الجمعة، ديسمبر 01، 2017

فيلم " قتل عيسى " في حصاد الدورة 39 لمهرجان القاهرة السينمائي بقلم صلاح هاشم






صلاح هاشم يقدم حصاد الدورة 39 لمهرجان القاهرة السينمائي الكبير، ويكتب عن فيلم " قتل عيسى " الساحر من كلومبيا، للمخرجة لاورا مورا اورتيجا ، الذي إختاره مع " لجنة تحكيم النقاد الدوليين الفيبريسي" لمنحه جائزتها وعن جدارة، كأحسن فيلم في أفلام المسابقة الرسمية للمهرجان.
..


لقطة من فيلم " قتل عيسى " الكولومبي الفاتن


حصاد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 39
دورة "السينما " في الصدارة


فيلم " قتل عيسي " لـ " لاورا مورا ": عندما تحاول السينما رغم كل المحن أن ترقي الى مصاف الشعر، وهي تصور ضحايا النظام العالمي الجديد ، وتزهو بتجليات النور..


بقلم

صلاح هاشم

حقق مهرجان القاهرة السينمائي في دورته 39 عدة إضافات وعلى عدة مستويات. جلب المهرجان أولا اكثر من 175 فيلما، وجعلها تتواصل مع جمهور المدينة العملاقة، وتقدم بانوراما رائعة، لأوجاع وآلام البشر في الحرب، وأزمات وتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية،
وغربة الإنسان، في عالم يتحكم فيه رجال السياسة ، والمجرمين ، وعصابات المافيا المنظمة، والأنظمة القمعية الديكتاتورية الاستبدادية ،كما في فيلم " قتل عيسى " للمخرجة الكولومبية لورا مورا دارتيجا – العمل الأول لمخرجته – الذي بهرنا بسطوعه الفني في المهرجان وحصل على جائزة " الهرم الفضي " وجائزة لجنة تحكيم النقاد الدوليين الفيبريسي..
وقد عكست تلك الأزمات بالتالي ذلك "الشرخ" الذي صار حتى داخل الأسرة الواحدة، بسبب " الانقسام "الذي وقع
\


راجشيري الممثلة الهندية في لقطة من فيلمها سيكسي دورجا

لكن الجميل أيضا، أن بعض أفلام المهرجان، قدمت نماذجا رائعة، لكيفية الصمود والتحدي، ومقاومة العنصرية والإرهاب ، وتحكم عصابات المافيا في نابولي على مستقبل النشء والأطفال، وجيل كامل من الصغار، يصلب مع عيسى وضحايا العشوائيات وجيتوهات الفقر والظلم كل يوم، واقترحت حلولا كما في فيلم " الدخيل " الايطالي
المهرجان لمصلحة السينما والتنوير
وقبل أن نقدم كشف حساب للمهرجان، ربما كانت أهم إضافة لمهرجان القاهرة السينمائي العريق، أو أي مهرجان سينمائي حقيقي في العالم، هي صنع صداقات سينمائية جديدة والإحتفاء بذكريات صداقات قديمة، بين أناس يجمعهم حب واحد، الا وهو حبهم و عشقهم للسينما. ذلك الفن الذي يمكن أن يتحول، وبلغة الصورة الى " جامعة " حقيقية، للتربية والاستيعاب والادراك و الفهم
وعندما ينتشر من خلال هؤلاء عشقهم للفن، فإن ذلك يوسع بالتالي من دائرة " شعب السينما"، المكون من الجمهور ومن نقاد ومن كتاب، وفنانين وشعراء ومبدعين..
ويوسع من دوائر الفهم،فهم العالم والواقع من حولنا كما تتخلق عند المتفرج أيضا وفي ذات الوقت ذائقة جديدة، من خلال تعدد الرؤي النقدية، التي تتناول أعمال السينما،وهي تحاول جاهدة في أن ترقى الى مصاف الشعر، وتحضر بتجليات النور،وتطرح علينا تساؤلات الوجود الكبرى ، وتبحث عن معنى لحياتنا
وشائج الغبطة المتصلة والطرب الفني العميق
وقد سعدت في الدورة 39 بالكثير من أفلام السينما الجديدة التي جاءت من أنحاء العالم لتشبع قضولنا المعرفي، وتغذي فينا ملكات العقل، وتشحذ فينا سلاح الفكر التنويري، ضد الفكر السلفي الارهابي الظلامي ، وحزنت عندما وقع ذلك الحادث الارهابي الجلل الذي إهتزت له مصر كلها، و حصد ارواح أكثر من 300 من المصليين في مسجد الروضة في شمال سيناء ويريد للحياة في مصر أن تتوقف، فيفجر ويقتل الأبرياء، لكن ما لايعلمه الارهابيون هو أن الحياة في مص،ر لن تتوقف ابدا، لأن قدر المصريين أن لايركعوا لأحد، ومن أراد مصر بسوء، كما كتب شيخنا المؤرخ الجليل الجبرتي، قصمه الله
لكنيى مع استمرارية الحياة في مصر ،و استمرارية "الرغبة حتى في البقاء على قيد الحياة ، واستمرارية الكفاح ضد الإرهاب وكافة أشكال قهر وقمع الإنسان ، سعدت أيضا في المهرجان بتكوين صداقات جديدة، اكتشفت من خلالها عالما محبا للفن، وعاشقا للسينما ، وكارها للظلم، وملونا مثل قوس قزح، أو بالون كبير محلق في السما،و بكل ألوان الغبطة المتصلة، والطرب العميق .
رشحتني أولا جمعية نقاد السينما المصريين للمشاركة في عضوية لجنة تحكيم النقاد الدوليين والصحافة السينمائية " الفيبريسي " في الدورة 39 على الرغم من أني لم أطلب، فسعدت بذلك الترشيح، كممثل للنقد السينمائي في مصر وواحد من رجالاته حتى وأنا اسكن باريس،
 ثم كبرت سعادتي أكثر ،حين سمحت لي تلك المشاركة.وعلى المستوى الشخصي، بأن اتعرف في اللجنة على الناقد الهندي بيتوبان بوبورا من اقليم وبلدة أسام في الهند، وكاتب قصة قصيرة، و كذلك على زميلتنا الكندية في اللجنة كيفا ريردون، التي تكتب في السينما وتختار الأفلام من افريقيا ومن منطقة الشرق الأوسط لمهرجاني تورنتو في كندا ومهرجان ميامي في أمريكا، وسعدت جدا بصداقتهما..
ثم كانت سعادتي الثالثة بمشاهدة الأفلام المشاركة ( 16 فيلما ) في المسابقة الرسمية للدورة 39 ، بصحبة لجنة التحكيم الرسمية في المهرجان، التي ترأسها الممثل المصري النجم القدير" الجنتلمان" حسين فهمي، وبمشاركة المخرج المصري الكبير خيري بشارة والمخرج الفلسطيني هاني أسعد صاحب فيلم " الجبل بيننا " الذي عرض في حفل الافتتاح، وأليسوا كل هؤلاء نجوم.
وبمرور الوقت تأصلت وتوطدت، علاقات الزمالة والصداقة والتحاور والفهم التي نشأت بين أفراد اللجنتين، فصار الكيانان كيانا سينمائيا واحدا ، يصفق مرة للفيلم الجيد، ويصفر مرة أخرى لبعض الأفلام، التي لم يكن مستواها الفني المتدني الساذج، ليسمح لها يقينابأن تنضم الى أفلام المسابقة الرسمية
و كانت سعادتي الرابعة، في إطار تكوين صداقات سينمائية جديدةمن خلال المهرجان أشمل وأعمق ،حين التقيت في الدورة 39 بمجموعة من النقاد و المخرجين والفنانين من الهند، جعلوني أشعر، بعد أن 
وضعت قدمي في بلد محفوظ وأبو سيف وفاتن حمامة، بأني قد وضعت قدمي الثانية في بلد الشاعر طاغور " جيتنجالي "، والمخرج الهندي الكبير ساتيا جيت راى،والممثلة الهندية المتألقة راجشيري..
صاحبة أجمل إبتسامة في الدورة 39 و بطلة فيلم " سيكسي دروجا " البديع ،الذي يقدم سينما هندية مغايرة تماما، تذهب بنا الى آفاق أرحب وأبعد، لتعبر عن سينما "الحساسية الجديدة "من الشباب الهندي من صناع سينما الغد،التي تصدمنا بتوهجها الفني- فاز الفيلم بجائزة أحسن فيلم في مهرجان شيكاغو – وكان عرض في قسم " مهرجان المهرجانات" في الدورة 39.
ولم أبالغ قط، حين قلت أن الحياة التي وصفتها و عشتها في المهرجان كانت أشبه ماتكون بالدولشي فيتا- أي الحياة الحلوة ، نسبة الى المخرج الايطالي الكبير فردريكو فيلليني صاحب الروائع المتوسطية :" لاسترادا – الطريق " وفيلم " آماركورد إني أتذكر " وفيلم " الحياة الحلوة " البديع،
وإنها استطاعت رغم كل المآسي والمحن، ومع " استمرارية الحياة " واستمرارية النضال ، ضد كافةأشكال الإرهاب ، أن تمنحنى حياة جديدة..
حياة تزهو، وخارج كل الظلمات، بسحر السينما، أي الكتابة بالضوء، وبكل ابتكارات الفن المدهشة..
الدورة 39 : السينما في الصدارة
وقد نجحت إدارة المهرجان في الدورة 39عندما غاب عن ساحته النجوم، في أن تضع السينما- الفن في المقدمة، كي تتصدر المشهد الرائع، وتستقطب كل الأضواء، ويكون حديث الناس عن انبهارهم بها ، وبأعمالها " النيرة " في الدورة 39 
وعلى الرغم من الحادث الارهابي البشع الذي تعرضت له مصر وراح ضحيته أكثر من 300 قتيل وأكثر من مائة وعشرين جريح، ووفاة الفنانة الكبيرة شادية، ظلت السينما في المهرجان واقفة وثابتة ولاتتزعزع في المهرجان السينمائي العريق، لتجعل من الدورة 39 دورة " السينما في الصدارة " وعن جدارة
الأفلام نجوم الدورة 39
برزت في الدورة 39 مجموعة كبيرة من الأفلام بمعالجات فنية وسينمائية باهرة ومتميزة، وبخاصة في المسابقة الرسمية للمهرجان وأبرزها في رأينا وأعضاء لجنة تحكيم النقاد الدوليين فيلم " قتل عيسي " للمخرجة كلاورا مورا( من مواليد 1981 ) من كولومبيا التي اخرجت عدة افلام وثائقية ثم أخرجت الى جوار المخرج الكولومبي الشهير كارلوس مورينو اكثر من 35 حلقة من المسلسل التلفزيوني الشهير " بابلو إسكوبار. سيد المخدرات " عام 1912 عن حياة رجل المخدرات السفاح سييء السمعة واسود السيرة وفيلمها " قتل عيسى " هو فيلمها الروائي الطويل الاول
وكان فيلم " قتل عيسى " كما ارتأت لجنة تحكيم النقاد الدوليين المحترفين،هو أحسن فيلم في المهرجان وعلى عدة مستويات بسبب القضية التي يطرحها ،وبسبب اشتغالاته السينمائية الفنية على ابراز تلك القضية، وبنفس سينمائي أصيل. "قتل عيسى" هو العمل الأول لمخرجته من كولومبيا وعالم مدينة "ميديلين" التي يتحكم فيها تجار المخدرات وحيث تتحول الشوارع الى ساحات مفتوحة للقتل، واذا خرجت فيه الى الشارع فيمكن أن تموت في أي لحظة، وتقع عملية اغتيال أستاذ فلسفة في الجامعة يحكي عن الفيلسوف الفرنسي في إحدى حصصه، فيذكرأن فوكو أنه كان يحث الأفراد على " التمرد" والسؤال في المجتمعات الجديدة، وعلى الحكومات أن تستجيب وترد. وهكذا تدور عجلة التاريخ، ويستمر الجدل..
منذ أول مشهد في فيلم " قتل عيسى " توتر متصاعد يحيل الفيلم الى نوع من الأفلام البوليسية المشوقة، وقد لعبت مخرجته هنا على عنصر التشويق، ورغبتنا في معرفة الفاعل، من إرتكب جريمة اغتيال ذاك المثقف الوطني ، وماهي مصلحته في اغتياله وإخراس لسانه والى الأبد 
يطرح فيلم " قتل عيسى " من خلال بحث " باولا " إبنة ذلك الأستاذ الجامعي عمن قتله وأسباب إغتياله، و رغبتها في أن تثأر لأبيها، موضوع " العدالة "، كمايثير عدة تساؤلات اخلاقية بشأن الحكم على ،أو النظرة التي ننظر بها الى "ضحايا "تلك المجتمعات التي يتحكم فيها السادة رجال السياسة ،وقطاع الطرق، وتجار المخدرات والسلاح، أو ليس هؤلاء هم ضحايا مجتمعات الجريمة المنظمة، المتواطئة مع رجال الشرطة والأنظمة الاستبدادية القمعية من صنع السي آي إيه والمخابرات، في بعض دول أمريكا اللاتينية ؟ يسأل الفيلم
باولا تشهد مقتل أبيها أستاذ العلوم السياسية وتلقي نظرة سريعة على وجه القاتل، وتواجه مع عائلتها جهل وعدم كفاءة الوكالات الحكومية التي لم تظهر أي إهتمام بالتحقيق في القضية، فيدركون سريعا إنهم ليسوا سوى مجرد رقم في قائمة طويلة للضحايا في كولومبيا، وبع أشهر قليلة من واقعة الاغتيال تواجه باولا بالصدفة شابا صغيرا يدعي "يسوع " – ولا حظ هنا الإيحاء في إسمه ليسوع بن مريم المسيح الذي صلب، وتعتقد باولا أنه قاتل ابيها، فتقرر أن تقترب منه أكثر لكي تتعرف عليه وعلى العالم السفلي تحت الارض الذي أنجبه ووضع في يده المدفع الرشاش الذي قتل به الأب ،ولتكون قادرة على تخطي " الحاجز الأخلاقي " وتقتله..ا
ومن خلال رغبة تلك الفتاة التي شاهدت القاتل المأجور يغتال والدها أمامها، رغبتها في أن تثأر لأبيها ، لا تحكي المخرجة من كولومبيا فقط عن العدالة في فيلمها ، بل تقدم أيضا تشريحا لمدينة
، وتهبط بنا تحت الأرض في الميديلن الى الجحيم، وتدلف الى أحياء البؤس وتختلط بأهلها وسكانها من القتلة والعاطلين عن العمل، والعنف المميت الذي يلطمك به الفيلم في كل لحظة
وتتابع أحداث الفيلم في توتر متصاعد عندما تكتشف الإبنة ان الهيئة القضائية لاتريد
التحقيق في مثل تلك حوادث اغتيال ابدا، لأن السؤال سوف يظل دوما مطروحا ولن نجد له ابدا إجابة ، ولن تأتي أبدا إجابة من فوق ، لأن رأس الفساد فوق في السلطة السياسية ولن يكون إلا من تدبيرها لحماية مصالحها السياسية..
ثم يثير الفيلم بعد ذلك عدة تساؤلات اخلاقية – هل ينفع أن نثأر لأنفسنا وأن نضع أنفسنا
في محل العدالة ؟ وأية عدالة هذه التي لا تنصف المظلومين ! أيمكن أن نسميها عدالة
غير ان قيمة فيلم " قتل عيسى "التي وضعته فنيا ودراميا على قمة الأفلام التي شاركت في مسابقة المهرجان الرسمية للدورة 39، تكمن في شمولية سؤاله الفلسفي المعرفي وقيمة البحث عن معاني العدالة والحرية ، ونجاحه في أن يعلي من قيمة " البحث " واستقطاب تعاطفنا الى سكان العشوائيات هناك أيضا في الميديلين ، وطرح التساؤلات دوما على حكوماتنا ، والسلطات التي تحكمنا ، ليس فقط في الميديلين كولومبيا، ولكن في كل بقعة من الأرض..
فليس هناك أفضل لضحايا تلك المجتمعات من الفقراء والشباب الضائع ، المهمش العاطل عن العمل، والذي ينحرف باتجاه الجريمة ،من أن تنتقم ضحايهم منهم، قبل أن يخلص عليهم الأشرار من تجار المخدرات، واللصوص والمجرمين ،وعصابات المافيا المنظة، لأنهم مثل " قتل عيسي" ويصلبون معه في كل يوم
يجمع الفيلم بين اسلوبين : اسلوب الفيلم البوليسي المشوق بتوتر متصاعد كما في أفلام ملك الرعب البريطاني ألفريد هيتشكوك ، فيشدك الى مقعدك ويحبس أنفاسك طوال الفيلم، وأسلوب الأفلام الوثائقية التي يصنعها روبرت كرامر وفردريك وايزمان في امريكا وآنياس فاردا المخرجة الفرنسية في بعض أعمالها،وهي أفلام تلطمك بواقعيتها،وتصدمك كما في مبارة ملاكمة، وتتميز بايقاعها اللاهث السريع، كما في إيقاع " أفلام الحركة " والمطاردات، وتنطلق بنا كسهم، الى داخل تلك الأحياء المغلقة، والداخل اليها مفقود والخارج منها مولود، وتفتح لنا أبواب العنف والجحيم والموت على الرصيف في الشارع،، لكي تطرح في النهاية سؤالا فلسفياعن معني الحياة التي نعيشها الآن، ومتى يتوقف قتل عيسى وصلبه في شخص ضحايا مجتمعات النظام العالمي الجديد ؟ .
يا أيتها القيم والفضائل النبيلة التي يفاخر بها الإنسان ساعدينا..
صلاح هاشم
كاتب وناقد سينمائي. عضو "لجنة تحكيم النقاد الدوليين الفيبريسي" في الدورة 39

ليست هناك تعليقات: