بقلم
اسامة خليل
باحث وكاتب مصري مقيم في فرنسا
مدير " مركز لارماتان الثقافي" في باريس
باحث وكاتب مصري مقيم في فرنسا
مدير " مركز لارماتان الثقافي" في باريس
عجيب شأن النخبة الثقافية في بلدي .. الكل في صراع بحثاً عن قطعة من كعكة يتيمة .. أحوال وحالات من الترفُع والتعالي .. وانتقاص قيمة الغير الغريم .. والإساءة المجانية للغير الصديق أو للغير صاحب النية الحسنة.
التربة الثقافية في مصر - منذ السبعينيات للأسف - تربة واحدة مشتركة تنتج لنا - يساراً ويميناً – (نخبة) مكوناتها الجينية العميقة واحدة .. وإن اختلفت أشكالها وألوانها.
كنا نعتقد أن الإنسان (حيُ ناطق) يمشي على قدمين .. والآن نكتشف أن الإنسان في بلدنا (حيُ صائت) يمشي على أربع .. فالغالبية تتبارى في الصياح بحثاُ عن الاعتراف والشهرة .. وكل فرد يُجمِع بينه وبين نفسه على أنه (قيمة وقامة) ويريد اقناع الآخرين بذلك.
تتعدد الأقنعة ولا يرى المثقف ذاته إلا في مرآة انفعالاته : بين فتون عرس الحداثة والتقدم (الذي لم يعد يمتلك منه غير معطيات التخييل الإعلامية والمعلوماتية) وبين غموض أرحام الماضي (التي عادت للمخاض من جديد بوعود جنان الخمر والغلمان وحور العين وبوعيد عذاب القبر والثعبان الأقرع قبل الشواء فوق ألهبة الجحيم).
نعم .. مع اعتزال واستحياء الصامتين غير الصائتين من بقايا أصحاب العلم والفكر والثقافة .. و بعد أن تم حذف أقنوم (الأنا الأعلى) من ثالوث أقانيم الشعور : (الهو والأنا والأنا الأعلى) .. لم نعد نرى اليوم غير مشاهد الانقسام والتناثر والكراهية والاذدراء وتغول الأعراف والأحكام الانفعالية والعشوائية على دساتير العقل الأخلاقي والاجتماعي واختلال موازين العدل وامتهان سلطة القانون.
إضافة سريالية ظريفة :
يذكرني ذلك كله بتوفيق الحكيم في كتابه (عصا الحكيم في الدنيا والآخرة)، وهو يحاور عصاه بعد أن تخلى حماره عنه واشتغل بالسياسة حيث يصف - منذ أكثر من ستين عاماً على لسان الكُتُبي الذي ترك الثقافة وتحول إلى شَرْبَتلي - عبثية هذا المشهد ويقول :
إن الناس لا يريدون اليوم عصير الذهن .. إنهم يريدون عصير الليمون.
أو حين يتوقف مشدوهاً أمام مشهد ذلك الصبي الذي يغني ولا يفهم ما يقول : (ياطالع الشجرة هاتلي معاك بقرة تحلب وتسقيني بالمعلقه الصيني).
وأضيف بدوري إلى هذه المشاهد السريالية عبثية مشهد ذلك الذي يتمايل من النشوة مردداً (الله .. الله .. يا سيدنا الشيخ) حين يسمع – دون أن يفهم - صوت المقرئ وهو يقول (وللظالمين عذاب أليم).
ربما لم يعد بوسعنا والحال كذلك أن نتحلى بفضيلة التفاؤل بمستقبل قريب سعيد .. لذا وحتى لا تتأرجح النفوس بين وعد ووعيد .. لزم علينا أن نكتفي بتعليق أحكامنا دون أي تعليق .. واستقراء المشهد الثقافي بلا تقييم ولا تقويم .. مثلنا في ذلك مثل الحكيم في كتابه حين يدعوه الدرويش إلى (أن ينظر دون أن ينتظر، كمن يركب القطار بلا قلق، لأنه لا ينتظر محطة معينة للوصول).
(*) كتب الأستاذ الكبير صلاح اللقاني في (تدوينة) له على الـ فيس بوك ما يلي :
(نما إلى علمي اعتزام هيئة قصور الثقافة تكريمي وسط مولد التكريمات التي تقوم بها الهيئة حاليا ، وإذا كان الواجب يقتضيني أن أشكر الهيئة والقائمين عليها ، على ثقة أولوني إياها ، وفضل شاءوا تطويقي به ، إلا إنني أشعر أنه تكريم بطعم الإهانة . فإذا كانت عيون الغربال القائم بفرز المبدعين واسعة إلى تلك الدرجة التي تمرر الشامي مع المغربي ، وتكرم من أفنى عمره عطاءً مع من استهلك أحذيته في المرور على المكاتب لصنع علاقات شخصية تعطي موهبته المحدودة شرعية زائفة فإن التكريم بهذه الطريقة يكون قد تجاوز مبتغاه ، ونأى عن نبل قصده . أعتذر عن تكريمكم دون أن يدفعني غضبي عن الاقرار بأن هناك من المكرمين من يستحقون التكريم وزيادة).
وبعد ردود فعل التأييد والتنديد كتب (تدوينة) أخرى كما يلي :
(لابد لي من توضيح ما ظننت أنه شديد الوضوح في موضوع تكريمي من قبل هيئة قصور الثقافة ، فقد اتضح لي أن " المافيا الثقافية " تسعى لاستغلاله لضرب صاحب الفكرة الأستاذ أشرف أبو جليل ، وهو ما لم يرد لي في ذهن ، فلست ممن يقابلون الإحسان بالإساءة ، ولا نبل التصرف بوقاحة السلوك . لقد شكرت من يسعى لتكريمي ، وثمنت ما يفعله معي ومع غيري ، لولا أنني رفضت أن يقفز لحلبة التكريم بعض الذين لا يستحقونه ، وأشرت لاتساع عيون الغربال الذي أغرى بعض الذين لم يحظوا به على إشعال حرب شعواء ضد مهندس الفكرة . ومن أعجب الأعاجيب أن تكريم بعض رموز اليسار الثقافي ، وهي إحدى حسنات الأستاذ أشرف بكل تأكيد ، قد جعل المتسلفة يغضبون غضبة مضرية ، كأنه كان من الممكن أن تكون هناك ثقافة حقيقية خارج ما بذله مثقفو اليسار ورموزهم كتابة وعملا بين الجماهير...).
أخيراً ونحن بلا حول ولا قوة نشاهد بأعيننا في مجتمعاتنا العربية ذروة اللامعقول .. استعير مقولة الأستاذ صلاح اللقاني في مدونته الأخيرة مع بعض التحوير كما يلي : عندما يكون أمثال (هؤلاء مثقفينا) وعلماءنا فلا غربة في تدمير العراق وسوريا وليبيا واليمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق