مختارات " سينما إيزيس "
لتفتيح العيون والأذهان
"كن مع الثورة"
من السعودية إلى مصر.. التحالف مع الإخوان لعب مع الشيطان
قبل الغرق في المستنقع الوهابي
بقلم
سعد القرش
للمرة الثالثة، يكاد التاريخ يكرر نفسه، في أقل من مئة عام. في المرة الأولى تحالف عبد العزيز بن سعود وهو يؤسس "مملكة" مع الإخوان، فأخفق في بناء دولة، كما يروي صديقه محمد أسد (ليوبولد فايس)، وفي المرة الثانية تحالف السادات مع الإسلاميين، فانقلب السحر على الساحر، ولم يتمكن الذي "حضر" العفريت من التحكم في مارد لم يرض بأقل من رأس السادات، وفي الأفق تحالف سيعصف بإنجاز فكرة "الدولة" الحديثة التي تعب في إنشائها رفاعة الطهطاوي وبنوه وأحفاده. وقد بدأ التحالف الثالث مع صعود ثورة 25 يناير، قبيل وفاة النظام القديم، ويلوح هذا التحالف الأكثر خطورة، لأنه يتأسس على قواعد دستورية، و"كله بالقانون!".
ولم تكن الجريمة التي ارتكبها سلفيون في حق "مواطن" تصادف أنه مسيحي إلا "قرصة ودن" للدولة المصرية، وأستطيع القول إن المتطرفين فازوا بالجولة الأولى.
المسألة باختصار أن متطرفين في مدينة قنا نصبوا من أنفسهم قضاة وجلادين، وقضوا بإقامة ما يرون "الحد الشرعي" على مواطن، ونفذوا الحكم بالفعل، ووضعوا السلطة والمجتمع في اختبار صعب، ثم فازوا بنشر صور المصالحة في الصفحة الأولى لصحيفة الأهرام الحكومية. ووضعت الأهرام يوم الجمعة 25 / 3 / 2011 الكارثة في حجمها الطبيعي، كخبر أول يحتل النصف الأعلى للصفحة الأولى، تحت عنوان "جريمة نكراء بصعيد مصر"، ويليه عنوان ثان هو "متطرفون يقيمون الحد على أحد المواطنين بقطع أذنه.. والعلماء يبرئون الشريعة". وقال التقرير في السطر الأول إن نيابة قنا بدأت التحقيق في جريمة متطرفين قطعوا أذن المواطن أيمن متري، وأحرقوا سيارته وشقته، عقابا على شبهة إقامته علاقة مع امرأة سيئة السمعة.
هنا يمكن اعتبار المعالجة الصحفية انتصارا لهيبة الدولة، وتسمية للأشياء باسمها، انطلاقا من مصارحات ما بعد الثورة.
ولكن الطبعة الثالثة للأهرام استبدلت بهذا الخبر، في المساحة نفسها من الصفحة الأولى، موضوعا عنوانه "خلافات واسعة حول مشروع قانون تجريم الاحتجاجات"، وأزاحت خبر الجريمة إلى أسفل، مع تغيير في المعالجة الصحفية، وفقا لموازين القوى الجديدة الصاعدة والمرعبة في مصر الآن، تحت عنوانين هما "مسلمون وأقباط يطفئون نار الفتنة في قنا.. متطرفون يقيمون الحد على مواطن بقطع أذنه والعلماء يبرئون الشريعة"، وحذفوا صورة الضحية، وظلت صورة المصالحة بحضور ممثل للجيش وشيخ أزهري معمم وشاب سلفي وشقيق الضحية.
هنا مؤشر خطير على النفاق السياسي والاجتماعي، وانتصار قوى التطرف، وصعود المعادين للثورة، وإقرار الجيش بهذا الصعود، وأكاد أقول "والرضوخ له".
وفي جلسة الصلح، بحضور ممثل للقوات المسلحة، قيل كلام كثير جميل ورائع، لكنه فارغ، يفتقد إلى أي معنى، أو مضمون، فعند اختبار الكلام كانت الهمجية أسبق، وقطعت أذن الرجل بسبب شبهة اتهام، وضاعت هيبة الدولة، وفاز التطرف بجولة أولى سيكون لها ما بعدها.
يوم نشر خبر الجريمة، أوقعني الحظ السيء مع "واعظ" شاب، ارتكب في خطبة طولها خمسون دقيقة أربع خطايا منبرية، أولاها: تأكيده أن كارثة المد الزلزالي الذي أصاب اليابان يوم 11 / 3 / 2011 "مجرد جند من جنود الله ضد قوم كافرين"، ونسي أن الميكروفون الذي يصدع رؤوسنا بزعيقه من صنع اليابان، وأن كثيرا من المخترعات لليابان فيها فضل كبير. والخطيئة الثانية قوله الواثق بتحريم التدخين، مستندا إلى فتوي بعض العلماء عام 1999، "ولا يمكن القول إن التدخين حلال إلا بفتوى أخرى من هذه اللجنة"، وهذا اجتراء على الدين، أخشى معه أن يتمادى جهلاء في جسارتهم، ثم يستنكروا يوما سورة في القرآن لأن اسمها (الدخان). والأمر الثالث: هو الاستكبار عن الاعتراف بوجود مسيحيين في البلاد، حين قال إن حرب 1973 مثلا، شارك فيها المسلمون وغير المسلمين، وكأن ذكر المسيحيين وامتداحهم بما هم أهل له يسيء إليه، ويقلل من هيبة منبر الجمعة، على الرغم من وجود سورة اسمها (مريم)، وأخري اسمها (آل عمران)، وهو لا يدري أنه بهذا الشطط يعصي ربه القائل في سورة المائدة "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"، وقال في سورة آل عمران مخاطبا عيسى عليه السلام "وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، أما الأمر الثالث فليس خطيئة ولكنه غفلة، إذ قال: "لا يمكن أن أدعو مسلما لتقصير ثيابه وإطلاق لحيته وهو لا يصلي"، وكأن هذه الأمور الشكلية من الدين أو هي الدين.
خطيب الجمعة هذا لا يختلف عن المتطرف الذي قطع أذن المواطن المسيحي، كلاهما لا يعرف قانون الإجراءات الجنائية الذي أرسى دعائمه عمر بن الخطاب، إذ تربص بقوم بلغته أنباء عربدتهم، في حديقه منزل أحدهم، وانتظر إلى الليل، وتسلق الجدار وهبط عليهم، وضبطهم في ساعة أنس، والكؤوس تدور. حالة تلبس واضحة. وقبل أن يوجه اتهامه لصاحب البيت، بادره الأخير معترضا: لقد أتينا واحدة، وأتيت ثلاثا: قال تعالى "وأتوا البيوت من أبوابها"، وأنت لم تأت البيت من بابه، وقال تعالى "لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها"، وأنت لم تسلم، والثالثة قوله تعالى "ولاتجسسوا"، وأنت تجسست علينا. فما كان من أمير المؤمنين إلا أن انصرف في صمت، معترفا بأخطائه الثلاثة، وهكذا أرسى دعائم قانون الإجراءات الجنائية.
فأين هيبة الدولة المصرية من مكافأة المجرم، وما موقعها من تمثيلية مصالحة بين مجني عليه بريء ـ على الأقل إجرائيا ـ ومتطرف جعل من نفسه قاضيا وجلادا، ثم يتحدث مندوبون عن تسامح وكلام فارغ يعد من ميراث العهد البائد. ولماذا "التسامح الإسلامي"، وما موضع هذا المصطلح في كيان دولة حديثة نسعى لتأسيسها؟ من يتسامح يستطيع ألا يتسامح، لتكن القاعدة هي تسامح إنساني لا يرتبط بدين، بدلا من هوس الاستعلاء بالإيمان يمارسه مسلمون على مسلمين، والاستعلاء بالإسلام الذي يمارسه كثير من الخطباء على المسيحيين. يرونهم كفارا خارجين على الدين، ومحرفين للكلم عن مواضعه، ناسين قول الله تعالى في سورة المائدة "لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل"، فهل يأمرهم الله أن يقيموا إلا كتابا منزلا من السماء.
في شهادته على عصر صديقه الملك عبد العزيز يسجل محمد أسد في كتابه (الطريق إلى مكة) خطورة "تحضير" العفريت السلفي إذا كنت تنوي بناء دولة. العفريت عفريت يصعب استئناسه، سيخلص لطبائعه، وسرعان ما يتسلل من الثياب ويسمم الجسد، أو يحرق الثياب، ويكون خطرا على أي تسامح. يقول الرجل: "تحول الحماس الديني للإخوان، وميلهم لخوض الحروب، إلى قوة جديدة في يد ابن سعود، وبدأت حروبه منذ ذلك الوقت تكتسب شكلا جديدا.. اكتسبت وجه الحماس الديني الذي يخوض المعارك لا من أجل مكاسب دنيوية، بل من أجل إعلاء شأن العقيدة. أما بالنسبة للإخوان، فقد كانت الولادة الجديدة للإيمان تحتوي، على الأقل، على مضمون أشمل من المضامين الشخصية الذاتية، وكانوا يلتزمون بالعقيدة وتعاليمها، بلا تهاون أو تحريف... كانت مفاهيم أغلبهم مفاهيم بدائية، وكان حماسهم يتسم بالتعصب الزائد. ولسوء الحظ، ظل ابن سعود قانعا وراضيا بما هم عليه من مظاهر بدائية، وفهم سطحي للدين، وابتعادهم عن المعارف الدنيوية. لم ير ابن سعود في حركة الإخوان إلا قوة في يد السلطة، وفي الأعوام الأخيرة قدر لهذا التصور أن ينقلب، ويصبح قوة مضادة تهدد المملكة التي شيدها بجهده".
السطور السابقة عن ترجمة رفعت السيد علي للكتاب، في طبعتي المركز القومي للترجمة بمصر ومنشورات الجمل، ولكنها وفقرات أخرى تنتقد ابن سعود حذفت من طبعة مكتبة الملك عبد العزيز العامة.
العفريت الذي استعان به ابن سعود، أكاد أرى خطوات تحضيره في مصر، وقد تابعت طوال أيام ثورة 25 يناير منحنى الحضور السلفي والإخواني، وأبديت خوفي بعد موقعة الجمل (2 فبراير)، وقلت لأصدقاء "شكلها هتقلب إخوان"، ثم لاحظت تراجع الحضور الإخواني، حين لوح لهم عمر سليمان نائب الرئيس بالحوار، وشطب لقب "المحظورة"، وخشينا من فراغ ينتج عن سحب كوادرهم من الميدان. (سيكون هذا الرصد ضمن كتاب أعده حاليا عن الثورة)، وبلغ المنحنى السلفي ذورته بعد تنحي مبارك يوم 11 فبراير، حيث ارتفع شعار "الله وحده أسقط النظام"، بديلا لشعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، وكدت أتعرض لأذى، في تلك الليلة بالميدان، بسبب اعتراضي على بروز هذه النزعة السلفية العنصرية.
لا يعلم الذين أطلقوا شعار "الله وحده أسقط النظام" حقيقة أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا قتلا، وهم يصلون أو يقرأون القرآن، وأن العشرة المبشرين بالجنة قاتل بعضهم بعضا، وسقط قتلى في موقعة الجمل الأولى بقيادة أم المؤمنين عائشة، وبسيوف المبشرين بالجنان، ولا أحد ينكر وقوع تمثيل بجثث أشرف خلق الله، أاحفاد الرسول من ابنته السيدة فاطمة، ولم يكونوا أقل إيمانا من الثوار بميدان التحرير.
ضع شعار "الله وحد أسقط النظام"، بجوار صيحة "إسلامية إسلامية"، بجوار حضور أو استدعاء أو دعوة الشيخ القطري يوسف القرضاوي لخطبة الجمعة في ميدان التحرير، بجوار اقتراح عبود الزمر لجنة للتكفير، بجوار تصريح مهووس ـ بعد الاستفتاء على تعديل الدستور ـ عنوانه "غزوة الصناديق"، وستكون النتيجة قص شعر فتاة بقاطع حديدي (كاتر لم يصنعه المسلمون) وسط الركاب في ميكروباص، وقطع أذن مواطن مسيحي، واستنكار واعظ صغير السن أن يقول كلمة "مسيحيين"، خشية أن يتلوث المنبر!
مع صعود النفاق السياسي تتراجع هيبة الدولة، ويميع مفهوم المواطنة، ويضيع الدين نفسه، وما يضمن إقامة الدين وممارسة شعائره هو الدولة المدنية والدستور الذي لا ينص على أن للدولة دينا، الدستور المدني يحترم جميع الأديان، ولن يلاحق مسلما أو يجعل له في "أمن الدولة" ملفا لأنه يطلق لحيته أو يواظب علي صلاة الفجر.
المستنقع الوهابي الذي حال دون قيام "دولة" في الجزيرة زحف إلى مصر، منذ نحو 35 عاما، ويكاد ينجح، بنص الدستور هذه المرة، وساعتها سيقول كثيرون: دولة فاسدة يقودها أهوج مثل جمال مبارك أفضل ألف مرة من دولة دينية، سيكون الخروج عليها كفرا.
بعد ما تصورته نجاحا للثورة، أكاد لا أفهم شيئا، فمن يصنع هذا التحالف الشيطاني بين السلفيين ومؤسسات دولة يريد مواطنوها الشرفاء أن تخرج إلى النور؟ أرجوكم لا تسهموا في تحضير العفريت!
لنكن فاعلين وشهودا على ولادة دولة مدنية، لا شهداء في دولة دينية ستأكل المخالفين لها، بمن فيهم الإخوان المسلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق