مختارات سينما إيزيس
الربة إيزيس. أم المصريين
مختارات سينما إيزيس زاوية ننشر فيها مايعجبنا من مقالات ودراسات وكل ما يستحق القراءة عن جدارة
***
إني أتذكر. شاهد على سينما وعصر
بقلم
يسري حسين
كاتب مصري مقيم في لندن
كانت أمي مهتمة بدخولي المدارس للتعلم، على أمل كسر سُوَر الفقر ، ولذا الحقتني
في البداية بالمدرسة الأنجيلية ثم بمدرسة لتحفيظ القرآن الكريم ،وعندما
بلغت السادسة ذهبت لمدرسة الأزهار الإبتدائية المشتركة ،وهي تضم أبناء
المنطقة من مسلمين وأقباط ،نلعب معا ونفرح سويا ،ولا ننفصل إلا خلال حصة
الدين.
نشأت في مناخ جميل من محبة ومودة ،فأمي كانت تحب دائما زيارة كنيسة سانت تريزا والتبرك بها ،كانت المسيحية قريبة من روحها خاصة السيدة العذراء ومعاناة مع مجتمع غليظ القلب تجاهها ونجلها السيد المسيح..
علمتني أمي حب الأقباط ،وكانت زميلة قبطية تتقاسم معي مقاعد الدراسة في الفصل ،وكنت اعطيها ساندوتش الفول الذي معي للحصول منها على الآخر بالمربى والزبدة ،وكانت المبادلة تتم برضا وسعادة، اذ كانت تحب فول أمي وانا أعشق المربى التي تحضر بها كل يوم.
كان حينا به أكثر من كنيسة مع مساجد أشهر الخازندار ،بجانب سينما الأمير في شارع خلوصي وأخرى التحرير وستراند ومسرة ،بالأضافة لسينما شبرًا بالاس ودوللي والنزهة ،والجندول الصيفي .
كان سكان الحي يلتقون في تلك السينمات يشاهدون أفلام فريد الأطرش وسامية جمال وليلى مراد ،فيرون الفرح والحب والغناء والرقص والفكاهة التي تطارد الأحباط الإجتماعي ومشاعر الكراهية ،وعندما اختفت تلك النوافذ التي يدخل منها الهواء والحرية تراكمت مشاعر غاية في الخطورة والتدمير
كانت السينما علاجا ضد الفقر خاصة أن ثمن التذكرة مجرد قرش أو ثلاثة قروش للدرجة الثانية .
كانت سينما الأمير تعرض في الأعياد المسيحية فيلم ( حياة وآلام السيد المسيح) ،واصطحبتني أمي لمشاهدة الفيلم الذي كان يمس قلبها ويقترب من حياتها ووحدتها وفقرها وآلام ليس بسبب دعوة دينية ،وإنما لنظام القسوة الإجتماعي الذي فرض ،معادلة ( المعذبون في الأرض ) بوصف طه حسين.
الفيلم يخفف من آلام أمي ،لأن السيد المسيح نفسه تعرض للتنكيل والإهانه ،وتقبل ذلك ،كضريبة لتطهير الأرض من ظلم وأحقاد ،وكان يطلب من الخالق الغفران لمعذهبيهم لأنهم ،لا يعلمون ،لأن الخير لم يصل لقلوبهم.
اما أنا فكنت العن الظالمين الذين عذبوا المسيح وامي في الوقت نفسه، اذ كنت ارى انها ضحية الظلم الذي يستهدف الفقراء فقط ،لأنهم ضعفاء لا يملكون الدفاع عن أنفسهم .
فيلم ( حياة وآلام السيد المسيح) ظل معي لفترة طوية ،يواكب دراستي للأنجيل بجامعة القاهرة وتأثري البالغ بموعظة على الجبل بما فيها من تسامح ودعوة الإنسان للسمو والصفح وتجاوز الحقد والكراهية.كنت احدث زميلتي القبطية على مقعد الدارسة عن الفيلم ،حتى لمحتني المدرسة ،وسألتني عن هذا الحوار الذي جعل الزميلة تنصت لي بهذ الأهتمام ،لأنها لم تشاهد الفيلم ،فلما أخبرتها ،أصابها الإنزعاج ،لأنني مسلم ،فكيف اتحدث عن نبي الأقباط؟ لكنني لم أهتم بتحذيرها ،لأن أمي المعذبة في الأرض زرعت في قلبي حب عيسى ومريم وسانت تريزا ،تماما مثل حب النبي محمد والسيدة زينب والحسين ،فالحب لا يعرف التجزئة ،وكل الأنبياء حضروا لتخفيف الظلم ونشر العدل ونجيب محفوظ في رواية ( أولاد حارتنا) يلمس ذلك بعبقرية الكتابة ،الا أن الجهلاء لا يفهمون فأتهموه بالألحاد.
كانت أمي وصحبني كل صباح وهي تحمل أخي عادل الصغير إلى المدرسة ،وتتوقف عند بائع البسبوسة لتشتري قطعة أفطر بها ،وكم كانت تلك الببسبوسة رائعة المذاق ولا تضاهي أي حلوى في الدنيا فقد اشتريت حلوى من إيطاليا وفرنسا وألمانيا ،لكن تلك البسبوسة العجيبة كأنها معجونة من عسل الجنة.
فقدت أمي خمسة أولاد وظل لها فقط أنا واخي عادل ،الذي مات بعد رحيلها في حادث. كنت قريبا منها تحدثني كأنني أدرك ما تقول وتحتمي بي خاصة بعد محاولت للهجوم علينا من أشقياء في الليل لمعرفتهم بان أمي وحيدة ،وذات ليل وجدتها تناديني باسم أبي وتطالبني بالنهوض من النوم ،وأدركت أن ترهب الأشقياء ،وتقول لهم انها ليست وحيدة في الغرفة حتى كفوا عن تلك المحاولات.
امي كانت وحيدة ومريضة بالسل وهذا كان يبعد عنها الأقارب والجيران ،حتى أن قريبة لنا تعمدت كسر كوب الشاب بعد ان تناولته في إهانه بالغة ،لكنها لم تعلق وضمت أحزانها إلى نفسها.
اختلفت مع صبي آخر في الحارة خلال لعب الكورة ،وجدته يصيح باعلى صوته ويعايرني بلفظ قبيح ( ياابن المرة العيانة بالسل).
اعتادت أمي الحديث معي وروى قصة حياتها وكفاح أسطوري في مصانع الحلوى بالسيدة زينب ثم العمل في منازل الأجانب لأنفاق على أسرة فقيرة هي العائل الوحيد ،بعد اختفاء أبي مع زوجات آخريات.
رغم مرض أمي ،الا انها عادت للخدمة لدى سيدة يونانية اسمها أم كوستاكى ،كانت تأخذني وتحمل أخي الصغير إلى شقة في باب اللوق . نجلس انا وأخي في المطبخ وهي تنظف الشقة ثم تعود للمطبخ لتطهى الطعام.
كانت السيدة اليونانية تتعاطف مع أمي وتعاملها بعطف شديد ،لأن زوجها سكير ويضربها ويعاملها بقسوة ،وقد علمنا بوفاته نتيجة الإدمان بعد ترك مصر إلى اليونان .
اتذكر طيبة تلك السيدة وابنها الذي كان في مثل سني ويلعب معي.
أمي كانت تتركني مع أخي في غرفة شبرًا وتذهب إلى أم كوستاكيى التي كان تمنحها بعض الملابس لنا مع نقود قليلة تساعد على استمرار الحياة ،لكن المرض أرهقها ومنعها من الخروج .
وقد كتب نجيب محفوظ ببراعة عن مرض السل في روايته ( خان الخليلي). لكن هذا المرض اللعين لا يفترس سوى الفقراء وما أكثرهم في مصر يموتون في صمت كما ماتت أمي ،بعد رحلة طويلة من معاناة وزوج اناني ومجتمع بلا قلب بلغة أحمد عبد المعطي حجازي.
كانت أمي تحب فيلم زينب بطولة راقية إبراهيم ويحي شاهين ،لأن البطلة أصابها المرض اللعين وتنصت لأغنية عبدة السروجي ( غريب الدار) وهي مرثية تتحدث عن قدر أحمق يسرق السعادة والأحباب ،وياتي بالغم والظلم...
نشأت في مناخ جميل من محبة ومودة ،فأمي كانت تحب دائما زيارة كنيسة سانت تريزا والتبرك بها ،كانت المسيحية قريبة من روحها خاصة السيدة العذراء ومعاناة مع مجتمع غليظ القلب تجاهها ونجلها السيد المسيح..
علمتني أمي حب الأقباط ،وكانت زميلة قبطية تتقاسم معي مقاعد الدراسة في الفصل ،وكنت اعطيها ساندوتش الفول الذي معي للحصول منها على الآخر بالمربى والزبدة ،وكانت المبادلة تتم برضا وسعادة، اذ كانت تحب فول أمي وانا أعشق المربى التي تحضر بها كل يوم.
كان حينا به أكثر من كنيسة مع مساجد أشهر الخازندار ،بجانب سينما الأمير في شارع خلوصي وأخرى التحرير وستراند ومسرة ،بالأضافة لسينما شبرًا بالاس ودوللي والنزهة ،والجندول الصيفي .
كان سكان الحي يلتقون في تلك السينمات يشاهدون أفلام فريد الأطرش وسامية جمال وليلى مراد ،فيرون الفرح والحب والغناء والرقص والفكاهة التي تطارد الأحباط الإجتماعي ومشاعر الكراهية ،وعندما اختفت تلك النوافذ التي يدخل منها الهواء والحرية تراكمت مشاعر غاية في الخطورة والتدمير
كانت السينما علاجا ضد الفقر خاصة أن ثمن التذكرة مجرد قرش أو ثلاثة قروش للدرجة الثانية .
كانت سينما الأمير تعرض في الأعياد المسيحية فيلم ( حياة وآلام السيد المسيح) ،واصطحبتني أمي لمشاهدة الفيلم الذي كان يمس قلبها ويقترب من حياتها ووحدتها وفقرها وآلام ليس بسبب دعوة دينية ،وإنما لنظام القسوة الإجتماعي الذي فرض ،معادلة ( المعذبون في الأرض ) بوصف طه حسين.
الفيلم يخفف من آلام أمي ،لأن السيد المسيح نفسه تعرض للتنكيل والإهانه ،وتقبل ذلك ،كضريبة لتطهير الأرض من ظلم وأحقاد ،وكان يطلب من الخالق الغفران لمعذهبيهم لأنهم ،لا يعلمون ،لأن الخير لم يصل لقلوبهم.
اما أنا فكنت العن الظالمين الذين عذبوا المسيح وامي في الوقت نفسه، اذ كنت ارى انها ضحية الظلم الذي يستهدف الفقراء فقط ،لأنهم ضعفاء لا يملكون الدفاع عن أنفسهم .
فيلم ( حياة وآلام السيد المسيح) ظل معي لفترة طوية ،يواكب دراستي للأنجيل بجامعة القاهرة وتأثري البالغ بموعظة على الجبل بما فيها من تسامح ودعوة الإنسان للسمو والصفح وتجاوز الحقد والكراهية.كنت احدث زميلتي القبطية على مقعد الدارسة عن الفيلم ،حتى لمحتني المدرسة ،وسألتني عن هذا الحوار الذي جعل الزميلة تنصت لي بهذ الأهتمام ،لأنها لم تشاهد الفيلم ،فلما أخبرتها ،أصابها الإنزعاج ،لأنني مسلم ،فكيف اتحدث عن نبي الأقباط؟ لكنني لم أهتم بتحذيرها ،لأن أمي المعذبة في الأرض زرعت في قلبي حب عيسى ومريم وسانت تريزا ،تماما مثل حب النبي محمد والسيدة زينب والحسين ،فالحب لا يعرف التجزئة ،وكل الأنبياء حضروا لتخفيف الظلم ونشر العدل ونجيب محفوظ في رواية ( أولاد حارتنا) يلمس ذلك بعبقرية الكتابة ،الا أن الجهلاء لا يفهمون فأتهموه بالألحاد.
كانت أمي وصحبني كل صباح وهي تحمل أخي عادل الصغير إلى المدرسة ،وتتوقف عند بائع البسبوسة لتشتري قطعة أفطر بها ،وكم كانت تلك الببسبوسة رائعة المذاق ولا تضاهي أي حلوى في الدنيا فقد اشتريت حلوى من إيطاليا وفرنسا وألمانيا ،لكن تلك البسبوسة العجيبة كأنها معجونة من عسل الجنة.
فقدت أمي خمسة أولاد وظل لها فقط أنا واخي عادل ،الذي مات بعد رحيلها في حادث. كنت قريبا منها تحدثني كأنني أدرك ما تقول وتحتمي بي خاصة بعد محاولت للهجوم علينا من أشقياء في الليل لمعرفتهم بان أمي وحيدة ،وذات ليل وجدتها تناديني باسم أبي وتطالبني بالنهوض من النوم ،وأدركت أن ترهب الأشقياء ،وتقول لهم انها ليست وحيدة في الغرفة حتى كفوا عن تلك المحاولات.
امي كانت وحيدة ومريضة بالسل وهذا كان يبعد عنها الأقارب والجيران ،حتى أن قريبة لنا تعمدت كسر كوب الشاب بعد ان تناولته في إهانه بالغة ،لكنها لم تعلق وضمت أحزانها إلى نفسها.
اختلفت مع صبي آخر في الحارة خلال لعب الكورة ،وجدته يصيح باعلى صوته ويعايرني بلفظ قبيح ( ياابن المرة العيانة بالسل).
اعتادت أمي الحديث معي وروى قصة حياتها وكفاح أسطوري في مصانع الحلوى بالسيدة زينب ثم العمل في منازل الأجانب لأنفاق على أسرة فقيرة هي العائل الوحيد ،بعد اختفاء أبي مع زوجات آخريات.
رغم مرض أمي ،الا انها عادت للخدمة لدى سيدة يونانية اسمها أم كوستاكى ،كانت تأخذني وتحمل أخي الصغير إلى شقة في باب اللوق . نجلس انا وأخي في المطبخ وهي تنظف الشقة ثم تعود للمطبخ لتطهى الطعام.
كانت السيدة اليونانية تتعاطف مع أمي وتعاملها بعطف شديد ،لأن زوجها سكير ويضربها ويعاملها بقسوة ،وقد علمنا بوفاته نتيجة الإدمان بعد ترك مصر إلى اليونان .
اتذكر طيبة تلك السيدة وابنها الذي كان في مثل سني ويلعب معي.
أمي كانت تتركني مع أخي في غرفة شبرًا وتذهب إلى أم كوستاكيى التي كان تمنحها بعض الملابس لنا مع نقود قليلة تساعد على استمرار الحياة ،لكن المرض أرهقها ومنعها من الخروج .
وقد كتب نجيب محفوظ ببراعة عن مرض السل في روايته ( خان الخليلي). لكن هذا المرض اللعين لا يفترس سوى الفقراء وما أكثرهم في مصر يموتون في صمت كما ماتت أمي ،بعد رحلة طويلة من معاناة وزوج اناني ومجتمع بلا قلب بلغة أحمد عبد المعطي حجازي.
كانت أمي تحب فيلم زينب بطولة راقية إبراهيم ويحي شاهين ،لأن البطلة أصابها المرض اللعين وتنصت لأغنية عبدة السروجي ( غريب الدار) وهي مرثية تتحدث عن قدر أحمق يسرق السعادة والأحباب ،وياتي بالغم والظلم...
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق