الناقد السينمائي الكبير سمير فريد
سمير فريد يكتب
"عمارة يعقوبيان"
الرواية والفيلم والحدث
رواية الغضب على الماضي والحاضر
وفيلم بداية سينما الإصلاح
الذي تقوده لجنة السياسات
من عمارة حكام مصر في الثلاثينيات
إلى أثرياء مصر داخل الشقق وفقراء
فوق السطح في التسعينيات
الرواية تسخط على الواقع
ونقاد الأدب يسخطون عليها
من أقصى اليسار وأقصى اليمين
الفيلم نقطة تحول في تاريخ
السينما المصرية يعري كل
أنواع الشذوذ الجنسي وغير الجنسي
مخرج كبير في أول أفلامه ولكنه
لم يخرج من عباءة سينما
وحيد حامد وشريف عرفة وعادل إمام
إذا كان عادل إمام قد وصل إلى
كل هذا النضج في التمثيل
لماذا يبدد طاقته في منافسة بوحه
عمارة يعقوبيان
رواية الغضب وسينما الإصلاح
سمير فريد
كتب علاء الأسواني رواية "عمارة يعقوبيان" التي صدرت عن دار ميريت عام 2002, ليعبر عن نفسه, وعن رفضه للواقع الذي يعيشه, والذي هو مثل كل واقع نتيجة لتاريخ سبقه, ومن أجل تغيير هذا الواقع. وقد جاءت الرواية شديدة الحدة, تماماً مثل مقالاته السياسية التي ينشرها بين الحين والآخر.
هذه هي الرواية الأولى لطبيب أسنان يهوى الأدب أصدر قبلها مجموعتين من القصص القصيرة, وهو من جيل عصر حسني مبارك حيث كان طفلاً عندما تولى الرئيس مبارك الحكم. والرواية صادرة عن دار نشر صغيرة أنشأها الأديب محمد هاشم لينشر كتبه, والكتب التي لا يمكن أن تصدر عن دور النشر الكبيرة.
وتنتمي هذه الرواية إلى ما يمكن أن نطلق عليه الأدب الصحفي, أي المكتوب بلغة الصحافة التي تتوخى البساطة لتصل إلى أكبر عدد من القراء من المستويات الثقافية المختلفة, والبساطة لا تعني التبسيط بالطبع. وكون علاء الأسواني هاوياً للأدب, وكون روايته من الأدب الصحفي وصفان لا يتعلقان بالقيمة التي تستمد من داخل العمل.
"عمارة يعقوبيان" صرخة جيل وجد القرن العشرين الميلادي ينتهي, ولا تزال أصداء وعود الأجيال التي تحكم بلاده التي سمعها في طفولته تتردد: انتظروا عام 2000, والواقع يزداد سوءاً, والفساد يستشري, والجمود يسيطر على الحياة السياسية. وكانت نهاية القرن مدعاة لتأمل ما حدث فيه منذ بدايته, وفي الوسط منه ثورة يوليو 1952, وفي القلب منها هزيمة يونيو 1967.
حققت الرواية رواجاً كبيراً لم يعرفه عالم الأدب منذ روايات إحسان عبد القدوس (1991-1990) في ذروة تألقه, وترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية, وفاز ناشرها بجائزة أمريكية مخصصة لدور النشر الصغيرة. لقد أصبحت في تاريخ الرواية المصرية مثل مسرحية جون أوزبورن "أنظر إلى الماضي في غضب" عام 1956والتي عبرت عن نهاية الإمبراطورية البريطانية بعد حرب السويس.
أثرياء وفقراء
تتكون الرواية من فصلين كبيرين كل منهما أكثر من مائة وخمسين صفحة حيث يقدم المؤلف في الفصل الأول الشخصيات التي تجمعها "عمارة يعقوبيان" في القاهرة في نهاية النصف الأول من تسعينيات القرن الميلادي الماضي. وربما يرتبط شكل الفصلين برؤية الكاتب للواقع المصري زمن الرواية حيث توارت الطبقة الوسطى, ولم يعد هناك سوى أثرياء في شقق العمارة, وفقراء على سطحها يسكنون الغرف التي كانت مخصصة للكلاب المتوحشة أو غسيل الملابس عند بناءها عام 1934. والسرد من وجهة نظر الراوي-المؤلف, ولذلك لا تلتقي كل الشخصيات مع كل الشخصيات رغم أنهم في عمارة واحدة. والعمارة حقيقية يسرد المؤلف تاريخها منذ بناءها حتى زمن الرواية, ويستخدمها للتعبير عن رؤيته لحركة المجتمع المصري في أكثر من نصف قرن.
تأخذ الرواية شكل "الأوتشرك" الذي ابتدعه الكاتب الروسي مكسيم جوركي (1868-1936) في مسرحية "الحضيض", ولذلك فالأوتشرك كلمة روسية, وتعني أن تكون الوحدة الدرامية هي المكان, وأن تتصاعد الأحداث أفقياً بين عدد كبير من الشخصيات على نحو متواز, وليس تصاعداً رأسياً بين عدد محدود من الشخصيات كما هو معتاد. وقد تأثر نعمان عاشور (1918-1987) بهذا الشكل في مسرحية "الناس اللي تحت", ومن هنا تصور البعض أن علاء الأسواني في روايته تأثر بهذه المسرحية (الأهرام 24 أبريل 2006).
نحن في القاهرة بعد حرب تحرير الكويت من احتلال نظام صدام حسين في العراق, وسقوط النظام العالمي الذي استقر بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945), وبداية نظام عالمي جديد. وبعد أن عاد "الأفغان العرب" أي الذين حاربوا ضد النظام الشيوعي السوفيتي في أفغانستان, ومنهم "الأفغان المصريون", وبدأت أولى العمليات الإرهابية للجماعات الإسلامية في مصر. ونحن داخل "عمارة يعقوبيان" الفاخرة في وسط القاهرة الأوروبية التي أسسها الخديوي إسماعيل في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي, ولذلك كان يسكنها الباشوات وغيرهم من حكام مصر قبل ثورة يوليو, وحل محل العديد منهم ضباط الجيش بعد الثورة.
داخل العمارة
يركز المؤلف على ثلاثة من سكان الشقق وثلاثة من سكان السطح. أما ساكنو الشقق فهم زكي (65 سنة) الأعزب ابن الباشا الوفدي الذي يعيش من ريع ما تبقى من أرض والده, ويستخدم الشقة رسمياً كمكتب, وفعلياً لممارسة الجنس مع النساء من الخادمات إلى العاهرات. والحاج عزام (60 سنة) الذي يستخدم الشقة لممارسة الجنس مع زوجته الثانية سعاد التي ذهب زوجها إلى العراق ولم يعد. وحاتم (40 سنة) سليل الأرستقراطية المصرية, ورئيس تحرير صحيفة تصدر بالفرنسية, والمثلي جنسياً الذي يعيش وحيداً في شقته.
وأما ساكنو السطح فهم طه (18 سنة) ابن البواب الذي حصل على الثانوية العامة, وفشل في تحقيق حلمه بدخول كلية الشرطة لأنه ابن بواب وليس لديه 20 ألف جنية يدفعها كرشوة, وأرسل شكوى إلى رئاسة الجمهورية, وجاءه الرد سلبياً, فالتحق بكلية السياسة والاقتصاد بجامعة القاهرة, وانضم إلى إحدى الجماعات الإسلامية. وبثينة (18 سنة) حبيبته التي عملت في محلات بيع الأزياء في وسط القاهرة بعد وفاة والدها, واستسلمت لتحرشات أصحاب المحلات الجنسية. وعبد ربه (25 سنة) المجند الذي يرتبط بعلاقة جنسية مع حاتم, والذي يؤجر له حاتم غرفة فوق السطح يعيش فيها مع زوجته وابنهما الرضيع, وفي نفس الوقت يؤجر له كشكاً لبيع السجائر والمشروبات ليعيش منه بعد التجنيد.
وبمساعدة أبسخرون (خادم زكي) يتمكن أخوه ملاك ترزي القمصان من تحويل إحدى غرف السطح إلى مصنع صغير للقمصان عن طريق رشوة وكيل العمارة المحامي المخضرم فكري عبد الشهيد, وهو محامي زكي في نفس الوقت. وفي العودة الوحيدة إلى الماضي يتذكر حاتم كيف مارس خادم الأسرة إدريس الجنس معه في صباه, مما تسبب في مثليته, وهو تفسير ساذج ولم تكن له ضرورة.
خارج العمارة
وبالقرب من العمارة في ممر بهلر يقيم زكي مع شقيقته دولت الأرملة التي لا تطيق تصرفاته. وبعيداً عن العمارة يلتقي الحاج عزام مع الوزير كمال الفولي ليساعده في انتخابات مجلس الشعب, ويعده الوزير بالنجاح مقابل رشوة مليون جنية. وبالفعل يصبح عزام نائباً في البرلمان, وهو الذي بدأ حياته منظفاً للأحذية في وسط القاهرة, أو وسط البلد كما اعتاد أن يسميها القاهريون, قبل أن يمتلك العديد من محلاتها, ويصبح من كبار الأثرياء الجدد.
وفي الفصل الثاني من الرواية تقوم دولت بطرد زكي من الشقة, وتجعله يقيم في مكتبه بعمارة يعقوبيان, وتعلن عليه حرباً لا هوادة فيها. ويجد زكي بعض السلوى عند كريستين صاحبة مطعم مكسيم وحبيبته القديمة أيام الشباب, ولكنه يجد كل السلوى مع بثينة عندما يأتي بها أبسخرون لتعمل كسكرتيرة للمكتب, وتصبح عشيقة زكي بعد أن قطعت علاقتها مع طه. أما سعاد فتحمل من الحاج عزام رغم أنه اشترط عليها قبل الزواج ألا تحمل, وعندما ترفض الإجهاض, ولا تقبل وساطة "الشيخ" الذي يستخدمه الحاج عزام لتبرير كل أفعاله لتتفق مع الشريعة الإسلامية حتى تجارة المخدرات, يعمل الحاج عزام على إجهاضها بالقوة, ويطلقها.
يدخل الحاج عزام صفقة كبرى مع إحدى الشركات اليابانية, ويطلب الوزير كمال الفولي ربع الأرباح قائلاً أنه لا يعمل وحده, وإنما مع سلسلة طويلة تنتهي بالرجل الكبير. وهنا يطلب الحاج عزام مقابلة ذلك الرجل الكبير لإقناعه بخفض النسبة, وبالفعل يذهب إلى مقابلته في قصره بالمريوطية بجوار الأهرامات, وهناك لا يراه, وإنما يسمع صوته فقط يهدده إذا لم يرضخ, فلا يملك إلا الرضوخ.
يموت الطفل ابن عبد ربه فيصدم, ويشعر أن هذا عقاب إلهي على ممارسته اللواط, ويبتعد عن حاتم, ولكن هذا يطارده بإلحاح, فيمارس عبد ربه الجنس معه لآخر مرة بوحشية ويقتله. أما طه فيتعرض للاعتقال السياسي بعد أن يقود إحدى مظاهرات الجماعات الإسلامية ضد أمريكا وإسرائيل في الجامعة, وفي المعتقل يتم اغتصابه, فيترك الجامعة, ويلتحق بأحد المعسكرات السرية للجماعات حيث يتزوج رضوى أرملة أحد شهداء الجماعة, ويتدرب على السلاح ليقتل الضابط الذي أمر باغتصابه. وينفذ طه حلمه بالانتقام, ولكنه يلقى مصرعه في المعركة مع رجال الشرطة. وبالتدريج تصبح العلاقة بين زكي وبثينة أقرب إلى الحب الحقيقي, ويبدو ذلك عندما ترفض عرض ملاك لكي تخدع زكي وتدفعه لتوقيع عقد بيع شقته له مقابل خمسة آلاف جنية يدفعها لها. وإزاء تدبير دولت للقبض على زكي متلبساً مع بثينة في الفراش, يقرر زكي الزواج منها.
انهيار شامل
وقد تبدو هذه نهاية سعيدة بالمصالحة بين الأجيال والطبقات, ولكنها على العكس تماماً تعبر عن انهيار كل الأجيال وكل الطبقات. زواج زكي وبثينة مثل زواج الحاج عزام وسعاد وزواج طه ورضوى كلها زيجات غير حقيقية وإن كانت شرعية على الورق. ولا فرق بين العلاقات الزوجية في هذه الأحوال والعلاقة المثلية بين حاتم وعبد ربه, فكلها علاقات جنسية بحتة في عالم يختفي فيه الحب, ويسيطر على شخصياته الجشع والتملك والقسوة والأنانية.
التقابل مفزع بين ابنة الباشا التي تطرد أخيها من شقة والدهما لتستولي عليها, وبين ملاك الذي يسعى للحصول على مكتب زكي بالخداع, وبين حاتم الذي يسعده اغتصاب عبد ربه له حتى يلقى حتفه على يديه, ويودي بعبد ربه إلى المشنقة, وبين طه الذي ينتقم من اغتصابه فيقتل الضابط الذي أمر بذلك, ويلقى حتفه بدوره. ويتجلى بؤس الحياة السياسية حيث نرى خيوط الحكم بين يدي وزير فاسد يعمل لصالح عصابة, ونرى الوفد على لسان زكي لا يرى في عبد الناصر إلا رئيس عصابة, واليسار يدافع عن الفقراء على لسان حاتم المتفرنس, واليمين يصل إلى تكفير الدولة الحديثة التي أسسها محمد علي منذ قرنين على لسان شيخ الجماعات الإسلامية, والسلطة تقوم باغتصاب طلبة الجامعات في المعتقلات.
سخط اليسار واليمين
تبدو الرواية وكأنها حديث عفوي من القلب على لسان الراوي-المؤلف, ومن دون أي حسابات. ولكنها رواية محسوبة بدقة من الناحية الأدبية, وإن لم تدخل في حسابات الكاتب إرضاء أو إغضاب الأيديولوجيات المختلفة على الساحة السياسية والساحة الأدبية. إنها رواية تعبر عن رؤية كاتب ليبرالي, أي لا يحتكر الحقيقة, ولذلك لم ترض أغلب كتاب السياسة ونقاد الأدب من أغلب الأيديولوجيات, وزاد رواجها, ثم ترجمتها إلى لغات أجنبية من سخطهم عليها. لقد جمع السخط على رواية "عمارة يعقوبيان" اليمين واليسار معاً.
نشرت صافيناز كاظم (المصور 30 يونيو 2006) أنها تقززت من الرواية, وأنها من أقبح ما قرأت مكتوباً على ورق, وأن مؤلفها بذل جهداً في شرح الممارسات الشاذة والزانية, ولم يستطع لقصور قدراته الفنية أن يمررها من دون خدش حياء القارئ. ونشر طلعت رضوان (أدب ونقد التي يصدرها حزب التجمع عدد فبراير 2005) أنها رواية تتعاطف مع التيار الأصولي الإسلامي. وفي نفس العدد المشار إليه نشر إبراهيم العشري أنها رواية مزيفة للوعي, معادية لثورة يوليو, اللوطي فيها هو صوت الوعي, وابن الباشا الوفدي هو صوت الانتماء.
وبينما نشر الناقد الفلسطيني فيصل دراج (الحياة 25 أبريل 2006) أن الرواية تشوه الواقع المصري, ولا تندد بالسلطة كما توحي, وأنها رواية وعظية تستهدف إشاعة الطمأنينة والرضى عند القارئ, نشر الروائي والناقد الكويتي طالب الرفاعي (الحياة 18 مايو 2006) أن الرواية يسيطر عليها هاجس الجنس, وتقدم خلطة تقوم على الجنس والدين والسياسة بلغة عادية بعيدة عن أي ابتكار أو فنية, وأن إقبال المترجمين عليها لأنها تعري الفساد والتخلف اللذان يعششان في جوانب أكبر مجتمع عربي, وتؤكد لدى الآخر صدق فكرته بوجود مجموعات إسلامية إرهابية. وربما لم يناصرها من مصر إلا الدكتور جلال أمين وهو أستاذ في الاقتصاد وفي العلوم الاجتماعية, وجمال الغيطاني وهو من الأدباء وليس من النقاد. واختار بعض نقاد الأدب تجاهلها تماماً.
ولست أدري كيف تكون "عمارة يعقوبيان" تشويهاً للواقع المصري, وكيف يمكن اعتبارها لا تندد بالسلطة, وتشيع الطمأنينة والرضى عند القارئ. وما هو الخطأ في أن يسيطر على الرواية هاجس الجنس, أو أن تقدم خلطة من الجنس والدين والسياسة, وما الذي يجعل اللغة العادية بعيدة عن الابتكار والفنية. وهل يؤخذ على عمل أدبي أنه يعري الفساد والتخلف. ثم أليست هناك مجموعات إسلامية إرهابية, أم ترى كل ما حدث من 2004 من نيويورك وواشنطون إلى مدريد ولندن, ومن الدار البيضاء إلى الرياض مروراً بطابا وشرم الشيخ والعاصمة الأردنية عمان من نسج الخيال.
وفي كتابه "شرفات ونوافذ" (2006) ينشر فاروق عبد القادر أن علاء الأسواني في "عمارة يعقوبيان" كاتب كاره للوطن والمواطنين, بل وكاره للبشر. ومن البديهي كما يعلم ناقدنا الكبير أن الكراهية هنا تعبر عن ذروة الحب. قامت الرواية بتعرية الواقع, وقام نقادها بتعرية النقد الأيديولوجي من أقصى اليسار الشيوعي إلى أقصى اليمين الديني, وأصبح علاء الأسواني في مواجهة السلطات السياسية والسلطات النقدية في نفس الوقت إلا من بضع أصوات قليلة, وعبر عن حال الليبرالي الحقيقي في مصر والعالم العربي, والهامش الضعيف الذي يتحرك فيه.
الغضب والإصلاح
وإذا كانت الرواية تعبر عن الغضب, فالفيلم الذي كتبه وحيد حامد وأنتجه عماد أديب وأخرجه مروان حامد يعبر عن سينما الإصلاح السياسي الذي تقوده لجنة السياسات في الحزب الحاكم برئاسة جمال مبارك, والتي تواجه شبكة مركبة وراسخة من أعداء الإصلاح التي قررت وراثة مصر أيا كان رأس الدولة. وربما هي التي تثير قضية وراثة جمال مبارك حتى تعوق الإصلاح, وحتى تخفي قرارها متجاهلة تأكيد الرئيس مبارك على أن مصر ليست مثل سوريا, ومتجاهلة تأكيد جمال مبارك استحالة توريث الحكم في مصر.
لا يمكن تجاهل أنه في نفس الوقت الذي كان يصور فيه فيلم "عمارة يعقوبيان" كان عماد أديب يشترك في الحملة الانتخابية للرئيس مبارك عام 2005 بإجراء حديثه التلفزيوني المطول معه, وأن مروان حامد مخرج الفيلم الرسمي للانتخابات, وأن وحيد حامد أعلن في مقالاته السياسية وأحاديثه للصحافة والتلفزيون أنه يؤيد ترشيح جمال مبارك لرئاسة الجمهورية طالما هناك انتخابات.
سينما وحيد حامد
وحيد حامد من بين عدد محدود من كتاب السيناريو في مصر والعالم العربي الذين يمكن أن نقول أن لهم سينما. بمعنى أن لهم عالمهم الفني الذي يصنع سينما خالصة أيا كان المخرج وراء الكاميرا, والنجوم أمامها, والمنتج الذي يصنع الفيلم. وقد وصل وحيد حامد إلى هذه المرحلة الأعلى بالنسبة لأي كاتب سيناريو في التسعينيات من القرن الميلادي الماضي بعد مرحلتين في السبعينيات والثمانينيات. ففي السبعينيات بدأ بداية متواضعة وصل فيها إلى حد كتابة "المقدمة المنطقية" على الشاشة في نهاية الفيلم, وهو تعبير أحد المراجع المدرسية في الدراما. وفي الثمانينيات تطور تطوراً ملحوظاً مع حركة الواقعية الجديدة, وخاصة في أفلامه التي أخرجها عاطف الطيب (1947-1995) ومنها "البريء" 1986 أحد تحف السينما المصرية.
في المراحل الثلاث تميز وحيد حامد بشجاعة استثنائية في إطار عمله في السينما السائدة من حيث نقد الواقع, والعمل على تغييره. وكان "اللعب مع الكبار" إخراج شريف عرفة وتمثيل عادل إمام عام 1991 بداية مرحلة سينما وحيد حامد حيث قدم مع المخرج الموهوب ونجم النجوم أهم الأفلام التي ناقشت علاقة المواطن بالسلطة, ونددت بإرهاب الجماعات الإسلامية الذي بدأ في هذه الفترة, وربطت بين الفساد والإرهاب, وأهمها "طيور الظلام" 1995, وأحدثها "دم الغزال" إخراج محمد ياسين 2006.
ولا يمكن هنا أيضاً تجاهل أن شريف عرفة هو مخرج حديث عماد أديب مع الرئيس مبارك, وأن عادل إمام أعلن بدوره أنه يؤيد ترشيح جمال مبارك لرئاسة الجمهورية طالما هناك انتخابات. فهذه المجموعة من الفنانين تعمل في السينما السائدة, وفي إطار النظام السياسي, وحتى موقفها من الجماعات الإسلامية الإرهابية يرتبط بموقف النظام منها, فكيف تم تطويع رواية علاء الأسواني لتصبح رواية الغضب المعادية للنظام السياسي بداية سينما الإصلاح.
استبعد وحيد حامد رشوة الـ 20 ألف جنية التي كان يمكن أن يدفعها طه لدخول كلية الشرطة رغم أنه ابن البواب, واستبعد الشكوى التي أرسلها إلى رئاسة الجمهورية, والرد السلبي على هذه الشكوى, واستبعد حديث شيخ الجماعات السياسي عن قوات التحالف الدولي لتحرير الكويت, وهجومه على مشايخ السلاطين, واستبعد الشعارات السياسية من مظاهرات طلبة الجماعات حيث أصبحت تطالب بالدولة الدينية فقط, واستبعد لقاء الحاج عزام مع الرجل الكبير رئيس العصابة التي يعمل لحسابها الوزير الفاسد, رغم أن شخصية الرجل الكبير دارجة في كل الأفلام البوليسية المصرية.
ومن أجل نجومية عادل إمام الذي قام بدور زكي الدسوقي استبعد وحيد حامد وصفه لعبد الناصر بأنه رئيس عصابة, وجعله يتبادل الحب بحق مع بثينة, ويبدو ملاكاً مظلوماً رغم كل نزواته الحمقاء, وركز على فحولته الجنسية رغم تقدمه في السن, وهي الصورة التي يعنى بها عادل إمام في أفلامه منذ فترة مثل "التجربة الدانمركية" و"السفارة في العمارة" وغيرهما. ومن أجل نجومية يسرا حاول أن يجعل من أدائها لشخصية كريستين دوراً, ولكن من دون جدوى. ونفس الأمر بالنسبة إلى دور دولت الذي قامت به إسعاد يونس وهي رئيسة الشركة التي توزع الفيلم. وهذا لا ينفي أن الثلاثة كانوا في ذروة التألق, بل إنني خرجت من العرض الأول للفيلم في مهرجان برلين, وكان انطباعي أن الفيلم يعلن عن مولد مخرج كبير, وأن عادل إمام يصل إلى مرحلة عالية من النضج لا أدري لماذا يبددها في أفلامه التي تنافس "بوحه".
وعلى الصعيد الفني يقدم وحيد حامد في "عمارة يعقوبيان" درساً في كيفية تحويل رواية متعددة الخطوط إلى فيلم في نحو ثلاث ساعات. استبعد وحيد حامد تفاصيل لا تغني الفيلم مثل الصراع على مصنع ملاك على سطح العمارة, والصراع بين الحاج عزام ومنافسه الحاج أبو حميدة صاحب محلات "الرضا والنور", وتفاصيل الكشك الذي يؤجره حاتم ليعيش منه عبد ربه, وتفاصيل إقناع شيخ الحاج عزام لسعاد حتى تقبل الإجهاض طوعاً, وتفاصيل زواج طه ورضوى. ومن ناحية أخرى جعل زوج سعاد يقتل في العراق, بدلاً من انقطاع أخباره, وجعل القبض على طه في الشارع بعد المظاهرة, وليس في الغرفة التي يقيم فيها مع والده فوق السطح, وجعل بثينة تمزق العقد الذي حاول ملاك أن يجعلها تخدع زكي ليوقعه, وليس أن تعيده إلى ملاك.
نقطة تحول
ومع الأسف احتفظ وحيد حامد بالعودة الوحيدة إلى الماضي, والتي تفسر مثلية حاتم, وغير تماماً قتله على يد عبد ربه, وجعل حاتم يلتقط صعلوكاً من الشارع يقتله ليسرقه, رغم أن مصرع حاتم على يد عبد ربه في الرواية أكثر منطقية من الناحية الدرامية. ولكن هذا التغيير لم يؤثر بالسلب على الفيلم. والتعبير عن المثلية الجنسية في "عمارة يعقوبيان" يجعله نقطة تحول في تاريخ السينما المصرية السائدة من حيث الحديث عن المسكوت عنه, وأكثر ما يؤكد أن الفيلم ينتمي إلى سينما الإصلاح السياسي الذي يقوم أساساً على إطلاق الحريات وعلى رأسها حرية التعبير, فلم نشاهد من قبل تعرية للفساد, ولم نشاهد إدانة للشذوذ, من الشذوذ السياسي إلى الشذوذ الجنسي المثلي وغير المثلي كما في هذا الفيلم.
يأتي مروان حامد الذي تخرج في المعهد العالي للسينما إلى عالم الأفلام الطويلة وهو دون الثلاثين بفيلم عن رواية علاء الأسواني بعد فيلمين قصيرين عن قصتين من قصص يوسف إدريس (1929-1991). وهناك عنصر مشترك بين إدريس في خمسينيات القرن الميلادي الماضي, والأسواني في مطلع القرن الجديد, وهو التمرد والثورة على الواقع, وعلى الأدب التقليدي في نفس الوقت. ومن الملاحظ أن إدريس هو أكثر الكتاب الذين أعدت عن قصصهم أفلام طلبة معهد السينما, والأفلام المستقلة أيضاً. وهذا منطقي تماماً, فإذا لم يكن الشباب هم الذين يتمردون على واقع المجتمع وواقع الفنون, فمن الذي يتمرد.
الموهبة والطموح
ولكن اعتماد مروان حامد على الأدب من ناحية أخرى يعني أنه أقرب إلى الإصلاح منه إلى الثورة التي تقوم على سينما المؤلف. ولا شك أن تمكنه من إخراج أول أفلامه الطويلة وهو دون الثلاثين, وهو أمر عادي في العالم, بل وكان عادياً في مصر في العصر الذهبي للسينما المصرية (أنظر يوسف شاهين), ولكنه لم يعد عادياً, يرجع إلى عمله منذ أن كان طالباً في سينما وحيد حامد وشريف عرفة وعادل إمام. ومن الابتذال القول بأنه يرجع إلى كونه ابن وحيد حامد, فالموهبة لا تورث, وهذا مخرج موهوب بكل وأي المقاييس, ويبدو ذلك من فيلم تخرجه في معهد السينما. ولكنه أساساً تخرج من مدرسة الثلاثي المذكور, وتأثر بها بوضوح كأفضل مستويات السينما السائدة في مصر. وكان عماد أديب منتجاً فناناً وشجاعاً بحق عندما أسند إليه إخراج "عمارة يعقوبيان", وكان هو على مستوى المسئولية فأخرج فيلماً غير عادي, وأثبت أنه مخرج صغير السن كبير الطموح.
وأهم ما يجعلنا نرى مروان حامد مخرجاً كبيراً في أول أفلامه إدارته لهذا العدد الهائل من الممثلين والممثلات الذي جعل الفيلم استعراضاً عالمياً لفن التمثيل في مصر, وهو فن عريق يقترب تاريخه من مائة عام. فإلى جانب الأدوار الرئيسية لكبار النجوم مثل عادل إمام ويسرا ونور الشريف في دور الحاج عزام وهند صبري في دور بثينة حيث تثبت من جديد براعتها وتميزها عن كل ممثلات جيلها, قدم خالد الصاوي في دور حاتم الذي سار على خيط رفيع واحتفظ بتوازنه في كل مشاهده, وباسم سمره في دور عبد ربه, وقد أصبح ذو خبرة قوية في علاقته مع الكاميرا, وخالد صالح في دور الوزير الفاسد كمال الفولي, والذي أداه ببساطة وعمق ومن دون نمطية, والممثلين الكبيرين أحمد راتب وأحمد بدير في دور أبسخرون الذي أصبح اسمه فانوس ودور أخيه ملاك ترزي القمصان.
ولكل هؤلاء خبرات سابقة ما عدا محمد إمام في دور طه, والذي أثبت بدوره أنه لا يمثل لأنه ابن عادل إمام, وإنما لأنه يملك الموهبة التي قدمها مروان حامد, وخاصة في المشاهد التي لم تعتمد على الحوار, وإنما على التعبير الصامت بالعينين. لم يكن الانكسار قوياً في مشهد رفضه في كلية الشرطة, ربما لأن المشهد بأكمله كان أسرع من اللازم, ولكن انكساره بعد الاغتصاب كان رهيباً, واندفاعه للانتقام وكأنه دمية تتحرك بأزرار من دون إدراك العواقب كان مقنعاً إلى أبعد الحدود. لقد اختار مروان حامد بعناية جميع الممثلين والممثلات في أدوارهم المناسبة, وأدارهم بحنكة حتى من قاموا بأصغر الأدوار مثل سمية الخشاب وتامر عبد المنعم ومحمد الدفراوي ويوسف داود وسعيد طرابيك وعباس أبو الحسن الذي قام بدور الضابط.
وتتكامل المجموعة الفنية وراء الكاميرا مع المجموعة التي تمثل أمامها, المصور سامح سليم ومصمم الديكور فوزي العوامري ومصممة الملابس ناهد نصر الله, والخالدان (المونتير خالد مرعي والموسيقي خالد حماد). ولكن الملاحظ أن سامح سليم بسط أسلوب التصوير (رواية سوداوية تصور في الظلام), ولم يستطع المونتاج, وهذه مسئولية المخرج أيضاً وبالطبع, أن يربط بين سكان الشقق وبعضهم البعض, وهي وحدة الفيلم كمكان, وبينهم وبين سكان السطح من ناحية أخرى. إننا بالكاد نتبين أن شقة الحاج عزام وسعاد في نفس العمارة, وندرك بعد فترة ليست بالقصيرة أن زكي يقيم مع دولت في شقة والدهما, وأن له حجرة نوم أخرى في المكتب. والموسيقى جيدة, وساعد استخدام المخرج الحذر لها على إبراز جودتها.
واقعية متطورة
يبدأ الفيلم بداية قوية بمشاهد تسجيلية عن تاريخ العمارة مع تعليق بصوت الفنان الكبير يحيى الفخراني, وهي مشاهد تكثف رؤية الأسواني لعلاقة الواقع بالتاريخ الذي سبقه, وتبني مروان حامد لها رغم أن كل منهما من جيل مختلف, ولكن الغضب يجمع بين كل أجيال الشباب. وأسلوب مروان حامد واقعي متطور, فهو في إطار السينما السائدة, ولكن بروح جديدة تدرك الفرق بين السينما والتلفزيون. فقد كان من شأن تعدد الشخصيات, والتصاعد الأفقي للأحداث, أن يجعل الفيلم وكأنه مسلسل تلفزيوني يعرض مختصراً, غير أن مخرجنا سينمائي حتى النخاع. ويبدو التأثير السلبي للسينما السائدة في العودة الثانية إلى الماضي التي يضيفها المخرج عندما يقوم طه بقتل الضابط فنرى لقطات من مشهد الاغتصاب ثانية, فهذا شرح للمشروح وتوضيح للواضح, ويعكس عدم ثقة صناع السينما السائدة بذكاء الجمهور.
وأكثر ما يؤثر بالسلب على أسلوب مروان حامد عدم تمكنه من الخروج من سينما الثلاثي وحيد حامد وشريف عرفة وعادل إمام, وخاصة فيما يتعلق باختزال الجماعات الإسلامية في جلابيب بيضاء وذقون سوداء ووجوه مكفهرة ونظرات صارخة, وتحويل رغبة طه في قتل الضابط إلى حكاية انتقام شخصي بحت, بينما القضية صراع سياسي له أبعاده المركبة المحلية والدولية. لم يغير مروان حامد استبعاد وحيد حامد للبعد السياسي للجماعات الإسلامية من الرواية, ولم يقاوم نجومية عادل إمام بما يكفي, وخاصة في النهاية التي بدت أقرب إلى النهاية السعيدة بالفعل, ولم يتخلص من تأثير أسلوب شريف عرفة, والذي كان واضحاً في العديد من المشاهد, وخاصة في استخدام حركة الكاميرا والعدسات والمزج والحركة البطيئة.
مشهد عادل إمام في ميدان طلعت حرب كأنه منقول من "اللعب مع الكبار", ومشهد جنود الأمن المركزي كأنه منقول من "الإرهاب والكباب", والمزج في مشهد تمشيط زكي شعر بثينة, والحركة البطيئة في مشهد مصرع طه والضابط, واللقطات الكبيرة لزجاجات وكئوس الخمر بأسلوب الإعلانات الذي يتأثر به شريف عرفة, ينتقل إلى تلميذه مروان حامد. فضلاً عن بعض الأخطاء المعتادة في ميكساج الصوت كما في مشهد لقاء طه مع الشيخ في مقهى حيث يتساوى مستوى الصوت من داخل المقهى ومن الخارج عبر الزجاج.
ولكن هذه الملاحظات وغيرها لا تغير من حقيقة أننا أمام فيلم/حدث على أكثر من صعيد, وإعلان عن مولد مخرج كبير في أول أفلامه الطويلة, وقادر على أن يكون له أسلوبه الخاص وعالمه الفني المتميز
سمير فريد
انظر الموقع الرسمي لسينما ايزيس
www.cinemaisis.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق