مخرجنا المصري الكبير الراحل توفيق صالح لم يخن نفسه
من أم الدنيا إلى عاصمة النور
|
المخرج الذي لم يخن نفسه !
بقلم : مجدي الطيب
عرفت المخرج الكبير توفيق صالح (1926-2013) في موقفين شديدي التناقض؛أولهما أعرب فيه عن غضبه الشديد لأنني انتقدت،في مجلة "روز اليوسف" المصرية،موقفه الرافض لمشاريع المخرجين الشباب،وطالبته بألا يقف حجر عثرة في طريقهم،وأن يمنحهم الفرصة التي انتزعها،ورفاقه،من الجيل السابق عليهم،وكانت القطيعة التي طالت لفترة من الزمن لكنها انتهت مع اختياري في مارس من العام 2007 لعضوية لجنة تحكيم الدورة الثالثة والثلاثين لمهرجان جمعية الفيلم السنوي للسينما المصرية،التي ترأسها المبدع الكبير؛حيث كانت الفرصة مواتية للمزيد من التقارب الإنساني،قبل الالتقاء الفكري،واكتشفت أنه لم يكن "الديكتاتور"،الذي تم الترويج له طويلاً،وأن تواضعه كان كثيراً ما يدفعه،وهو المخرج المخضرم،إلى الاستماع إلى وجهة نظر أصغر عضو في اللجنة من دون أن يتأفف أو يُبدي تبرماً !
يومها،وقبل أن تنتهي أعمال لجنة التحكيم أهداني
قرصاً مدمجاً يتضمن نسخة من فيلمه "المتمردون"(إنتاج 1966)،وفي يوليو /
تموز من العام الماضي فوجئت به،وهو القامة الكبيرة،يبادر بتهنئتي بعيد الفطر
المبارك،ولم أبالغ عندما قلت له في ردي على رسالته الرقيقة:"تهنئتكم بالعيد
جعلت له طعماً آخر"،وبعدما علمت في شهر مايو / أيار الماضي،بأن أزمة صحية
داهمته دعوت له،في رسالة هاتفية،بسرعة الشفاء لكي يعود إلى محبيه ومريديه !
أدرك توفيق صالح،في وقت مبكر للغاية،أهمية التواصل بين الفيلم والرواية،ومن
بين سبعة أفلام روائية طويلة هي كل رصيده استلهم "المتمردون"( 1966) من
رواية للكاتب الصحفي صلاح حافظ و"السيد البلطي" (1967) من رواية للكاتب صالح
مرسي و"يوميات نائب في الأرياف" (1968) من رواية للأديب الكبير توفيق
الحكيم و"المخدوعون" (1972) من رواية "رجال في الشمس" للأديب
الفلسطيني غسان كنفاني. وفي تقديري أن الثقافة الموسوعية للمخرج الكبير توفيق صالح،فضلاً
عن جرأته في تبني المواقف المختلفة من دون مواربة، كانا سبباً في التباين،والخلاف
أحياناً،بينه ويوسف شاهين (1926- 2008 ) رفيق دراسته في كلية "فيكتوريا"؛
فهو الذي وصف "شاهين"،في حوار نادر مع قناة
"نايل سينما"،بأنه
"حرفي وصاحب عين سينمائية ليس أكثر"، واتهمه ـ أي شاهين ـ بأنه طالبه
بأن يقطع إقامته في العراق،ويعود ليعمل في مصر في فيلم من إنتاجه،ولما فعل حنث
"شاهين" وعده،وطالبه بأن يُساهم،أولاً،في إنتاج الفيلم !
لقطة من فيلم " المخدوعون " لتوفيق صالح
هل استشعر توفيق صالح أنه ظُلم كثيراً مُقارنة بآخرين اهتمت بهم وسائل
الإعلام،واحتفت بهم الأقلام النقدية، وأخذوا أكثر مما أعطوا ؟
واقع الحال يؤكد هذا؛فالمخرج الذي عُرف بأنه مُقل،لم
يخن نفسه،وجمهوره،يوماً،وفي مجمل أفلامه بدا مشغولاً بالقضايا الحياتية،كما فعل في "درب
المهابيل" (1955)،و"يوميات نائب في الأرياف" (1968)، ومُدركاً للدور
الذي تلعبه السينما كأداة للتغيير والتحريض،كما رأينا في "صراع الأبطال"
(1962)، و"المتمردون" (1966) و"السيد البلطي" (1967)،وشديد
الإيمان بالقومية العربية،وهو ما عبر عنه،بقوة،في فيلم "المخدوعون" (1972)،الذي
أنتجته "المؤسسة العامة للسينما" في سوريا،عن رواية للأديب الفلسطيني الراحل
غسان كنفاني، وتناول القضية الفلسطينية من منظور غاية في الجدة والجدية والنبل
الإنساني الممزوج بالحس الوطني؛حيث الفلسطينيون الثلاثة الذين خططوا للهروب إلى
الكويت،عبر الاختباء داخل صهريج إحدى الناقلات،في طقس شديد الحرارة،وينتهي الأمر بوفاتهم،وإلقاء
جثثهم في مقلب نفايات،في إسقاط واضح على التجاهل الصارخ الذي يواجه القضية
الفلسطينية !
على عكس الأثر الإيجابي الذي
حققه الفيلم السوري "المخدوعون" ظل الفيلم العراقي "الأيام الطويلة"
(1980) بمثابة الوصمة التي طاردت المخرج الكبير توفيق صالح فترة غير قصيرة من
حياته؛إذ لم يغفر له الكثيرون إقدامه على إنجاز فيلم يحكي سيرة ومسيرة صدام حسين،وبالرغم
من دفاعه عن نفسه بأنه عاش ظروفاً استثنائية اضطرته إلى إخراج الفيلم،نافياً اتهامه
بأنه تقاضى أموالاً طائلة نظير موافقته على إخراج الفيلم،إلا أن السقطة بدت
كبيرة،وتحولت،مع مرور الزمن،إلى جرح لا يندمل،وظل "صالح"،الذي غادر مصر
إلى فرنسا العام 1950 ليدرس السينما،لكنه درس الرسم والفوتوغرافيا،وقام بتدريس السينما
في العراق،على قناعة بأنه دفع ثمناً باهظاً لإيمانه بالقومية العربية !
magditayeb@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق