مختارات
سينما إيزيس
حامد عبد الله في حفل افتتاح احد معارضه قبل سفر الى باريس
حامد عبد الله
قهوة المنيل ما زالت في مكانها
بقلم
د.عماد الدين أبو غازي
"ما زالت قهوة المنيل في مكانها بين الحي العتيق والحي الجديد، وإن كانت قوائمها الخشبية قد وهنت مع مضي السنين، وما زال رواد المقهى يتبادلون نفس الأحاديث القديمة ويقرأون الكتب الصفراء ويرددون الشعر القديم، ولم يتغير حتى الآن نداء عم زينهم القهوجي الذي يظل يتردد في المكان موصيًا للزبائن بالطلبات، ولكن فتى من رواد المكان قد غاب عنه منذ سنين، غاب بعد أن خلف على كل موائد القهوة آثارًا من رسومه، وفي أذهان الرواد صدى من أحاديثه عن الفن".
بهذه الكلمات قدم بدر الدين أبو غازي منذ قرابة خمسين عامًا الفنان الشاب حامد عبد الله وهو يستعد لرحلته الأولى لعرض أعماله الفنية في باريس، وجاء هذا التقديم ضمن مقال للناقد الراحل في مجلة الفصول التي كان يصدرها الأستاذ محمد زكي عبد القادر في أواخر الأربعينيات، وفتح صفحاتها أمام شباب الكتاب والنقاد والمبدعين الذين أصبحوا أعلامًا للفكر والفن في مصر بعدها بسنوات؛ مثل: نعمان عاشور ويوسف الشاروني وأحمد عباس صالح وبدر الديب ومحمود أمين العالم ومصطفى سويف وعادل ثابت وصقر خفاجة وأحمد بهاء الدين وعبد الرحمن الشرقاوي وفتحي غانم وغيرهم.
وقد اقتبست هذه الكلمات لافتتح بها مخربشات اليوم بمناسبة مرور ثمانين عامًا على ميلاد الفنان حامد عبد الله الذي ولد في العاشر من أغسطس سنة 1917 ورحل عنا في اليوم الأخير من عام 1985، وطوال رحلة حامد عبد الله الفنية التي استمرت قرابة نصف قرن كان دائمًا فنانًا صاحب أسلوب متميز وطابع مصري خالص، سواء في موضوعاته أو أسلوبه الفني، وكانت البيئة المصرية الشعبية ثم التراث بعد ذلك مصادر إلهامه الأساسية.
وحامد عبد الله من أصول صعيدية هاجرت أسرته إلى القاهرة لتشتغل بالزراعة في حي المنيل عندما كان قسم منه لا يزال مزارع وحقولًا، ودرس بإحدى المدارس الفنية الصناعية في أوائل الثلاثينيات، وكان دائم التمرد على أساليب تعليم الرسم في ذلك العصر؛ والتي كانت تهتم بقواعد المنظور والنقل الحرفي للأشكال ولا تهتم إطلاقًا بتفجير الطاقات الإبداعية لدى الدارسين، فأسس الشاب حامد عبد الله مرسمًا لتعليم الفن وفقًا لرؤيته المتجاوزة للتقليدية.
عرض حامد عبد الله أعماله للمرة الأولى في صالون القاهرة عام 1938 وهو بعد لم يجاوز الحادية والعشرين من عمره، ولاقت لوحته التي صور فيها مقهى المنيل القديم إعجابًا من النقاد في حينها، وتوالى إشتراك حامد عبد الله في المعارض العامة كما أقام أول معرض خاص له في عام 1941 في القاهرة.
وفي أواخر الأربعينيات بدأ حامد عبد الله يتطلع إلى الجانب الآخر من المتوسط، إلى باريس عاصمة الفن؛ فذهب إليها بأعماله للمرة الأولى في عام 1949، وخلال رحلة استمرت عدة شهور نجح حامد عبد الله في أن يعرض لوحاته في قاعة برينهم جين التي أقام فيها مختار في سنة 1930 معرضه الشامل، وقد استقبلت الأوساط الفنية في باريس معرض حامد عبد الله بالتقدير والإعجاب، فيكتب عنه فالدمار جورج، أحد كبار النقاد الفرنسيين، قائلًا:
"إن أعمال حامد عبد الله تحدد نقطة البدء لمدرسة مصرية جديدة رنت إلى ينابيع الغرب اللاتيني، ولكنها مع ذلك تحتفظ بجوهر شخصيتها، وتحمل رسالة فنية أصيلة، وكل الدلائل تنبئ بذلك وتدعو إلى اعتقاده".
واستمر حامد عبد الله بعد عودته من باريس في تطوير إبداعه الفني والسعي إلى اختراق مجالات جديدة في فن التصوير وإلى تعميق الطابع المصري في إبداعه.
وفي الخمسينيات ومع أفول الديمقراطية الليبرالية في مصر لم تتحمل روح الفنان الحرة قيود الحكم الاستبدادي المطلق، فانطلق إلى أوروبا ليستقر هناك سنوات طويلة لم تغب خلالها مصر أبدًا عن خاطره، ولا ابتعد في إبداعه الفني عن شرقيته، بل على العكس من ذلك ازداد التصاقًا بها من خلال اتجاهه إلى الحرف العربي كموضوع لأعماله، حتى أصبح يعتبر أبًا للحروفيين العرب، كما كان شديد الحرص طوال سنوات غربته على زرع حب الوطن في أبنائه مؤنس وسمير وأنيسة، وأصر دائما على أن يحتفظوا بجنسيتهم المصرية ولا يحملوا غيرها إلى جانبها، رغم ما كانوا يتعرضون له من احتمالات الإبعاد عن فرنسا بعد أن أصبحوا في سن الشباب بسبب نشاطهم السياسي المناصر للقضايا العربية.
وخلال السبعينيات والثمانينيات تردد حامد عبد الله على مصر أكثر من مرة، وفي كل مرة كانت إقامته بها تطول حتى كان الاستقرار الأخير في ترابها عندما عاد إليها جثمانًا مسجى.
***
# مخربشاتي في صفحة "تراث الأمة"، الدستور القاهرية، الإصدار الأول، 3 سبتمبر 1997. أعاد د. عماد الدين ابو غازي نشرها على صفحته في الفيس بوك بمناسبة
معرض الفنان حامد عبد الله المقام حاليًا بقاعة أفق بمتحف محمد محمود خليل بالجيزة، والذي سوف يستمر لغاية 8 فبراير 2016.
عماد ابو غازي وسمير حامد عبد الله والشاعر زين العابدين فؤاد في حفل افتتاح معرض الفنان حامد عبد الله
قهوة المنيل ما زالت في مكانها
بقلم
د.عماد الدين أبو غازي
"ما زالت قهوة المنيل في مكانها بين الحي العتيق والحي الجديد، وإن كانت قوائمها الخشبية قد وهنت مع مضي السنين، وما زال رواد المقهى يتبادلون نفس الأحاديث القديمة ويقرأون الكتب الصفراء ويرددون الشعر القديم، ولم يتغير حتى الآن نداء عم زينهم القهوجي الذي يظل يتردد في المكان موصيًا للزبائن بالطلبات، ولكن فتى من رواد المكان قد غاب عنه منذ سنين، غاب بعد أن خلف على كل موائد القهوة آثارًا من رسومه، وفي أذهان الرواد صدى من أحاديثه عن الفن".
بهذه الكلمات قدم بدر الدين أبو غازي منذ قرابة خمسين عامًا الفنان الشاب حامد عبد الله وهو يستعد لرحلته الأولى لعرض أعماله الفنية في باريس، وجاء هذا التقديم ضمن مقال للناقد الراحل في مجلة الفصول التي كان يصدرها الأستاذ محمد زكي عبد القادر في أواخر الأربعينيات، وفتح صفحاتها أمام شباب الكتاب والنقاد والمبدعين الذين أصبحوا أعلامًا للفكر والفن في مصر بعدها بسنوات؛ مثل: نعمان عاشور ويوسف الشاروني وأحمد عباس صالح وبدر الديب ومحمود أمين العالم ومصطفى سويف وعادل ثابت وصقر خفاجة وأحمد بهاء الدين وعبد الرحمن الشرقاوي وفتحي غانم وغيرهم.
وقد اقتبست هذه الكلمات لافتتح بها مخربشات اليوم بمناسبة مرور ثمانين عامًا على ميلاد الفنان حامد عبد الله الذي ولد في العاشر من أغسطس سنة 1917 ورحل عنا في اليوم الأخير من عام 1985، وطوال رحلة حامد عبد الله الفنية التي استمرت قرابة نصف قرن كان دائمًا فنانًا صاحب أسلوب متميز وطابع مصري خالص، سواء في موضوعاته أو أسلوبه الفني، وكانت البيئة المصرية الشعبية ثم التراث بعد ذلك مصادر إلهامه الأساسية.
وحامد عبد الله من أصول صعيدية هاجرت أسرته إلى القاهرة لتشتغل بالزراعة في حي المنيل عندما كان قسم منه لا يزال مزارع وحقولًا، ودرس بإحدى المدارس الفنية الصناعية في أوائل الثلاثينيات، وكان دائم التمرد على أساليب تعليم الرسم في ذلك العصر؛ والتي كانت تهتم بقواعد المنظور والنقل الحرفي للأشكال ولا تهتم إطلاقًا بتفجير الطاقات الإبداعية لدى الدارسين، فأسس الشاب حامد عبد الله مرسمًا لتعليم الفن وفقًا لرؤيته المتجاوزة للتقليدية.
عرض حامد عبد الله أعماله للمرة الأولى في صالون القاهرة عام 1938 وهو بعد لم يجاوز الحادية والعشرين من عمره، ولاقت لوحته التي صور فيها مقهى المنيل القديم إعجابًا من النقاد في حينها، وتوالى إشتراك حامد عبد الله في المعارض العامة كما أقام أول معرض خاص له في عام 1941 في القاهرة.
وفي أواخر الأربعينيات بدأ حامد عبد الله يتطلع إلى الجانب الآخر من المتوسط، إلى باريس عاصمة الفن؛ فذهب إليها بأعماله للمرة الأولى في عام 1949، وخلال رحلة استمرت عدة شهور نجح حامد عبد الله في أن يعرض لوحاته في قاعة برينهم جين التي أقام فيها مختار في سنة 1930 معرضه الشامل، وقد استقبلت الأوساط الفنية في باريس معرض حامد عبد الله بالتقدير والإعجاب، فيكتب عنه فالدمار جورج، أحد كبار النقاد الفرنسيين، قائلًا:
"إن أعمال حامد عبد الله تحدد نقطة البدء لمدرسة مصرية جديدة رنت إلى ينابيع الغرب اللاتيني، ولكنها مع ذلك تحتفظ بجوهر شخصيتها، وتحمل رسالة فنية أصيلة، وكل الدلائل تنبئ بذلك وتدعو إلى اعتقاده".
واستمر حامد عبد الله بعد عودته من باريس في تطوير إبداعه الفني والسعي إلى اختراق مجالات جديدة في فن التصوير وإلى تعميق الطابع المصري في إبداعه.
وفي الخمسينيات ومع أفول الديمقراطية الليبرالية في مصر لم تتحمل روح الفنان الحرة قيود الحكم الاستبدادي المطلق، فانطلق إلى أوروبا ليستقر هناك سنوات طويلة لم تغب خلالها مصر أبدًا عن خاطره، ولا ابتعد في إبداعه الفني عن شرقيته، بل على العكس من ذلك ازداد التصاقًا بها من خلال اتجاهه إلى الحرف العربي كموضوع لأعماله، حتى أصبح يعتبر أبًا للحروفيين العرب، كما كان شديد الحرص طوال سنوات غربته على زرع حب الوطن في أبنائه مؤنس وسمير وأنيسة، وأصر دائما على أن يحتفظوا بجنسيتهم المصرية ولا يحملوا غيرها إلى جانبها، رغم ما كانوا يتعرضون له من احتمالات الإبعاد عن فرنسا بعد أن أصبحوا في سن الشباب بسبب نشاطهم السياسي المناصر للقضايا العربية.
وخلال السبعينيات والثمانينيات تردد حامد عبد الله على مصر أكثر من مرة، وفي كل مرة كانت إقامته بها تطول حتى كان الاستقرار الأخير في ترابها عندما عاد إليها جثمانًا مسجى.
***
# مخربشاتي في صفحة "تراث الأمة"، الدستور القاهرية، الإصدار الأول، 3 سبتمبر 1997. أعاد د. عماد الدين ابو غازي نشرها على صفحته في الفيس بوك بمناسبة
معرض الفنان حامد عبد الله المقام حاليًا بقاعة أفق بمتحف محمد محمود خليل بالجيزة، والذي سوف يستمر لغاية 8 فبراير 2016.
عماد ابو غازي وسمير حامد عبد الله والشاعر زين العابدين فؤاد في حفل افتتاح معرض الفنان حامد عبد الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق