محاكمة الضمير الأبيض العنصري في فيلم " ديترويت " لكاترين بيلو
بقلم
صلاح هاشم
فيلم (ديترويت) لكاترين بيلو الذي خرج للعرض التجاري حديثاً في باريس، يقدم محاكمة للضمير الأمريكي الأبيض العنصري البيوريتاني، الذي حرص ومنذ أن بدأت صناعة الفيلم الأمريكي تدور في هوليوود، ومنذ فترة العشرينات؛ على تصوير الأمريكي الأسود بالعبد الأفريقي الأسود المختطف للعمل في مزارع القطن وقصب السكر والتبغ وتشييد السكك الحديدية ويساهم في صنع ثروات العالم الجديد (أمريكا).
تصوير الأمريكي الأسود في صورة الإنسان المتخلف الهمجي المتوحش، وتجريد العبيد من آدميتهم، واعتبارهم شيئاً أقل من البشر، والترويج لذلك (النموذج) في أعمال السينما الأمريكية لإرضاء سلطة البيض التي انتهجت (سياسة التمييز العنصري) للتأكيد على تفوقها وهيمنتها وسيادتها.ولم تكن هوليوود البيضاء، وطوال تاريخها الطويل، تحب أبداً اللون الأسود، لكن -وقبل الحديث عن فيلم (ديترويت)؛ ترى كيف تأصلت تلك العلاقة بين الإنجليز البيض البيوريتان -الواسب- وكراهيتهم للون الأسود في التاريخ الأمريكي؟
الإنجليز البيض ضد الأفارقة
في كتابه (الحمر والبيض والسود) لجاري.ب.ناش يشرح المؤلف كيف تقبل الأوروبيون بمختلف أصولهم القومية الأفارقة، وكيف تعاملوا معهم بعد أن أصبح الرق وتجارة الرقيق جزءاً أساسياً في (التجربة الاستعمارية) في العالم الجديد. فيذكر أن ردود فعل الإنجليز البيض تجاه الأفارقة كانت أكثر تطرفاً وسلبية، منها لدى الإسبان والبرتغاليين. فبالرغم من أن جميع الدول الأوروبية كانت تعتبر مدنيتها أكبر تفوقاً وسمواً بالنسبة للمجتمعات الأفريقية؛ كان الإسبان والبرتغاليون أكثر اعتياداً على الأفراد ذوي البشرة السوداء، خلال قرون من التجارة والحروب مع شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المطلة على البحر المتوسط.
الأسود غبي وشرير وتافه
ولكن الإنجليز ذوي البشرة الشقراء، عندما وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام الأفارقة ذوي البشرة السوداء الخالصة كان رد الفعل لديهم سلبياً بشكل خاص. ولعل المصادفة المشؤومة في التاريخ أن يصبح السواد، حتى قبل السماع عن قارة أفريقيا، وسيلة للتعبير عن بعض القيم المتأصلة جداً في المجتمع الإنجليزي، حيث أن كلمتي (أسود) وعكسها (أبيض) ذواتا مضمون ثقيل على النفس، فكلمة أسود كانت تعني الغبي والشرير والحقود، كما كانت تعني الليل وساعة الخوف، وهكذا ارتبطت بأشد المواقف إثارة للقلق في الطبيعة البشرية، وأصبح الاستخدام الإنجليزي لكلمة أسود، يشايع هذا المعني، فكان يعتبر الشاة السوداء (وهو الشخص التافه) في الأسرة، واليوم الأسود والنظرة السوداء (المعادية)، فكانت كل هذه المصطلحات تعبيرات قائمة في ضميرهم الحضاري -ذلك الضمير الذي يعقد له فيلم ديترويت محاكمة كما ذكرنا- في حين كان اللون الأبيض على عكس اللون الأسود يمثل النقاء والعذوبة والجمال والفضيلة والسلام. فالملائكة تتشح بالبياض، وتتزوج البنات في الثوب الأبيض رمزاً للعفة والطهارة، وبذلك كان الإنجليز مؤهلين ثقافياً لرؤية الشر والقبح والرذيلة في السواد، وبهذا المعنى كان لقاؤهم غير المتوقع مع شعوب أفريقيا الغربية التي أتي منها العبد الأفريقي الأسود المختطف ورحلة أهوال في البحر وقبل أن يصل إلى مستعمرات البيض في العالم الجديد ويكدح ويشقى في نطاق أكبر هجرة جماعية في التاريخ.
كان لقاء محكوماً عليه بالتحيز مقدماً بهذه (الرموز اللونية) الموجودة في اللغة والثقافة الإنجليزية، وتضاعفت (الصورة السلبية) بوصف الأفارقة بـ(الهمجية) و(الوثنية) كما كان يراهم الإنجليز، الذين اعتبروا أن جهل الأفارقة بالمسيحية وعبادتهم (لآلهة زائفة) واختلاف طريقتهم في الحياة قد أبعدتهم عن الأوروبيين (المتمدينين).
ويؤكد أن التاريخ يعيد نفسه على ما يبدو، بعد تحرير العبيد في أمريكا، فما زالت أعمال الكراهية والاعتقال والقتل تمارس على المواطن الأمريكي الأسود الزنجي في (العالم الجديد). وما زالت الاحتجاجات والمظاهرات السوداء تجتاح شوارع أمريكا.
عن هذا يحكي (ديترويت)، ويعرض لذلك (الوحش) من الكراهية والسادية، وكيف تنتشر سمومهما في دم البيض، ويسأل: ترى هل تستطيع أمريكا البيضاء أن تروض ذلك الوحش الذي ينهش في لحمها، ولماذا هذا العنف المتأصل في جذور الثقافة الأمريكية؟ وأعتبره أحد أفضل الأفلام (السياسية) التي خرجت للعرض حديثاً في باريس. وكان الفيلم أثار جدلاً كبيراً في أمريكا، من ناحية هل يحق للمخرجين البيض صنع أفلام عن شعب أمريكا الأسود من الزنوج- أكثر من 10 ملايين أسود؟ وهل من حق المخرجين البيض، التعبير من خلال السينما عن كل تلك المهانات والاعتقالات وأعمال القتل والتشريد والتعذيب، التي ما زالت ترتكب ولحد الآن بحق السود كمواطنين أمريكيين؟ أم أن تلك (ثيمات) هي من ممتلكات السود الشخصية، وموضوعات لا يستطيع أن يناقشها إلا السود فقط، بأنفسهم، ومن ثم يصدرونها على الشاشة، ولن يفرطوا فيها أبداً.
كما كشف موقف المخرج الأمريكي الأسود المعروف سبايك لي، صاحب فيلم دو ذا رايت ثينج (افعل الشيء الصحيح) من الفيلم، حيث اعتبر أن تلك المخرجة السينمائية البيضاء كاترين بيلو كانت انتهازية بحق، حين صنعت ذلك الفيلم الذي يوثق لأحداث دامية وقعت في ديترويت، وكانت توشك على أن تشعلها حرباً أهلية بين أبناء البلد الواحد.
في فيلمها الروائي البديع تصور المخرجة الأمريكية كاترين بلو أو تعيد تصوير و(تمثيل) تلك الأحداث والوقائع المرعبة التي جرت في شهر يوليو عام 1967 في فيلم روائي لكنه أشبه ما يكون بفيلم تسجيلي متقن، و(وثيقة) سياسية فائقة الجودة. وثيقة تحكي عن قدر مدينة، عما كانت عليه (ديترويت) في الماضي، حيث كانت في القمة في كل شيء، ثم كيف تدهورت أوضاعها بمرور الزمن، لتجعل (ديترويت) ترقد حالياً في (القعر الأسود) BLACK BOTTOM أحد أشهر وأفقر أحياء مدينة (ديترويت) التي يسكنها السود!
الاحتقان العنصري في (مدينة المحركات)
ديترويت هي أكبر مدن ولاية ميتشجان الأمريكية، وكانت فيما مضى، وتحديداً في النصف الثاني من القرن العشرين واحدة من أكبر المدن الأمريكية وأكثرها ازدهاراً وتنوعاً.
كانت ديترويت التي تسمى مدينة المحركاتMOTOR CITY مهداً لصناعة السيارات (شركة فورد)، ومركزاً اقتصادياً وثقافياً وفنياً عالمياً، ومحلاً لشركة وأستوديو (موتاون) الشهير، الذي تخرج فيه، وأنجب، وأصدر الأسطوانات الموسيقية لأشهر المغنين والعازفين السود في أمريكا، ومن ضمنهم مايكل جاكسون ومارفن جاي وراي تشارلز وأريتا فرانكلين وجيمس براون.. وغيرهم ممن وضعوا بصماتهم على الموسيقى الأمريكية، بكل أنواعها من (البلوز) و(الروك) و(الصول)، وحققوا لها شهرة عالمية، وبخاصة لموسيقى الجاز الأفريقية الجذور الأمريكية النشأة.
وبالمناسبة يتحدث الفيلم عن تلك (التجربة المرعبة) التي عاشها أحد هؤلاء الفنانين السود، ويدعى (لاري ريد) من فرقة (ذا دراماتيكس)، بعدما اعتقلته الشرطة وظلت طوال الليل تحقق معه في أحد أطول وأرعب مشاهد التعذيب في تاريخ السينما العالمية. وأعتبر مشاهد التعذيب في فيلم ديترويت، هي مشاهد محاكمة للضمير الأمريكي الأبيض الاستعماري المهيمن، ومحاكمة للجيش الأمريكي، ومحاكمة للعدالة في أمريكا أيضاً. تلك العدالة التي تحكم وتحكم لصالح الأمريكي الأبيض، وتطلق سراح القتلة البيض ولا تحاسبهم أو تعاقبهم إن عاقبتهم مظهرياً إلا بالعقاب الخفيف، وليذهب الآن الكل إلى حال سبيله ولا داعي للفرجة.
لكن مع حلول فترة الستينات -وما زلنا نتحدث عن ديترويت- أدت مجموعة من التراكمات الاجتماعية والاقتصادية والاحتقان العنصري إلى أفول نجم المدينة وانحدارها، ووقوع أحداث دامية في صيف عام 1967، وهي تلك الأحداث التي تحكي عنها المخرجة البيضاء كاترين في فيلمها وتصورها، بعد أن ظلت ولفترة ست سنوات تجمع كل الوثائق والمقالات والصور والأفلام، وتسافر مع كاتب سيناريو الفيلم إلى المدينة لكي تستمع إلى شهادات لأناس سود وبيض -من الشرطة- عاشوها وخبروها وما زالت جروحها تدمي داخلهم.
فيلم ديترويت يبدأ مع أول مشهد في الفيلم ونزول تترات وعناوين الفيلم على الشاشة بعرض (فيلم تحريك قصير) يحكي أثناء نزول التترات عن تاريخ العبودية في أمريكا، وتلك الهجرات الداخلية التي كانت تدفع شعب أمريكا الأسود من العبيد المختطفين من أفريقيا للانتقال بحثاً عن عمل ولقمة عيش من ولاية إلى أخرى، ويقف الفيلم (كمدخل) عند تلك الجماعة السوداء التي حطت أخيراً في مدينة ديترويت أحد أهم المراكز الصناعية آنذاك في (العالم الجديد)، كي يحكي عنها كصورة مصغرة للشعب الأمريكي الأسود في أمريكا، ويسلط الضوء على تلك (الكراهية) المتأصلة في نفس (السيد) الأمريكي الأبيض، و(سلطة) البيض الأمريكيين، ممثلة بأفراد بيض من شرطة المدينة وعمدتها (الأبيض المجرم) الذي استنجد بقوات الشرطة لقمع المظاهرات وحصر أعمال الشغب.
ثم يفتح الفيلم على (مشهد ليلي) لبعض سكان مدينة ديترويت من السود وهم يحتفلون بعرس في ناد ليلي، وكانت بعض أعمال الشغب وقعت بالفعل في المدينة من قبل وبدأت قوات الشرطة تطارد المتظاهرين وتعتقلهم، وتتدخل بشكل سافر في حياتهم.
ويصور المشهد الثاني في الفيلم أحد هذه التدخلات التي كانت (الشرارة الأولى) التي أشعلت (نار) ذلك الحريق الكبير، أشبه بحرب أهلية، حيث تهبط قوة من قوات الشرطة في المدينة وتحاصر ذلك النادي الليلي، وتهجم على رواده من السود وتعتقلهم وتخرج بهم لإيداعهم عربات الشرطة في الخارج حين تتجمع جمهرة من سكان الحي حول النادي وتتساءل عما يحدث؟ وأي ذنب ارتكبه رواد النادي من السود، ليستحقوا عليه إهانتهم وضربهم، وجرهم ظلماً هكذا للحبس، وتطلب إطلاق سراحهم فوراً، إلا أن رجال الشرطة يسارعون بالهرب بعرباتهم، وهم يزجرون، ويتوعدون بالانتقام.
وحيث أن التفاصيل الصغيرة هي التي تسطع بالحقائق الكبرى وتؤسس للأفلام السينمائية الكبيرة، تؤسس مخرجتنا فيلمها على ثلاث دعامات، حققت للفيلم توهجه الإخراجي الفني وعكست حنكة مخرجته ودربتها على مستوى السرد من خلال الاعتماد على إدخال بعض المشاهد المأخوذة عن الأفلام والريبورتاجات التي وثقت لتلك الأحداث التاريخية الدامية في (ديترويت)، ودمجها في فيلمها الروائي، ثم الاعتماد على المشاهد الطويلة التي تمضي ببطء وبخاصة أثناء مشاهد التحقيق داخل غرفة في فندق مع بعض الأفراد، وضبط إيقاع تلك المشاهد، حتى تجعل المتفرج يدخل بنفسه في لحمة الفيلم، ويشارك شخصياته نرفزتهم وعصبيتهم وشجاعتهم أيضاً وهم يتعرضون فرداً فرداً لأبشع صور التحقيق والتعذيب والقتل المتعمد على يد بعض رجال الشرطة والجيش (الساديين) في الفيلم، حتى لتحسب من فرط استغراقك في مشاهد التحقيق تلك أن الدور حتماً سوف يأتي عليك للتعرض مثلهم إما بالبوح، أو أن تطلق رصاصة في رأسك على يد شرطي أبيض داخل أحد غرف النزل الذي تحول إلى (الجحيم) بعينه وتموت. ثم إعادة تمثيل بدقة المحاكمة، أو بالأحرى (المهزلة) التي عقدت لرجال الشرطة والجيش السفاحين في نهاية الفيلم وكيف انتهت بتبرئتهم.
لكن لا جدال، وبعد أن شاهدت الفيلم في باريس، وأعجبت به كثيراً، أن أعتبره إضافة حقيقة وجبّارة ليس فقط للسينما الزنجية السوداء التي يصنعها المخرجون السود في أمريكا، بل للسينما الأمريكية الحديثة أيضاً، تلك السينما التي يصنعها البيض والسود معاً في وطنهم، والتي أرى أنها حققت قفزات كبيرة، باتجاه الاقتراب أكثر من الواقع الأمريكي الحالي وبكل تناقضاته، والاستفادة من التقاليد والإضافات التي حققتها السينما الوثائقية على مستوى تطور أساليبها وفكرها.
لا جدال في أن الجدل الذي أثير بحقه في أوساط السود من المخرجين والفنانين هو جدل بيزنطي فارغ وعقيم، لأن تاريخ أمريكا الأسود ليس ملكاً لشعب أمريكا الأسود وحده من السود، بل ملك للبيض أيضاً والبشرية جمعاء، وكما قال الشاعر العظيم بابلو نيرود (إهانة أي إنسان في العالم ومهما كانت جنسيته أو عرقه، شكله أو لون جلده، هي إهانة في حق البشرية جمعاء).
فيلم (ديترويت) لكاترين بيلو ومن هذا المنظور هو فيلم عن (كرامة الإنسان) الذي يعذب ويشرد ويعتقل ويقتل الآن، في أجزاء كثيرة من عالمنا، من دون أن يقترف جرماً.
عن مجلة " المجلة العربية " الشهرية العدد 504 اكتوبر 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق