قد تكون " الثقافة" هي الحل
محمد ناجي في باريس
بقلم صلاح هاشم
كان الاديب الروائي المصري محمد ناجي الذي التقيته حديثا في باريس ، ونحن اصدقاء منذ أيام الدراسة في كلية الآداب جامعة القاهرة، قد حضر للعلاج في عاصمة الثقافة ومدينة النور، وهو ينتظر الآن، بعد أن صار على رأس قائمة المرضي الذين ينتظرون ان تجري لهم عملية زرع كبد جديد، ينتظر ان يرس جرس هاتفه المحمول الآن في اية لحظة ، وعليه وقتها ان يسلم نفسه فورا لاجراء العملية . ونحن وكل اصدقاء ناجي، صاحب روايات " خافية قمر " و " مقامات عربية " و" لحن الصباح " و " الافندي " وغيرها، ننتظر معه ايضا ، بقلوب جسورة ومفعمة بالأمل. .
وكالعادة دار حديثنا في مقهانا المفضل ، كافيه سانت اندريه ديزار، بالقرب من محطة سان ميشيل في الحي اللاتيني عن مصرحبنا الكبير، التي أتى منها ناجي ، وهو يحمل لنا هدية عيد فطر معتبرة ثمينة : كعك غريبة بالسكر، ومحشو بالجوز واللوز والفستق، ويذوب من حلاوته في الفم ، ولم أصبر بالطبع على العودة الى المنزل، وفتحت العلبة في غرفته والتهمت ربعها، ولولا اني توجهت لزيارة ناجي بصحبة زوجتي، لكنت التهمت العلبة كلها..
تحدثت مع ناجي في الشأن المصري، وأحوال الناس والبلد،ووجدته متفائلا جدا بشباب مصر من المبدعين الجدد في القصة والرواية والرسم والشعر والسينما والفنون، وحكي لي ناجي عن مجموعات من الشباب من المواهب المصرية الجديدة المتعطشة للمعارف الحديثة، وتريد ان تربط حركتها بالعالم والافلاك ، وان تفتح لها سكك للتواصل مع مايجري في الكون الذي يتطور من حولنا في مجالات الفلسفة والفكر والسينما والبيئة والعلوم الاجتماعية الحديثة والمسرح و الفلك وموسيقى الجاز وغيرها ، لكنها لاتجد في مصر حاليا من يمنحها اي شييء..
لا يريد أحد أن يمنحها اي شييء..
تري من كان يملك اي شييء لكي يمنحه للشباب، قلت لناجي، في ذلك الخراب الثقافي الروحاني الذي عانت منه مصر في الحقب الساداتية والحقب المباركية، حتي لم يعد من الممكن التخيل بأن في وسعها ، ان تتحمل اهانات جديدة، و مغبات ومظالم وعساكر وشاشات عقيمة منحطة ، لاية حقب اخري قادمة، ويمكن ان يكون لها اي نصيب من التحقق !. قلت لناجي انه لم يكن هناك أحد في ذلك الخراب الثقافي الروحاني الخ الذي آلت اليه مصر خلال الثلاثين سنة الماضية يملك أي شييء لكي يمنحه للشباب المصري ، وكنا جميعا بعد ان افتقدت " القدوة " ننتظر اشتعال النار..
لم يكن يتوقع أحد أن تقوم الثورة في 25 يناير في مصر. الثورة كما بدا لي صبرت طويلا علينا. نحن انتظرنا وقعدنا ، لكنها لم تنتظر . فجأة حطت الثورة في الميدان على مايبدو، ثم دعتنا. الثورة التي شاركت فيها ، أرفع رأسك فوق انت مصري، وخلاص مفيش خوف تاني، كانت معزوفة أو قطعة موسيقي جازية ، ترتجل أمامي في كل لحظة. الثورة ارتجلت مطالبها ( لم تبلور القوى السياسية في الساحة مطالبها الا يوم 6 فبراير، بعد قيام الثورة بعشرة أيام) كما ابتكرت هتافاتها وشعاراتها وقصائدها ورسوماتها، وخلقت رابطة فناني الثورة..لقد كانت عملا فنيا ودائما في طور التشكل والتطور والتكوين، ولم تصل جاهزة للمشاركة في عرض أزياء..
وكان ناجي يرد على التليفون ، ويحدثني في حماس بالغ في المقهي عن تفاؤله بشأن جيل كامل من الكتاب والفنانين والروائيين والمبدعين الجدد من الشباب الذي يبحث في اجواء ذلك الخراب الثقافي الذي آلت اليه مصر عن نقطة ضوء. عن مرسى يلجأ اليه مركبه وسط العواصف والأنواء، وعن فكر جديد يتواصل معه بالمعارف الجديدة، ويمنحه من خبراته واكتشافاته وتجاربه، ويفتح له سكة، بل ثقب إبرة، الى المستقبل..
والغريب العجيب كما حكي لي ناجي ، ان ذلك الجيل الذي يفصلنا عنه أكثر من ثلاثين سنة وأكثر أحيانا ، مازال يتعاطي مع رواياته، بنفس الحماس وأحاسيس الفضول والشغف ، التي كنا نحس بها أيام زمان في فترة الستينيات أيام الدراسة في الجامعة و مقاهي " ريش " و " ايزائيفيتش " ولحد " زهرة البستان " أمام أي عمل ابداعي روائي او سينمائي جيد أصيل ، ويشدنا اليه من خلال اشتغالاته الفنية على عناصر اللغة والمعمار والذاكرة والاسطورة والتاريخ، اي مبحث " الهوية " ، وكان هكذا يبهرنا ويحفزنا أكثر على مغامرة الابداع. ان تلك " ظاهرة " تدعو حقا للتأمل والتفاؤل أيضا، قلت لناجي..
وللحديث بقية ..
صلاح هاشم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق