تري ما الذي يجعل من اعمال الروائي الصديق محمد ناجي ، نماذج متفردة من الرواية المصرية الجديدة ؟
يكمن سحر تلك الاعمال التي اعتبرها بمثابة فيتامينات مغذية ومحفزة علي الابداع ، يكمن في فنها وتكويناتها وشخصياتها وسحر لغتها الادبية الجزلة ، وتفردها عبر محاولات ناجي في الولوغ في طاسة اللغة ، لكي يفهم علي دماغها ، ويعب من سحرها ، ويصنع لها عند الاستخدام ، طريقة خاصة في العرض ، لكي تكون حتي وهي تصف لنا شخصيات اعماله ، وقبل ان تجعلها تنطق بذلك الكلام الذي يدوخنا تكون طقسا سحريا ، يكمن في بحث ناجي التواصل في كل لحظة مع تللك اللغة السحرية ، التي تشكل فكرنا ووجدانا ، ذاكرتنا وهويتنا ، ولا عجب ان يكون ناجي قد بدأ علي سكة الابداع شاعرا ، وأرجو ان تكون اشعاره المنشورة هنا ، ارجو ان تساعد علي فهم وتمثل هذا الكلام عن علاقته باللغة، تللك اللغة الجميلة الحلوة التي لا نشبع منها ، لغته ، والتي ستجدها هنا في أشعاره التي كان يرددها علينا اثناء فترة دراستنا في كلية الآداب في زمن الستينيات
وكانت شلتنا في ذلك الوقت تضم شعراء وكتاب قصة قصيرة ومهووسين بالسينما وكتاب مسرح ، وكانت تجتمع عند صديقنا المرحوم محمد الفيل زميلنا في الكلية الذي يسكن عابدين و كانت تضم شعراء وكتاب ومحبين وعاشقين مثل لشاعر محمد ناجي و سامي الزاز وعبد العظيم الورداني ومحمد سيف واسامة الغزولي ونجيب شهاب الدين وكان عم عبد الفتاح الجمل ينشر لنا قصصنا واشعارنا و كذلك ترجماتنا للاعمال التي نحبها في جريدة " المساء " ، لهرمن هسه وكافكا وهوشي منه وهيمنجواي وطاغور وغيرهم ، وكان يسبنا ويشتمنا ويلعننا لشقاوتنا ، لكنه كان يحبنا ويحترمنا في ذات الوقت ، كان يشتمنا ويحسدنا في آن لانه لم يشهد جيلا قلقا متمردا ومقبلا علي التهام الحياة مثل زوربا اليوناني من اعمال نيكوس كازانتزاكيس في الادب ومايكل كا كويانس في السينما ، مثل جيلنا
وكان عم عبد الفتاح يحترم اعمالنا وينشرها ، وكانت الحياة الثقافية والابداعية في مصر آنذاك تتوهج بكتابات جديدة، يعني كانت أيام، اجمل ايام عمرنا، حتي صارت مثل تلك " الاساطير " التي يخترعها ناجي - من حقنا - في رواياته الواقعية الشاعرية الجميل
ويمكن ان نقول ان ناجي قد " فاض شعرا " في تللك الاعمال الروائية الجديدة التي اتمثلها عند الالتهام كما لو كانت بل هي امتدادات روحانية ونفسانية لذلك الجيل الذي ننتمي اليه والذي ساهم ايضا في صنعها بكتاباته ، كما في مجموعة " الحصان الابيض " مثلا ، وساعد بشخصياته وهمومه وقلقه في خلق تلك " الاجواء " التي ساعدت علي خلق المناخ الذي طلعت منه ، ويكتب هنا عنه ناجي في مقاله عن " لكتابة صنعة قلق " - انظر عدد يونيو من مجلة " الكلمة " التي يصدرها د صبري حافظ علي الانترنت - كما يتحدث عنه في تلك الحوارات معه التي ننشرها هنا في " مختارات ايزيس "
وتتحدث عن جيلنا وشلتنا ، وهي نفس الموضوعات الهمومية والابداعية في قلب حياتنا ، والواقع الثقافي في مصر الآن ، وكذلك " الجديد " الذي نحاول مع محمد ناجي وآخرون الاسهام في صنعه باعمالنا الابداعية ان رواية او قصة ان قصيدة او فيلم، فالجديد آت آت لا محالة
بعدما اخترنا بحريتنا ان نكون في " الكتابة " ، وان نكون في الاشتغال بذلك الحريق الكبير- القلق - نثرا وشعرا وسينما ، لكي نولد في قلب اللهب كالعنقاء من جديد
يكمن سحر تلك الاعمال لمحمد ناجي ، في تلك الاسرار والاحاجي والانوار التي يخفيها بحذق ومهارة بين سطور اعماله كما في روايته او بالاحري رائعته " خافية قمر " وتلك الروايات التي تنهل من الواقع ، ثم تعيد صياغته وتشكيله براحتها
وتحقق له ابعاده وامتداداته الاسطورية والروحانية والميتافيزيقية ، في ذاكرة ناجي والذاكرة الجمعية الاسطورية للشعب المصري، كما في سر " العتبة القزاز والسلم النايلو " التي يشرح لنا ناجي اصلها وفصلها وسرها ، ومن ثم فهي طرح تساؤلات بخصوص الواقع المتغير الذي تشهده مصر البلاد، وتشتعل بقلق الكتابة ، الذي هو ايضا قطعة من الهم الكبير ، هم الناس في مصر ، في عيش انساني بسيط وكريم ، وحقهم في الاستمتاع بالحياة ، بالفتها وغبطتها ، في بر مصر العامرة بالخلق والناس الطيبين
وتحية الي ناجي علي رواياته ، التي تصبح بعد التهامها ، تصبح في التو قطعة منا ، من دمنا ولحمنا ، تصبح حين نعجب بها كما يقول المفكر والمخرج السينمائي الفرنسي الكبير جان لوك جودار كما في الافلام السينمائية لعظيمة، تصبح أكبر منا
وانا والله اتعجب واتساءل ، متي تخرج في اعمال سينمائية مصرية ملهمة ياناس ويا وسط سينمائي مصري تافه وراكد وآسن ، متي ؟ ؟ تري هل يسمعنا أحد ؟ ؟
حسنا ..اترككم الآن بعد هذا " الاستهلال " مع احاديث ناجي
الشاعر السري.. والروائي المعلن "محمد ناجي" بعد صدور الأفندي:
الكتابة احتراق!
حــوار:
أحمد وائل
صحيفة أخبار الأدب ـ الأحد 10 مايو 1909
إجراء حوار مع الروائي محمد ناجي أمر مربك، فهو كاتب قلق ـ علي حد تعبيره ـ "لا يمكن أن أصل إلي يقين إذا كان كل شئ مشكوك فيه".. حينما ينتهي من عمل يتركه لفترة مثلما حدث في عمله الأخير الذي لم ينشر حتي الآن "ليلة سفر" ثم يتركه لفترة، خلال هذه الفترة بين الكتابة والمراجعة، من الممكن أن يبدأ عملاً جديداً. القلق إذن وما يثيره من أسئلة هما جوهر عالمه الروائي.
خلال حديثنا معه يتساءل عن موقع العلم في الأدب: "حينما أكتشف العلم أن الضوء ليس مساحة متماسكة ظهرت المدرسة التأثيرية في الرسم.. أين هذا التأثير في أدبنا.. نحن لا نتابع بشكل جيد".
من ناحية أخري يصعب تصنيف محمد ناجي في جيل محدد، هو نفسه يقول: "لم يكن هناك جيل إلا جيل الستينيات، هم الجيل الوحيد الذي تواجدت مساحات للتقارب في أعمالهم "..
كما يختلط الحديث مع ناجي بين الرواية والشعر، حيث تتداخل تجربة "نيكوس كازنتزاكس"، الذي يعتبره روائيا لم ينل حقه من التكريم والاحتفاء، مع تجربة "ت. س. أليوت" الشعرية، وتتمازج تجربة جيل الستينات في الرواية مع قصيدة السياب وصلاح عبد الصبور.. شغف الروائي بالشعر لا يتركه للحظة دون أن يعقد هذه المقاربات.. في السطور التالية تفتح "أخبار الأدب" حوارا هادئا مع صاحب "الأفندي".
***
في البداية أقول له:" بدأت بكتابة الشعر"
(يضحك) ثم يقول: "نعم، ولا أزال أكتبه حتي الآن، ولكني لا أنشره..
أقول له:»هي هواية سرية إذن؟"
فيجيب: "نحن لدينا الكثير من الشعراء، لكن هل تتذكر قصيدة واحدة، بل بيتا واحدا مما كتب مؤخرا؟!..محمد عفيفي مطر، علي سبيل المثال، موجود في متن الإبداع، هو متواجد في شعره، لكنه تواري عن المشهد، وليس عن الإبداع. أين الشعراء :محمد سليمان، شعبان يوسف، عماد أبو صالح من المشهد الثقافي؟ لا توجد حياة ثقافية متكاملة.. نحن نعيش في سرادق منصوب لا يحتوي علي فاعليات حقيقية، والأكثر حضورا ما يغلب عليه الخفة. لا توجد حياة ثقافية ولا علمية فاعلة، وعلينا هنا أن نفرق بين إنتاج الثقافة، وبين فاعليتها وتأثيرها. نعم لدينا طاقات إبداعية كبيرة وكثيرة في الأدب والفن والفكر والعلم، لكن هؤلاء فاعليتهم محدودة، ومعزولون عن سياق الحياة. هم مثل الأصابع الجميلة في يد مشلولة. عندما يفلت مبدع ويحصل علي تقدير عالمي مثل نوبل، نكتفي بتعليقه علي صدورنا كوسام معدني، نجيب محفوظ علي سبيل المثال وردة في عروة الجاكتة، وأحمد زويل "فُرْجَة" في الفضائيات، دون أن تحرص أي جهة رسمية علي الاستفادة من علمه".
* وما أسباب ذلك؟
أظن أن هناك ثلاثة أسباب، أولها تآكل فاعلية ما يسمي "الطبقة الوسطي"، وثانيها أن السلطات العربية ترفض الشرائح المستنيرة من المثقفين، باعتبارهم غير متفهمين لدور سلطة المال في قيادة التغيير، ولضرورة التنازلات السياسية في عصر العولمة. وثالثها أن الناس لا توفر لهذه الشرائح مناخا حاضنا، لانشغالهم المضني بتدبير أمور المعاش. أصبح المثقف الآن بين خيارين، التوظيف أو التهميش.
* هل تري أن المشكلة في النقد ؟
(يجيب بشكل قاطع): لا، نحن لدينا نقاد جيدون، لكن لا توجد ـ أيضا ـ حياة نقدية.
***
ينسج محمد ناجي عالمه الروائي الخاص، علي عدة مستويات، أهمها البنية. روايته الأولي، "خافية قمر" (1994)، استقام بنيانها علي ثلاث مقدمات، لا توجد فصول، بل مقدمات فقط. وفي "مقامات عربية" (1999) يصنع عالما من الظلال، ففي الرواية نجد أنفسنا أمام جماعة تستكين لحكم الظل".. لجملة المفتاح في هذه الرواية: "لا تقل لظلك بم"..
* أسأله: هل تنشغل بتقديم بنية مختلفة في كل عمل أو بمعني آخر هل لا تزال تبحث عن البنية المناسبة؟
يجيب:"كل كتابة بما تحمله من أسئلة وذائقة وثقافة تفرض شكلها ولغتها.. بمعني أن الكتابة لا تستدعي التعسف بفرض بنية نظرية علي العمل، وإنما تتشكل البنية تلقائيا أو عفويا حسب هم الكاتب والموضوع. في "خافية قمر" مثلا أنهيت العمل بمقدمة علي إعتبار أن القارئ عليه أن يكمل من عنده، وبالمثل كان البناء في "مقامات عربية" إفرازا حتميا لموضوع الرواية، التي تتناول الوضع العربي في فترة كتابتها، وثمة محاذير كثيرة عند تناول هذا الموضوع بشكل صريح، فكان لابد من التعبير عن ذلك بتاريخ وهمي."
الإكتفاء بهذه الأسباب سيجعل هذه الكتابة رمزية، بمعني أن العمل نفسه لم يعتمد علي التورية والرمز فحسب!.. لذا يستدرك ناجي قائلا :"انشغلت في هذا العمل بتقديم معادل موضوعي للواقع، من خلال تاريخ وهمي يسجل وقائع حياة أمراء وسلاطين وملوك، وفي جزء من الرواية كنت مشغول بمحاورة التراث، مثل الكلمات العامية ذات الأصل الفصيح، أو أسلوب المقامة العربية."
* هل وازنت بين الرمز والإمتاع؟
حاولت أن يكون عالما قائما بذاته..بمعني أن يكون الرمز معادلا موضوعيا للواقع، وبالتالي يكون عالم الرواية مكتمل في ذاته، وفي الوقت نفسه يطرح هموم وأسئلة الواقع. أما بالنسبة للمتعة فأنا أري أن الكاتب لابد أن يستمتع بما يكتب، وعليه أن ينقل المتعة لمن يقرأ، لأن الروائي فنان مثل عازف الكمان، عنصر المتعة ضروري له عند العزف وبدونه لا مبرر للكتابة..
* أسأله: هل ترفض الكتابة الرمزية؟
فيجيب : "أرفض الرمز باعتباره تكوينا لحكم مسبق، بمعني أن المومس، مثلا، ترمز إلي نموذج إنساني مكروه، في حين أنني عندما قدمتها ـ مثلا ـ في "الأفندي" كانت المومس، نازك، أكثر الشخصيات إنسانية. أنت لا تحمل إدانة لها عند القراءة، أي أن رمز المومس حمل دلالة أخري حسب سياق العمل".
* لا تزال تؤمن بأن الكاتب لديه مسئولية ثقافية وإجتماعية!؟
أميل إلي الاعتقاد بأن الكتابة عمل ينطوي علي انغماس في الحياة، وانشغال بالتفاصيل والناس والأحداث والمسارات والأسئلة، وإلا فلماذا نكتب؟. يصعب أن أتصور إن الكتابة يمكن أن تأتي من ذهن فارغ، وذاكرة مجدبة، وبصيرة هامدة، ومشاعر ساكنة، أو إنها تأتي من الكتب فقط. الكتابة هي احتراق بالحياة، ولا يمكن أن يكون الكاتب متفرجا سلبيا غير متورط في ألعاب الحياة.
لا بد أن تكون للأديب رؤية سياسية ومواقف من قضايا الناس والانسانية، دون أن يعني ذلك انصياعه لإملاءات سياسية وجمالية وثقافية ومعرفية. بالطبع لي انحيازات ورؤي سياسية لكنني أنفر من القيود والطقوس والتراتبات الحزبية، والأدب عموما ليس "مكملا غذائيا" لسياسات حزبية ـ ولا أقول لاتجاه سياسي، وموقف الكاتب يظهر في أعماله، فهو لا يمارس الرفض في الخفاء بل ينشر أعماله، ويناقش ويتفاعل.
* هل تراهن على الشخصيات فى تكوين عالمك الروائى؟
ربما؛ فالإنسان محور العالم الذي نعيشه. هو العين التي تري، واليد التي تفعل، والدماغ الذي يفكِّر ويدبِّر ويتصور، والوجدان الذي يحس ويقلق ويحلم، ولا وجود للزمان والمكان خارج الوعي البشري. ثم لا تنس أن الإنسان هو الكاتب والقارئ أيضا، ويمكننا أن نعرِّفه بأنه "حيوان كاتب قارئ".
* هل تشغلك فكرة تعلّق القارئ بالشخصيات؟
يهمني في الأساس أن أحسن تقديمها، وأن أقنع القارئ بوجودها، وأن أكون علي وعي بتكوينها ودوافعها وأسئلتها، وأن أشرح ظروفها دون تجريح لإنسانيتها، وذلك لا يعني مطلقاً تبني مواقفها وكلامها. أما تعلق القارئ بها فذلك متروك لكل قارئ ،حسب تكوينه الاجتماعي والمعرفي والأخلاقي، وحسب أسئلته وانشغالاته وتحيزاته.
* أنت من مواليد الغربية، لكنك لم تنشغل بتناول عالم الريف، ما أسباب ذلك؟
عشت في القاهرة أكثر مما عشت في الريف، وحتي الريف الذي عشته كان له طابع مختلف عن القري، إذ توزعت طفولتي بين مدينتين كبيرتين في الدلتا، هما "سمنود" في الغربية و"أبوحماد" في الشرقية، وكانت المدينتان أخلاطا من عالمي الريف والمدينة.
كنت بحكم تكويني الاجتماعي وبحكم خصوصيتي كتلميذ وبطبيعة المرحلة السياسية، أكثر انتباها وانجذابا لنداءات المدينة. أعترف انني انتبهت للريف بشدة بعد اسقراري تماما في المدينة، وربما كان ذلك بحكم الاحباطات الهائلة التي جرعتنا اياها المدينة ـ بمعناها الحضاري والمعرفي والقيمي ـ منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وما تلاها.
كتبت عن الريف الذي أعرفه، وستجد شيئا من ذلك في "خافية قمر"، وكتبت عن المدينة التي عرفتها، وستجد ذلك في "رجل أبله.. امرأة تافهة" و"لأفندي".. أحاول دائما أن أكتب عما أعرف تفاصيله وأسئلته.
* لكنك لم تهتم بتعيين أو تحديد المكان بشكل واقعي!
يشغلني دائما رصد التحولات السياسية والإقتصادية التي نعيشها في العقود الأخيرة، وما تثيره من قضايا وإشكاليات علي كل المستويات الإجتماعية والمعرفية والأخلاقية، لذلك تجد الشخصيات في حالات تحول، والمكان في حالة »هدد«، أو هو أشتات من تصورات ضبابية لم تستقر ملامحها بعد.
لا أهتم بالوقائعية التاريخية، ولا بالواقعية الجغرافية وتفاصيل المكان، فلست "مسجلاتي" لوقائع وبيانات، تكفي الإشارة إلي جزئية في المكان تنشر في الرواية معني أريده.علي سبيل المثال حارة "قصر البنات" في رواية "العايقة بنت الزين" لا توجد في نفس المنطقة الجغرافية التي أشرت إليها، ولا توجد أيضا قرب القلعة بوابة فرعونية قديمة كما أشرت في الرواية. أفضل أن ابتكر المكان كما ابتكر شخصياتي، وبما يناسب أسئلتي. ولابد بالضرورة أن تحمل الشخصيات وأطياف الأماكن التي أؤلفها ظلالا من الواقع، ومهما حلقت جناح الخيال عاليا فلابد أن يحمل ريشه ألوان الواقع بزهوها وقتامتها.
في رواية "مقامات عربية" المكان متخيل من أساسه، كذلك التاريخ الذي تحكيه الرواية هو صنعة خيال خالصة، لكنني أظن أن كل المتخيل في المكان والشخصيات يمثل معادلاً موضوعياً لهموم الواقع وأسئلته، هو في النهاية انعكاس لعالم أكبر موجود في الزمان والمكان الذي أعيشه.
* هل يعني ذلك الاعتماد أو الانحياز إلي الخيال أكثر من الواقع؟
سؤالك يعني أنك تضع الخيال في مواجهة الواقع وتجعله نقيضا له، وهو أمر لا أوافقك عليه، فالخيال عملية عقلية في الأساس، وهو محصلة لتفاعل الوعي والمشاعر مع الواقع، وهو أيضا يرتب لنا الأولويات، فخيالنا لا يسرح إلا مع ما يهمنا أكثر، وأقصد هنا الخيال المبدع وليس الخيال الناتج عن خلل عقلي.
الخيال الابداعي لا يبعدنا عن حديث الواقع، وإنما يجعلنا أكثر قدرة علي مقاربته بشكل ما. وهو ليس ترفا عبثيا، وإنما ضرورة إنسانية للابتكار والتغيير والإنجاز.
***
* نشرت روايتك الأولي في التسعينيات، في فترة ركزت علي كتابة الذات، لكنك تناولت الذات بشكل مختلف.. هل تعتبر كتابتك ذاتية؟
الذات عندي "نحن". أتخيل أن الكتابة تطمح لأن يكون لها فاعلية عامة.. لهذا فإن الكتابة تعبير عن ذات المبدع والذوات المحيطة به، فأنا لا أزال أري أن الكتابة عملية تواصل لابد أن تحقق فاعلية ما. رواية جيل الستينيات، علي سبيل المثال، احتوت علي إنقلاب، أو "نزوع إنقلابي"، علي الشكل الثقافي والسياسي الاجتماعي. بعد النكسة، يونيو 1967، كان لابد من وجود تيار إصلاحي يرمم البناء، هذا التيار تمثل في أعمال نجيب محفوظ وفتحي غانم، ولكن هذه الاعمال كانت تمثل تيارا مستقرا، فكانت كتابة لها استقرار معرفي وجمالي. تختلف كتابة غانم ومحفوظ عن كتابة جيل الستينيات، الأخيرة كانت تقدم إنقلاباً علي الكتابات المستقرة، تلك الأعمال المبنية علي عدم استقرار،معرفي وجمالي، كأنها كانت تستند علي برنامج مكتوب، أو تم الإتفاق عليه بالمصادفة.
يقول عفيفي مطر في أحدي قصائده " ليس المهم أن نرقع الثوب/ لكن المهم أن نستبدل الجسد".. الخلاصة أنه لم يعد هناك هذا الإتفاق المعرفي، بل لم يعد أمامك في عصر إنتهاء الأيديولوجيات الكبري إلا أن تبدأ من الأول، تحمل أسئلتك علي كتفك وتمضي للكتابة.. فلم يعد من الممكن أن نلفق يقينا.
* هل تري أن التمرد هو ما يصنع الكتابة؟
لا، بل القلق هو ما يصنع النقلات في تاريخ الكتابة، قد يعتبر البعض أن تلستوي كاتبا كلاسيكيا، لكنه كان يصنع القلق، فقد كان رجلا إقطاعيا متخوفاً، وقلقاً، علي مستقبل طبقته بسبب أخلاقها..لهذا كتب »آنا كارنينا«، وبالمثل لولا قلق السياب وعبد الصبور ما أنتجت قصيدة التفعيلة، ودون قلق أدونيس والخال ما جاءت قصيدة النثر، ولولا جيل الستينيات ما كنا خرجنا من عباءة الرواية الكلاسيكية.
الشاعر السري!
ما بين الستينيات والسبعينيات كانت هناك مجموعة من الشعراء، من بينهم شعراء عامية مثل: أسامة الغزولي، نجيب شهاب الدين، ومحمد سيف، أما شعراء فصحي فهم : محمد صالح، فتحي فرغلي، ومحمد ناجي (يعلق: أضع نفسي بينهم بتواضع). لم تستقر هذه المجموعة في المتن الشعري، ربما لإنها جاءت في لحظة "فوران".. يتابع ناجي: "طوي هذه المجموعة ضجيج القصيدة السبعينية، كان لها ضجيج خاص انتهي _ في تقديري- إلي إضعاف العلاقة ما بين الشاعر والجمهور..كانت هذه المجموعة محملة بأسئلة، فاحتفظت بالصمت طويلا، وغابت اسماء مهمة مثل نجيب شهاب الدين. بعض هؤلاء الشعراء كانت لديه الجرأة ليطرح نفسه، بما عنده من إجابات، بقوة وعبر حلقات قوية ضمنت سيطرته علي المشهد الشعري". * * ما هو موقعك من هذه المجموعة؟
يجيب:" كان عندي طموح إلي الوصول إلي قصيدة دراما عربية، تسير علي نهج القصيدة التي وضع بذرتها بدر شاكر السياب وأدونيس، وهذا الطموح هو ما قادني إلي كتابة الرواية، لأنها تسمح بعرض الأسئلة وتعدد زوايا الرؤية وهذا الأسلوب الذي أري أنه مناسب لعصر طرح الأسئلة الكبري"
هل لم يحقق الشعر لك ذلك، وكيف كان انتقالك إلي الرواية؟
بدأت تدريباتي الشعرية مبكرا جدا. كنت شاعر مناسبات حتي نهاية المرحلة الثانوية، ألقي قصائدي الوطنية في طابور المدرسة، وفي الجامعة صرت شاعرا عاطفيا. وبعد النكسة التي وافقت ثالث سنواتي في الجامعة بدأت مسيرة شعرية مختلفة، ونشرت قليلا من أشعاري في مجلات "المجلة" و"الآداب"« و"الفكر المعاصر" و"الثقافة الجديدة". وفي فترة الخدمة العسكرية بين عامي1969 و1974 أحسست أن الميراث الغنائي للقصيدة العربية يعوقها عن التعبير عن دراما حياتنا، فبدأت تحويل تركيزي تدريجيا إلي الرواية. تدريباتي القصصية والروائية بدأت مبكرا أيضا، ومازلت أحتفظ بتجاربي الساذجة في المرحلة الإعدادية.
* كيف تري الشعر الآن؟
لدينا شعراء عظام، لكن لا توجد أي فاعليه للشعر في حياتنا. صحيح أن هناك استثناءات قليلة، مثل الشاعرين الكبيرين عبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب، لكن فاعليتهما راجعة أكثر لارتباطهما بالغناء، دون أن يقلل ذلك من عبقريتهما وتفردهما. أين عفيفي مطر ومحمد سليمان وعماد أبو صالح وكثيرون غيرهم في المشهد الثقافي الراهن؟!.. أظن أن أمة لا تعرف شعراءها تثير علامات استفهام كثيرة، هي علي الأرجح أمة عليلة روحيا وعاطفيا ومعرفيا.
* وهل ستنشر أعمالك الشعرية؟
اتمني أن يحدث ذلك قريبا.
* منذ أيام اعدمت الهيئة العامة للكتاب، مشروع مكتبة الأسرة، طبعتها لروايتك "الأفندي" بسبب مشكلات في طباعة دار الهلال، هل تفكر في تغيير الناشر؟
هذا عمل يستحق الإشادة، فالأخطاء المطبعية تضع الكاتب في حرج كبير، وأطالب الناشرين بإن يوكلوا المراجعة النهائية والأخيرة إلي كاتب النص.
* ماذا عن أعمالك القادمة، وماذا تكتب حاليا؟
أتأهب لنشر رواية بعنوان "ليلة سفر"، وأكتب عملا جديدا بعنوان "الفتاة العاملة".
قصائد
محمد ناجي
كتاب الخريف
(1)
الحيض فى الغمامة الصبية
يرعدُ:
ـ "يا باكورة السماء
تنزَّلى..."
والنسمُ الشرقبة
دفٌ وأعراسٌ على مداخل المساء.
(ليلتها ونزل البلاد
فى شعره الكرم وفى يمينه الأقلام
علّق فوق سرّتى قنديله وقام
يقرأ طول الليل فى كتاب الصبح والغرام
يقول: "كونى نهرا وشجرا كثيرا
يسكنه الطير وتأوى عند ظلّه الأغنام".
قال، وأغمضت عيونها الحراس
وابتدأ الزمان.
فى الصيف كان قمرى تماما
يكتب فى اللوح ويقرأ الأحلام
ـ ابن من الغلام
ابن من الغلام؟)
(2)
طلع المغنى السلّم الحرير
نزل المغنى السلم السلطانى
مرَّ على بوابة البستان
غناؤه؛
هجَّت طيور السعد والتمنى
مرّ على الأسواق؛ قالت اليتامى:
ـ نسيتنا؟!
وشقّت الغمامة
قميصها
وأمه تصيح فى الأسواق: "يا غلامى
ذبحت طيرى وكسرت دورقى
يا ابن الليالى السود ما غرّك بالعثمانى؟!".
***
طلع المغنى السلم السلطانى
نزل المغنى؛
نزل الخريف
ديارنا
مدَّ علينا سيفه ارتعشنا
كرّت علينا ريحه
طيّرك الخوف على سريرى.
سمعت فى سرّى غناءك الحرام
يدور ما خلف الشبابيك
يمد عينيه من الطيقان
فى الحلم أعطيتك خاتمى وقلبى
قلتُ: "اطلبى"
تمنيتِ على الله هوى وطفلا
أقول: "ياأختى هو الليل على أبوابنا فنامى
جفّت فوانيس الهوى فنامى
يروح عام ويؤوب عام
وأنت صمت فى سريرى،
وأنا..."
فى آخر الليل أضم جفنيك على عيونى
تسكن أغنامى إلى أغنامك العجاف.
( 1968)
مرثية
يرقد الأمراء على فوهات البنادق خلف حدود السماوات
ذا شفق تتخبط فى دمه القبّرات
وذى طلقة تتقلب فى باطن القلبِ
سبع ليال وتنقر أجفانه الطير
تأتى ذئاب الرياح
تعضّ الأصابع
تلعق أشداقه
ثم تنفخ أحشاءه بالظلام.
ليال..
وتأتى الغمائم بيضاء بيضاء
والأمراء يسوقون قطعانها
وكلاب القبيلة عمياء
تنبح خلف الحداء وتركض.
ثم
يكون
ظلام
على
الأرض
ليس سوى فوهات البنادق تلمع خلف حدود السماوات
ليس سوى طلقة تتقلب فى باطن القلب،
بعض غبار.
(مقطع من قصيدة بعنوان "المراثي" 1979 )
فخاخ
الراسيات السفن يرشحن ملالة علي شواطئ القلب ويشّاكين؛ لم يمسكن عن قلبي، ولكن السماوات أسنَّ والأرضين.
الراسيات السفن كن في باكورالعهد بوارج الحسن، لهن في حدائق البحر المواعيد، وهنَّ هنَّ حين أفل العهد بغايا البحر، يستخفين بين المد والجزر، وينصبن فخاخ الظن للمسافرين.
الراسيات السفن؛
هاهنا كانت عصا القائد والشارة، وهنا خرائط البحر. هنا جلست تقرأ الريح، وفوقه أغفيت، لم يطمس حروفَك الماءُ، ولم يفتك في نومك ما يفوت القوم في الصحو، فهل تري تذكر، هل تذكر؟
هناك أحببتك..
كنت طفلة، وكان كرسيك فوق حافة الموج، رأيتُ المدن تطوي، وحلمتُ عند ركبتيك بالمدن التي تنهض في الأفق. تراها تنهض الآن؟..
وهل ترانا نستطيع مرة أخري؟
(مقطع من قصيدة بعنوان "مزامير بحرية" 1982 )
دوار
بنا خبل من بنات الملوك
يراودننا
ثم ينكصن في لجة البحر
يمضين في خافيات القرار
نصبنا لهن فخاخ الهوي
ولبثنا علي زبد الشوق حتي فوات النهار
هو الليل غلّقت الريح أبوابها
واستدارت علي ساكنيها البحار
وليس سوي فرجة تتقلّب في باطن اليم
تلتمُّ قبل تنمُّ
وتسلم أعيننا للدوار
(مقطع من قصيدة بعنوان "مرايا الخبل" 2007)
الرقصة الغجرية
راحلون،
مطاياهم الريح
أحداقهم شفـقٌ
وغبار قوافلهم سحبٌ
يضرب البرقُ أعطافَها فيسيل الغناء.
راحلون إلي بلد ليس تدركه الآه؛
أواه يا بلد الوعد أواه
ليس إلا سرابا يداعب أشواقهم
يتخطّف أبصارهم في عراء الفضاء.
راحلون؛
أنا خلف أشواقهـم راحـلٌ
أتسمّع بوح الخلاخيل في الرقصة الغجرية
أسكن آهاتهم
ثم أصعدها سلما للسماء.
"أعطيت قنديلى.. ومت"
ــــــــــ
-------------------------------------
حوار 2
الروائى: محمد ناجى
ــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة" يونيو 2009
كنت طالبا فى جامعة القاهرة عندما وقعت حرب 1967، وكانت فترة امتحانات. ايقظتنى أصوات مدفعية مضادة للطائرات فعرفت أنها الحرب، كان الأمر متوقعا.
كنا تلقينا قبل الامتحانات فترة "تربية عسكرية" مكثفة؛ "صفا.. وانتباه" و"سريعا مارش"، مع تدريب نظرى على إطلاق النار من بنادق نصف آلية.
توقفت الامتحانات طبعا، وسافرت ـ حسب تعليمات التربية العسكرية ـ إلى الزقازيق؛ لتسليم نفسى إلى أقرب "مركز تعبئة" لمحل إقامة الأسرة. وجدت مركز التعبئة مغلقا، فواصلت طريقى إلى "أبو حماد" حيث أقيم.
كانت المشاهد التى نراها مقلقة، جنود عائدون من خطوط القتال، وأسر مهاجرة من مدن القناة بما خف من الملابس والمتاع. خرجت مع الناس ننتظر العائدين والمهاجرين فى القطارات المكدسة. تولى الجميع تضميد جراح الجنود وإطعامهم واعطاءهم الملابس، وصحبوا المهاجرين إلى بيوتهم.
مشهد نادر للتلاحم عشته فى "أبو حماد"، أقرب مدن الشرقية إلى القناة، والتى عاشت ضجيج الحروب وبروقها والآمها دون أن تكتوى بنيران معاركها، لكنها جسّدت على الدوام أريحية الشراقوة وكرمهم ووطنيتهم. مشهد رائع لكنه حزين ومثقل بالدموع المكتومة، فالأخبار التى نسمعها من الإذاعة المحلية تتناقض مع تلك التى نسمعها من العائدين، ومن الإذاعات الأجنبية. ساعة بعد ساعة بدأنا ندرك أنها الهزيمة، لكن الكلمة كانت صعبة، لم نجسر على نطقها إلا نادرا.
فى تلك الفترة كان شقيقى الأكبر مصطفى ناجى ـ الوفدى الهوى ـ معتقلا، وكانت أمى تسمع الأخبار وتعاتب عبد الناصر بقسوة: "هو كان فاكر نفسه هيقدر يحارب لوحده؟!.. مش كان لازم ابنى والشبان اللى زيّه يكونوا جنبه الأيام دى؟". وحين نطق عبد النصر كلمة "النكسة" فى خطاب التنحى المشهور، انفجرت باكية: " ياحسرة قلب أمك عليك يا بنى، هوّا أنت انهزمت بجد؟!".
بكيت، وتغير طعم الدنيا فى فمى، لكن حين انفجرت المظاهرات المطالبة بعودة عبد الناصر عن قرار التنحى لم أشارك فيها.
أيامها كنت شاعرا، وماركسى الهوى. كتبت قصيدة اسمها "الرؤيا" يوم 9 يونيو 1967، استوحيتها من عيون فتاة مهاجرة اسمها "عطيات"، أجمل عيون رأيتها فى حياتى وأعمقها شرودا وحزنا. كانت القصيدة تتحدث عن الحزن الجاثم فى نظرات الجميع، وتبشّر بعرس فى نهاية الطريق، وتقول إن على من أصيب فى المعركة، أن يسلم الراية والقنديل للأقدر على مواصلة المسيرة.
الرؤيا
(يونيو 1967)
(1)
من أى أرض تخرج الصبايا
متشحات أسودا
وشابكات فى الصدور وردا
وناظرات فى عيونى أمدا
أفزعننى ثم انصرفن عنى
مصعِّدات نغما مبللا:
ـ "ومدَّ لى تحت عروشِ التوت كفيه
وسنّدنى
وبات يا أمى
يعصر طول الليل من أثماره خمرا ويسقينى
وكان ياروحى
يضحك لمَّا يذكر الحربا
وراح يا عينى
لا توقدى الأنوار يا أمى فتبكينى"
(2)
لو أننا انتظرنا مقدما سعيد
يأتى من الشرق فقد نموت ها هنا
وقد يكون كفنا
كل الذى ننسجه لقادم قد لا يجئ أبد
(3)
حدَّثنى كأنه يعرفنى
ناولنى قنديله فانفتح الباب أمامنا
حزَّمنى بكفنى
وقال: "عرس ليلى فى نهاية الممر
ارقص لها واذكرنى بخير"
عانقنى
قبَّلته، قبّلنى
رفعت قنديلى أراه:
ـ "أأنت.
أنت الذى تندبه الصبايا!"
أسكتنى
مضيت
صرعت بعد خطوتين
نهضت
أعطيت قنديلى
ومت
**
لقد أنهت هذه القصيدة مرحلة طويلة من الشعر العاطفى، المحمَّل بتأملات وجودية ذهنية وتجارب خيالية. تناثر ريش الأجنحة، وحطّ طائر الخيال المترفع على الأرض، يسمع ويرى ويلمس اللحم الحى، وامتزجت عواطف وتأملات وتوهمات الفنان المفرد بهموم الناس. باختصار؛ حلت روح الجماعة فى الفرد، وحلَّ الفرد فى الجماعة التى رآها تطعم وتسقى وتعصب الجراح يوم الحزن الأعظم.
أعترف أن هذه التجربة قادتنى إلى الاهتمام بتفاصيل الحياة، ومد الجسور بين الفكر والواقع، ونبهتنى إلى الاهتمام بفنون الناس وطرائقهم فى التعبير عن أنفسهم. وتعمق ذلك فى تجربة الخدمة العسكرية التى عشت فيها حرب الاستنزاف وحرب اكتوبر، والتى مكنتنى من الإصغاء لتلاوين كثيرة من الفلكلور سمعتها من أفواه الجنود، من مختلف المستويات والمزاجات والمناطق.
لا تقتصر أهمية التجربة على استخلاصاتها الفكرية، فالأهم ـ بالنسبة لكاتب ـ هو ما أفرزته هذه الإستخلاصات من انحيازات جمالية، وأظن أن تحولى إلى الرواية كان نقطة فى هذا السياق.
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------
حوار 3
بعد أن حصل على جائزة أدب العشق
محمد ناجى: الكتابة عن الجسد لا تقتصر على الغرائز فقط
تحمل روايات الروائى محمد ناجى سمات مشتركة تميزه عن غيره من الأدباء، منها اللغة الأقرب للشاعرية، وصناعة الأساطير الخاصة به، وفى نفس الوقت لا يقلل ذلك من الدلالة الواقعية لأعماله، وهو ما أكد عليه الأديب الكبير ادوار الخراط يذهب فى كتابه "أصوات الحداثة" من أن ما يكتبه ناجى هو "الواقعية الحقة التي تضم تحت جناحيها الحلم والفانتازيا والأسطورة وشطح الخيال ومراودات وذبذبات دخيلة النفوس وصبوات الأرواح".
التقينا محمد ناجى الذى حصل مؤخرا على الجائزة الأولى فى "أدب العشق" التى تقدمها وكالة سفنكس للنشر والترجمة عن نص من روايته "الأفندى صدرت طبعتها االأولى عن دار الهلال، وصدر لها منذ أيام طبعة جديدة عن مكتبة الأسرة.
* ما السر وراء مشاركتك فى مسابقة "أدب العشق رغم عزوفك عن المسابقات بشكل عام؟
ـ لم اتقدم لأى مسابقة فى وكالة سفنكس ولا فى أى جهة أخرى، وكل ماحدث ان الاستاذ خالد عباس مدير الوكالة طلب منى نصا للنشر فى كتاب يعتزم اصداره عن العشق فى الأدب العربى المعاصر، فأعطيته جزءا من روايتى "الأفندى" الصادرة عن دار الهلال، ثم أخبرنى فيما بعد أنه سيتم ترجمة الكتاب المزمع اصداره الى اللغة السلوفاكية، وأخذ موافقتى على ذلك، واكتشفت من مقدمة الكتاب عند صدوره أنه رتب الأمر على شكل مسابقة وهيئة تحكيم.
* لماذا وقع اختيارك على نص "حمروش الدكر" للمشاركة به فى الكتاب؟
ـ "حمروش" اسم شائع فيه رجولة وفتوة، وهو مأخوذ من طائر معروف باسم "الحمروش" أو "الحميراء" وتتميز ذكور هذا الطائر بأنها أجمل من اناثه، ألوانه زاهية، وريشه برتقالي غامق فى منطقة الصدر، وأسود زاهى فى الوجه.
حمروش الدكر فى النص "رجل بغى" مفتون بنفسه، يبيع جسده للنساء، وكانت كل امرأة تعرفه لساعات قليلة، وتسأله كل واحدة: "لو رأيتنى مرة أخرى هل تعرفنى من بين النسوان؟". تكرر السؤال من كل امرأة عرفها، وهو كان يتعجب من تكرار السؤال لكنه لم يفهم مغزاه. وفى النهاية أخبرته آخر امرأة عرفها أنها جنية تجسدت له بوجوه وأسماء مختلفة ليلة بعد ليلة، وأنه رسب فى امتحان المعرفة، ولم يدرك "وحدة وجودها" فى تعدد الأشكال والأسماء، ولذلك عاقبته بالحرمان من التمتع بحضورها.
بعد هذه المحنه عاند حمروش قدره، وهام على وجهه فى الشوارع مخبولا يبحث عن الجنيّة فى وجوه النساء اللاتى يصادفهن، ويعجز فى النهاية عن ادراك غرضه ثم يهتف: "البحر واحد والسمك ألوان".
* رغم اهتمامك بقضايا الجسد تتجنب الحديث عن تفاصيل الجسد على عكس أغلب الروايات الجديدة التى تخلق منه مادة للكتابة.
ـ الكتابة عن الجسد لا تعنى الغرائز والجنس فقط، فالبطن جزء من الجسد، والدماغ جزء أيضا. وأنا أتناول الجسد بهذا المفهوم المتكامل، فالانسان يبحث ـ وفى نفس اللحظة ـ عن اللذة وعن الفهم وعن البقاء، ثلاثة مطالب يتضافر فيها الحسى مع الفكرى مع الروحى.
لم أجد حتى الأن ما يقنعنى أو يغرينى بأن أختزل الجسد فى مناطق الشهوة فقط، وهناك العيد من كتبوا انطلاقا من هذا المفهوم، ومنهم اليابانى جنزبورو أوى، فرغم استخدامه ألفاظ عارية مباشرة ومشاهد مكشوفة فى رواياته فجميع رواياته تحلق فى فضاءات سامية، وتعكس فزع الروح الإنسانية من الدمار الهائل الذى صبته القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكى. الجنس فى روايات (أوى) ليس متملقا لغرائز القارئ لكنه مستفز لروحه ضد العنف الذى يستهين بالحياة ويحقّر الإنسان، إنه يتمسك بتلك الأجزاء من جسده كصرخة احتجاج ضد أدوات وآلات الدمار التى تهدد الجنس البشرى بالإبادة، صحيح أن هذه الصرخة لا تخلو من بذاءة فى اللفظ لكنها سامية القصد.
ـ ما رأيك في الكتابات العربية التى اعتمدت نفس التقنية؟
* أقرأ كتابات كثيرة تفرط فى تناول الجنس بهدف كسر "التابوه"، أو ملامسة قضايا إجتماعية لكن سلامة القصد وحدها لا تحقق فنا، وهناك شعرة دقيقة بين كتابة "بورنو" التسلية والإثارة وكتابة الأدب. وأؤكد على تفهمى دوافع تلك الكتابت فهى ـ فى أسوأ النماذج من ناحية القيمة الأدبية ـ تسجل صرخة احتجاج، وتمثل نوعا من "التعرى الاحتجاجى" أمام الثقافة السائدة، ولهذا فإن لها قيمة تسجيلية على الأقل.
وأحب أيضا أن أذكر بأن أدبنا الشعبى يحتفى كثيرا بالجنس، وانتج نصوصا بالغة الجمال والرقة عن موضوعات بالغة الحرج، من هذه النصوص الأغنية المشهورة (العتبة أزاز.. والسلم نايلو فى نايلو) وهى فى الاساس نص شعبى سمعته فى أعراس الفلاحين قبل أن يصبح أغنية إذاعية معتمدة. الأغنية تتحدث ببساطة عن ليله الدخلة إذ تكون سيقان العروس هى سلالم النايلون الحريرى التى يصعدها العريس، أما العتبة الزجاجية التى يمكن أن تتكسر تحت خطواته فهى بكارتها.
ـ ما سر اهتمامك بصناعة أساطيرك الخاصة والحواديت الشعبية فى رواياتك؟
* الأساطير فى الأصل حكايات مقدسة ذات مضامين عميقة ومعانٍ ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان. وقد انتجت أديان العصور القديمة أساطيرها التى تتشابك مع معتقداتها ونظمها وطقوسها، وآمن أتباعُ كل دين بصدق الأحداث التي تقصها أساطيرهم وما تحاول تقديمه لهم من معرفة، وعندما انهارت تلك النظم الدينية بقيت أدبياتها، وتحولت أساطيرها إلى حكايات خيالية ذات دلالات دنيوية معيشية. أساطيرى حلقة فى تلك التبدلات، هى "حواديت" اللحظة الراهنة.
الخيال عملية انسانية تستند الى قاعدة مشاعر ، وهو أيضا عملية عقلية تنطوى على وعى ما بالواقع، وأقصد هنا الخيال المبدع وليس الخيال الناتج عن خلل عقلى "الهلوسة".
* سمة أخرى تبرز فى أعمالك وهى السخرية، ماذا تمثل لديك؟
ـ أظن أن السخرية عندى لا تكون على حساب انسانية الشخصية أو الوعى بدوافعها، إنها فى أغلب الاحيان سخرية من السياق العام، هى تعرية للظروف التى تضع الإنسان فى أوضاع شائهة تشوه الوعى والسلوك، وسخرية من الاستلاب السياسى والإجتماعى والوجودى. سخرية من أجل الإنسان وليست ضده.
*ما الهدف من اختيارك لأسماء غريبة لشخصيات رواياتك؟
ـ مثل هذه التسميات قد تفرضها طبيعة الشخصيات فى النص، وربما تفرضها أيضا روح المرحلة التى عاشوها.
* ما سبب اهتمامك برصد الأصوات فى أعمالك بقوة لدرجة تجعلها تكاد تكون مسموعة؟
ـ ربما كان ذلك الاهتمام بالصوت معادلا لإصغاءنا المشوش لنبض العالم، فنبض الكون والتاريخ ممثلا فى المحارة التى تضعها "أم لسان" على أذنها، أو نبض الواقع ممثلا فى الراديو الذى ينام "سى كلام" على صوت وشيشه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق