظهر جيل أخر له ثأرات أكبر. فالارض حبلى بمناخ الارهاب . ولا بد
من تجفيف منابعه .. أولا بخلق مناخ عام محب للفنون، يغذى وجدان الناس بالحب
والجمال. ويبعدهم عن الكراهية والعنف الاجتماعى والدينى. فمن يعشق الفن واموسيقى
والادب، والسيمنا جامعة كل الفنون فى واحد .. لا يقتل ولا يفجر الاخرين ولا يحرم
متع الحياة البسيطة على نفسه وعلى الناس .
لهذا أقول دون مبالغة، أعيدوا السينما بتعريفتها البسيطة الى الاحياء
الشعبية. بجانب الموسيقى ومسارح الهواة فى قصور الثقافة، وستكسبون الحرب مع
الارهاب بيسر القوة الناعمة .. فمن يزرع الفن وحب الجمال يحصد السلام حب الحياة
وأحترام ناسها ..... أفيقوا يرحمكم الله ويرحمنا ..
حسن النونى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق