مختارت إيزيس
أسبـوع أفـلام «آرتـي
شجـاعـة أن تكـون اليـوم في السينمـا
|
||||||||||||
لم
يتوقّع منظّمو النسخة اللبنانية الرابعة من تظاهرة أسبوع أفلام «آرتي»،
المُقامة بين الثامن عشر والخامس والعشرين من تشرين الأول 2012 في صالة
سينما «متروبوليس» (مركز صوفيل، الأشرفية)، أن يُشاهد واحد وخمسون مُشاهداً
الفيلم الإيراني «عائلة محترمة» لمسعود بخشي، مساء الجمعة الفائت. الرقم
عاديّ جداً بالنسبة إلى الأرقام المتداولة في السوق السينمائية. هذا رقم لا
يعني شيئاً. إنه، أحياناً، سببٌ أساسي لعدم استمرار عرض الفيلم أكثر من
أسبوع واحد. هذا منسحبٌ على العروض التجارية. الفيلم الإيراني ليس تجارياً.
التظاهرة ثقافية. يعني أن للرقم معنى آخر أفضل وأهمّ. الثانية والنصف بعد
ظهر يوم الجمعة نفسه، حدث انفجار في منطقة الأشرفية. السادسة مساء عُرفت
الشخصية المستَهدَفة. شخصية أمنية أساسية في اللعبة اللبنانية الداخلية،
وامتداداتها الإقليمية. الجريمة مروّعة. قتلى وجرحى ودمار. ذهول وقلق. خوف
كبير. لكن، عند الثامنة مساء، ذهب واحدٌ وخمسون مُشاهداً إلى صالة
«متروبوليس». شاهدوا الفيلم بهدوء تام. أرادوا اختبار الذات في مواجهة حدث
مفصلي في مسيرة الخراب اللبناني. أرادوا التأكيد لأنفسهم ربما أن للسينما
موقعها المحصّن في نفوسهم وعقولهم. أرادوا التأكّد مما يشعرون به. أو هكذا
يُمكن قراءة المشهد. أو هكذا يُمكن فهم التحدّي: لن تمنع السياسة والأمن
ومساوئهما من متابعة العيش، وإن على التخوم الواهية والهشّة للحياة
اليومية. السينما قادرة على إعانة محبّيها على مواجهة القرف اللبناني،
والبشاعة اللبنانية، والفساد اللبناني. قادرة على جعل الصالة المعتمة أكثر
إضاءة من بلد لم يكن يوماً بلداً ولا وطناً ولا أمّة.
مساء اليوم التالي، حدث الأمر نفسه. بل أكثر من ذلك. مساء السبت، كان هناك موعد مع كريس ماركر، المخرج والكاتب والمُصوّر الفوتوغرافي الفرنسي. موعد لتكريمه، بعد أقل من ثلاثة أشهر على وفاته في 29 تموز 2012، عن واحد وتسعين عاماً. اختير فيلمه الوثائقي Les Chats Perches لعرضه في حفلة التكريم. مرّت ثلاثون ساعة على الجريمة. جاء خمسة وسبعون مُشاهداً. الأرقام تقول شيئاً خارج إطار المُشاهدة والنقاش. الأمر لافت للانتباه. هناك جريمة هزّت البلد. هناك طرقات قُطعت بإطارات مشتعلة. هناك أناس غاضبون. هناك ملثمون يحملون سلاحاً. هناك هزّة قوية. لكن، في مقابل هذا كلّه، هناك إصرار على المُشاهدة السينمائية. هناك إصرار على متابعة نمط آخر من الحياة. هناك رغبة في الاطّلاع على إنتاجات سينمائية وسمت صناعة الصورة. هناك رغبة في الانقلاب على الموت والخراب، بالذهاب إلى صالة سينمائية. الأمر لافت للانتباه، لأن الفيلم وثائقي، والمخرج صداميّ، والفيلم مثير لمتعة العين والقلب معاً. هذا يعني أن التظاهرة استمرت. لن أحلّل المشهد أكثر من ذلك. لن أسقط في مثالية اللحظة. لكل مُشاهد أسباب دفعته إلى الصالة في تلك الأمسيتين. أرى المُشاهدة، بحدّ ذاتها، لحظة جميلة. لعلّ السينما لم تعد قادرة على منح أحد أي امتياز إنساني، أو راحة، أو متعة. لعلّ الخوف من المقبل من الأيام (كالخوف من الأيام الفائتة) دافعٌ لأقوال كهذه. التظاهرة دعوة إلى معاينة أحوال الناس والدنيا. الفيلم الإيراني كَشْفٌ لبعض بواطن المجتمع والبيئة. لبعض ما هو قائم خلف الأبواب، وداخل النفوس. عودة آراش إلى بلده خطوة نحو إسقاط أقنعة، وفضح حكايات مخبّأة. عودته من الغرب إلى شيراز للتدريس الجامعيّ، بداية مسار تصاعديّ متأزّم. أحوال عائلته تشبه أحوال بلده. الضائقة المالية والاقتصادية انعكاس لبؤر منغلقة على فسادها وانهيارها. الضائقة العائلية جزءٌ من التفكّك الاجتماعي العام. الفيلم الوثائقي مختلف. مزيج صُوَر بلقطات بينها مقاطع مكتوبة بلغة هادئة. مزيج صُوَر متوغّلة في أشياء الحالة الفرنسية المرافقة لما بعد جريمة 11 أيلول 2001. الفكرة مثيرة: بعد تلك الجريمة، هناك من راح يرسم قططاً على جدران باريس. في الأمكنة كلّها: أسطح بنايات. أنفاق المترو. جدران الكنائس والأبنية. لعبة متقنة، تفتح أبواب «الجحيم»، بطرحها أسئلة الحياة والوجود والهوية. نديم جرجوره
عن جريدة السفير اللبنانية
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق