السبت، يناير 02، 2016

مختارات سينما إيزيس : مجدي الطيب يكتب عن فيلم " السلام عليك يامريم " للبناني باسل خليل

مختارات سينما إيزيس

 فيلم " السلام عليك يامريم " لباسل خليل
 يناقش قضية الصراع العربي الاسرائيلي بإسلوب سلس ومعالجة أخاذة

بقلم


مجدي الطيب


أحداث هذا الفيلم تدور في الضفة الغربية بفلسطين المحتلة،وفي دير «راهبات الرحمة»؛حيث تعيش خمس راهبات انقطعن للصوم والصلاة في منطقة ألغام إسرائيلية،طعامهن فيها الزيتون،وتسليتهن الوحدة،وفجأة يقطع الملل صوت مدوي يعقبه نزف دماء من رأس السيدة العذراء،التي يتكاثر الذباب فوق وجهها،لنعرف أن الصوت المدوي ناتج عن انحراف سيارة عن الطريق،واصطدامها بتمثال السيدة العذراء،غير أن المفاجأة أن السيارة تُقل عائلة يهودية مكونة من ثلاثة مستوطنين إسرائيليين،ساقتهم الظروف،وحادث السيارة إلى الالتجاء للدير، وفرض أنفسهم على راهباته !
عنوان الفيلم «السلام عليك يا مريم» (فرنسا،ألمانيا وفلسطين / 2015) وهو من إخراج باسل خليل؛الذي. ولد ونشأ في مدينة الناصرة الفلسطينية،وحصل على درجة الماجستير من أكاديمية السينما في اسكوتلندا،واختارته مجلة "سكرين إنترناشونال" السينمائية في العام 2011 ضمن قائمة "أفضل 10 مخرجين عرب يمكن ترقبهم"،وهو رهان في محله؛بدليل فوز باسم خليل بجائزة أفضل فيلم في مسابقة «المُهر القصير» بالدورة الثانية عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي،وجائزة أفضل مخرج في مهرجان سيرفينيانو السينمائي بإيطاليا،وإظهاره قدرة فائقة على الاقتراب من قضية الصراع العربي الإسرائيلي الشائكة بأسلوب سلس، ومعالجة أخاذة؛فالراهبات الخمسة فوجئن بالضيوف غير المرغوب فيهم،والعبء الثقيل الملقى على كاهلهن؛فالعائلة اليهودية شديدة التزمت من الناحية الدينية،وكثيرة الإزعاج من الناحية الأخلاقية؛فالأم تكره «راشيل» زوجة ابنها «موشى» بينما الزوجة تغار من الأم،وفوق هذا وذاك تتسم تصرفات العائلة بعنصرية مقيتة؛ فالزوجة تلقي باللائمة على زوجها لأنه سلك «طريق العرب» في حين يؤنبها بدوره قائلاً : «لولاك ما كنا علقنا في المكان ده مع شوية العرب دول». وعندما تنزع الراهبات الذخيرة عن السلاح الذي بحوزتهم تستاء العائلة اليهودية،وترفض «راشيل» دخول الدير،بينما يتجلى التطرف الديني في أبشع صوره في امتناع الابن عن استخدام الهاتف امتثالاً لقداسة يوم " شبات Shabbat "، الذي يُحرم على اليهود العمل يوم السبت،وعندما تتحمل الراهبة الشابة عبء الاتصال الهاتفي يُساوم «موشى» الطرف الآخر لتخفيض سعر سيارة الإنقاذ،ويؤكد البخل اليهودي الشائع !
لا يترك المخرج المشهد من دون أن يتدخل برؤيته التي لا تخلو من عمق وطرافة؛فالعذراء جُز رأسها في الحادث،وهاهو جسدها مُمدد في مقدمة السيارة،وكأنها مصلوبة كابنها،و«راشيل» اليهودية ترثي لحالها،وتمد حرامها لتضمد جراح العذراء،وتُعيد رأسها إلى مكانها،والراهبة الشابة «ماري» تجدها فرصة لاختراق الصمت،وتعود إلى براءتها وفطرتها،وعندما تتدخل كبيرة الراهبات لإنقاذ الموقف،وتوفر للعائلة اليهودية السيارة «الفولفو» التي كانت تملكها إحدى الراهبات،تتذكر «راشيل» عنصريتها،وترفض قائلة : «لن أركب هذه السيارة العربية لأن العساكر إذا شاهدوها سيطلقوا عليها النار» وتجدها الأم فرصة لمكايدتها قائلة :«اطلبي هليكوبتر إذاً» !
إنها الكوميديا السوداء أو الجدية المُبطنة بالسخرية،التي تعكس براعة المخرج باسل خليل،الذي تولى عملية المونتاج وشارك في كتابة السيناريو مع دانيل يانيز،ووظف موسيقى جيمي سيرافي لاستكمال جرعة السخرية،كما في مشهد تأهيل السيارة «الفولفو»، واختتم الفيلم برسالة إنسانية نبيلة تحض على التسامح بين الأديان؛فالراهبات الفلسطينيات تعاملن بود وسماحة،حسب تعاليم دينهن ووصايا السيدة العذراء،وقدمن أروع الأمثلة في خدمة «الغير»،وقبول «الآخر»،وكان لهذه المعاملة الطيبة أكبر الأثر في تغيير عقلية المستوطنين الإسرائيليين المتطرفين؛بدليل قبولهم التحرك بسيارة تحمل فوق سقفها تمثال للسيد المسيح،وإن علا صوت «راشيل» : «شغل هذا الكاسيت كي لا يظنوننا عرب» بينما تعود الراهبات إلى الصلاة على مريم،وينذرن أنفسهن للصمت من جديد .
14 دقيقة من بساطة الأداء،وجدة الفكرة،وجاذبية المعالجة؛فالخلاص من الضيف الثقيل لا يتأتي – أحياناً - بغير التعاون،وهي رؤية جديدة من الجائز أن يكون لها اعتبارها في إطار الصراع مع العدو،وربما تكون سبباً في اتهام الفيلم بالتطبيع،في حال النظر إليها بوصفها محاولة لتكريس الوضع القائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛خصوصاً أن حوار الفيلم يدور بالعربية والعبرية،ويحمل عدد من الممثلين جوازات السفر الإسرائيلية بحكم انتمائهم إلى عرب الأرض المحتلة (الفيلم بطولة : هدى الإمام،ماريا زريق،شادي سرور،روث فرحي ومايا كورين) بالإضافة إلى أن المأساة تحولت على يد باسل خليل إلى ملهاة، والحال نفسه في ما يتعلق بالقضايا التي ظلت جوهرية كالمصير والوجود والحدود والمستقبل،التي تعامل معها الفيلم باعتبارها قضايا إنسانية يمكن التوصل إلى حلول ناجعة لها بالحوار والتقارب والتسامح،وقبول الآخر،ونبذ التعصب،والتخلي عن العنجهية،واحترام العقيدة .

مجدي الطيب

عن جريدة " الجريدة " الكويتية

ليست هناك تعليقات: