دردمات .. مرثية عراقية
بقلم حسين قطايا
دردمات» باللهجة العراقية المحلية تعني همسات أو وشوشات، أرادها المخرج سعد سلمان عنواناً لفيلمه الجديد، الذي عرض خارج مهرجان السينما العربية في باريس لأمر مجهول يتعلق بسياسة إدارة المهرجان، الذي لا يتسع لعمل ذي قيمة نوعية، كفيلم سلمان، الذي يجمع في «دردماته» عناصر كثيرة متضادة ومتحاورة ومتجاورة ومتناقضة في آن.
ولا يوارب بطرحها بصدق هو من شروط أي فن يسعى للتعبير عن الحياة بشفافية حقيقية. يحكي الفيلم قصة من ثلاثة أبعاد، عن ثلاث شخصيات منشطرة على ذاتها، وتؤلف حالها وسط أحوال عامة، منشطرة أيضاً ومتشظية تارة بالأفعال وتارة أخرى بأسئلة يطرحها المخرج ببساطة: أين مدرستي؟ ماذا حل ببيتي؟ أين أنا؟ من أنا... الخ.
أسئلة عدة يطرحها غائب عن بلده لأكثر من ربع قرن. وهي أسئلة لا تنتظر إجابة، أي ان السؤال عبارة عن صرخة ولا تقصد ان تدوي، ولا ان تفعل العكس، فقط التعبير هنا ينشد الى هذا المستوى من عدمية الكلام ويحوله الى شبح يبحث عن ظله في عتمة السجون حيث الجلاد لا يمثل أداة بقدر ما يمثل طموحا ويسعى لان يكون حاكما ظالما، اذ ان العدالة لا يطبقها الا السجين الذي يمثله هنا الأستاذ زهير المعتقل منذ سنوات طويلة ويقع في النهاية في ورطة البقاء مع سجان واحد بعد «سقوط النظام» يسعى لان يستثمر المعتقل في ان يبادله بمصالحه او في ان يمارس عليه لعبة الجلاد المباشر للمرة الأخيرة.
قصة «دردمات» ليست قصة تقليدية او عادية ولا تهدف الى الافصاح بقدر ما تسعى الى التعبير بأسلوب تقني وفني لهما خصوصيتهما ويحققان حالات متوائمة بين الشكل والمعنى افتقدت لها الكثير من اعمال السينما العربية التي تتسم معظمها بعدم استقلالها الفني في استنباط اشكالها بهذا المعنى عمل سعد سلمان من دون مرجعية، وحقق فيلما مستقلا بمستوياته كافة يؤسس مع افلام عربية أخرى لسينما عربية خاصة ومستقلة، وتحمل هويتها وطابعها بالمنحى الثقافي وليس بالمنحى السياسي، ولذلك نجح «دردمات» في أن يكون على لائحة ذاكرة السينما العربية كعلامة فارقة في خصوصيتها وفي إنسانيتها بشكل شامل.
ويستخدم المخرج سعد سليمان اتجاهات مختلفة في تصنيع فيلمه. ولا يتورع أن يدمج بين مستويات تقنية مسرحية وسينمائية، ولا في سينوغرافيا مسرحية كاملة تتألف من فصلين، الأول: تحت الأرض في الأقبية، والثاني: فوق الأرض وفي الخراب.
من دون أن يوقع قسماً على آخر، هذا ينتصب وحده وعلى علاقة بالآخر، والعكس صحيح أيضاً، تضيق وتتسع، وتتوالى من دون تكرار، وبلا مجانيات عاطفية تعود عليها الكثير من مخرجي السينما العربية. والملفت في عمل المخرج سعد سلمان قدرته على تقديم كوادره ضمن سياق العمل العام وكلوحة تحمل اكتمالها كمشروع بصري متفرد. وهذا يحيل مشاهد «دردمات» إلى صيغة «تشكيلية» متوازنة الألوان، ومضيفة للإضاءة وظيفة اختراع اللون من جديد، وتأليفه للسرد من دون الوقوع في فخ المواقف السياسية وهذا لا يعني أن الفيلم حيادي، ولكنه أيضاً ليس فيلماً عقائدياً، أو أنه لم يتورط بموقف أحادي لو حصل لحرم الكادر من تنوعه وغناه الفريدين.
وقال الناقد السينمائي كمال رمزي عن الفيلم بعد عرضه أمس بأنه مرثية حقيقية من المخرج سعد سليمان لوطنه العراق، ويمكن الإضافة عليه بأنه يرثي الوطن الضائع بين جلادين، والذات التائهة بين عالمين، أحدهما هو السجن والمعتقل، والآخر هو الهجرة من زخم المكان إلى جحيم الضفة الأخرى. «دردمات» صورة عربية تعاقد فيها المغني مع الأسلوب، والتضاد مع الذي يمكن أن يحدث ومع ما حدث بالفعل
عن جريدة البيان. دبي
انظر الموقع الرسمي لسينما ايزيس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق