الجمعة، ديسمبر 02، 2016

ابحاث حال النقد السينمائي. ورقة الناقد عصام زكريا


أبحاث حال النقد السينمائي
في العالم العربي 

ورقة الناقد عصام زكريا . مصر

النقد السينمائي في العالم:
بعد المؤلف والقارىء...هل مات الناقد أيضا؟
عصام زكريا

مقدمة غير مهمة...لا بد منها
ما الذي يمكن قوله اليوم؟ ولمن؟ ولماذا؟
هذه هي الأسئلة التي بات على أي ناقد سينمائي جاد أن يتوقف ليوجهها إلى نفسه اليوم.
في عالم ما بعد بعد الحداثة، حيث مات المؤلف وماتت السينما ومات الجمهور، ما الذي يفعله النقاد هنا، غير أنهم مستمرون في كتابة مقالات لا يقرأها أحد ولا يرغب في وجودها أحد، لا الصناعة السينمائية ولا المؤسسات السياسية والاجتماعية ولا القراء الذين تتوسل إليهم هذه الكتابات؟
ما الذي يفعلونه غير الاستمرار في ممارسة مهنتهم سعيا وراء كسب الرزق أكل العيش والسفر إلى المهرجانات ومصاحبة النجوم والنجمات أو على أفضل تقدير من أجل المتعة الشخصية الناتجة عن التواصل مع أصدقاءهم وزملاءهم من محبي فن السينما؟
ما الذي يفعله الناقد السينمائي في بلد نام، نائم، تنهار فيه معالم السياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة، حيث يتحول البشر إلى طفيليات تعيش يوما بيوم على فتات ما يصل إليهم من رأسمالية تابعة، معاقة، قابعة أسفل سلم الحضارة لا تستطيع النهوض من كبوتها المزمنة؟
الناقد السينمائي في مثل هذا البلد كائن غير مرغوب فيه، لا من السلطة، ولا الصحيفة أو المحطة التي يعمل فيها، ولا من القائمين على صناعة السينما، ولا القراء الذين يتوسل إليهم بكتاباته، إلا إذا كان انتهازيا يسعى إلى كسب رضاء وود كل هؤلاء.
كيف للناقد الجاد، الذي يؤمن بمهنته، أن يجد طريقه في عالم اليوم، خاصة إذا كان يعيش في بلد متخلف عن ركب الحضارة، في ظروف غير مواتية بشكل مضاعف، مثل مصر؟
هل يمكن أن يعثر على صوته وجمهوره ودوره المقدر له أن يلعبه؟
ما الذي ينبغي عليه أن يقوله، ولمن وكيف؟
بداية النقد...ونهايته
منذ حوالي ثمانين عاما كتب الشاعر والمنظر الأدبي الانجليزي الكبير ت. س. اليوت في كتابه المرجعي "نفع الشعر ونفع النقد":
"يمكننا بصفة عامة أن نفصل النقد منذ البداية لا حسب أنواعه بل حسب اتجاهاته وهي اثنتان. فالنقد هو ذلك المجال الفكري الذي يهدف إما إلى تحديد ما هية الشعر وفوائده والرغبات التي يشبعها ولماذا يكتب أو يقرأ أو يسمع. وإما يفترض ( واعيا أو دون وعي) أننا ندرك هذه الأشياء جميعها فيقبل على تقييم الشعر الحقيقي. وقد يتناول النقد الجيد أمورا أخرى سوى هذه ولكن هذه هي التي يسمح له بها. فالنقد بطبيعة الحال لا يكتشف أبدا ما هو الشعر بمعنى تحديد تعريف كامل له. كما لا يمكن أن يصل النقد إلى تقييم نهائي للشعر مهما كان. ولكن هناك حدين من الوجهة النظرية للنقد، نحاول بالنسبة لأولهما أن نجيب على السؤال "ما هو الشعر؟" ونحاول بالنسبة للآخر الإجابة على "هل هذه قصيدة جيدة؟"
 ) نفع الشعر ونفع النقد the use of poetry and the use of criticism، ص6 عن ترجمة د. محمد عناني في كتابه "النقد التحليلي"، مكتبة الأنجلو، تاريخ النشر غير محدد).
لا مجال هنا لاستعراض تاريخ مهنة النقد والتطورات التي لحقت بها على مر العصور. يقال أن أرسطو، المولود عام 384 قبل الميلاد، هو أول ناقد فني في العالم قام بدراسة الآثار المسرحية والشعرية في عصره ووضع قواعد الدراما في كتابه "فن الشعر" المكتوب عام 335 قبل الميلاد.
"فن الشعر" كتاب ينتمي لفلسفة ونظرية الفن، عندما كان علم الجمال هو أحد المباحث الأساسية للفلسفة، بجانب البحث عن معاني الحقيقة والأخلاق، لكن النقد بمعناه الشائع الآن هو نشاط حديث، ولد مع نشأة وتفرع وتطور الفنون والعلوم الانسانية في الغرب الأوروبي تحديدا، منذ عصر النهضة في القرن الرابع عشر، وظل مرتبطا بالفلسفة، ولم يصبح مهنة مستقلة إلا في القرن التاسع عشر، مع الميل إلى التخصص العلمي وزيادة حركة النشر وظهور الصحافة ووسائل الاتصال الحديثة...وتجلت مهنة النقد كأفضل ما يكون في النقد الأدبي، حيث يعتمد كل من الأدب ( الشعر والمسرح والرواية والقصة ) ونقده على وسيط واحد هو اللغة، على عكس بقية الفنون مثل الموسيقى والتصوير والعمارة.
مع انتصاف القرن التاسع عشر توالى ظهور مذاهب وتيارات متعاقبة من الفنون، متزامنة مع نشأة الثورة الصناعية، ومتأثرة بالتغيرات السريعة المتلاحقة في البنى الاجتماعية والسياسية وأنماط الحياة والأفكار الفلسفية المصاحبة وتطور العلوم الطبيعية ونشأة العلوم الانسانية الحديثة مثل علم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والأنثروبولوجي وغيرها، مع ما كشفته هذه العلوم من معارف واختراعات وأفكار قلبت عقل البشر وطرق تفكيرهم ونظرتهم للعالم من حولهم ولأنفسهم وسط هذا العالم.
الاختراعات والاكتشافات العلمية ونشأة الصناعة وظهور المدن بمعناها الحديث تركت آثارها الهائلة على الفنون، وليس هدفي هنا العرض التاريخي ولكن التأكيد مرارا على العلاقة بين التغيرات، للأفضل أو للأسوأ، التي تحدث في مجتمع ما، تكنولوجيا واقتصاديا وسياسيا، وبين التغيرات التي تحدث في مجال الفنون على مستوى المضامين والأفكار والأساليب.
لقد تركت الاكتشافات العلمية الحديثة آثارها في كل أشكال الفنون وأشكال انتاجها واستهلاكها،  وسأكتفي بمثلين: اختراع المطبعة واختراع المصباح الكهربائي، وأترك للقارىء البحث عن التأثير الهائل لهذن الاختراعين فقط على الثقافة وأنماط الحياة بشكل عام.
دارون وفرويد وماركس...أباء النقد الحديث
في مجال النقد الذي نركز عليه هنا كان لظهور علم النفس الحديث على يد سيجموند فرويد وتلاميذه في الربع الأخير من القرن التاسع عشر تأثيرا مدويا على الطريقة التي يقرأ بها الشعر والأدب، والأهم من ذلك فكرة الاحتياج إلى "محلل" لقراءة النصوص مثل المحلل النفسي الذي يقرأ نفوس مرضاه. وقد اكتسب تعبير "المعنى في بطن الشاعر" القديم معان جديدة على رأسها فكرة أن العمل الفني له عقل ومعنى باطن يحتاج لمن يفك شفرته مثلما قام شامبليون بفك شفرة الكتابة الهيروغليفية فوق حجر رشيد.
نفس التأثير وأكبر أحدثته الفلسفة الماركسية وكتابات ماركس وانجلز ولينين التي فككت كل ما يصدر عن الفكر من آراء وابداعات وفنون باعتبارها تجليات لظروف المفكر أو المبدع الطبقية وموقفه من الصراع الطبقي وأشكال الظلم والاضطهاد في مجتمعه. ومنذ ذلك الحين أصبح تحليل الأعمال الفنية من منظور اجتماعي طبقي جزء لا ينفصل من نظريات النقد الفني المتعاقبة.
وقبل ماركس وفرويد كان اكتشاف عالم البيولوجي دارون لنظرية النشوء والارتقاء أثرا حاسما في طريقة النظر إلى المنتجات الفكرية والابداعية وأجناسها وأشكالها باعتبارها تجليات للطبيعة التي تسعى للتطور والارتقاء بشكل دائم. حتى طريقة دارون في تحليل الهياكل العظمية والهندسة الوراثية للنباتات والحيوانات وجدت معادلها في دراسة وتحليل الآثار الأدبية، خاصة ما يعرف بالأدب الشعوبي، الأنثروبولوجي.
شهدت بداية القرن العشرين، مع ظهور وارتقاء فن السينما، منافسة حادة بين المذاهب النقدية الثلاث التي استمدت أفكارها من علم الاحياء، وعلم النفس، والماركسية، وهذه المذاهب تجلت في المدرسة الشكلية، التي تعني بتحليل الأشكال والبنى والنماذج والوحدات، ومدرسة التحليل النفسي، التي تعني بتحليل المعاني والرغبات والمخاوف المكبوتة التي يتضمنها نص فني ما، والتحليل الاجتماعي للعمل الفني أو ما يعرف بمدرسة الواقعية الاجتماعية.
ومثلما كان القرن العشرون مليئا بالحروب السياسية الكبرى بين القوى الاستعمارية الأوروبية والشرقية التي حكمت جسم وعقل العالم لقرون، ثم بين النظامين الرأسمالي والشيوعي،  فقد كان أيضا قرن صراع المذاهب الفنية والنقدية الكبرى، مما يحتاج إلى دراسات مفصلة لبحث العلاقة بين هذه المذاهب والمجتمعات التي ظهرت فيها...ولكن يمكن تقسيم هذه المدارس النقدية إلى تصنيفين رئيسين: الأول هو المذاهب التي نشأت عن "الحداثة"، أي التي نبعت من تاريخ النهضة والتنوير والاكتشافات العلمية وهي مذاهب متفائلة بمستقبل البشر، تؤمن بوجود الحقائق وقدرة العقل على الوصول إليها كما تؤمن بقيمة وصلاح الانسان والتقدم و حركة التاريخ. أما الثانية فنابعة من اليأس من الاصلاح والعقل والانسانية، وهي ترى أنه لا يمكن العثور على الحقيقة، لأنها نسبية، أو لأنها غير موجودة أصلا.
نظرية النظريات
مزيج من المؤثرات الاجتماعية والثقافية على آثار المذاهب الفلسفية ، وما يعرف بالنظريات الكبرى للحداثة التي انتقلت إلى الأدب، ومن ثم إلى السينما، ساهموا في ظهور عدد كبير من المدارس النقدية السينمائية في القرن العشرين. من أهم هذه المدارس:
النقد الاجتماعي
 أو "الواقعية الاجتماعية"، أو "الواقعية الاشتراكية"، وهو مذهب يحلل ويحكم على أي فيلم بمدى "صدقه" في التعبير عن الواقع، وقدرته على طرح الظواهر والقضايا الاجتماعية، مثل الفقر أو الاستغلال أو تفشي الفساد، خاصة عندما يكون صناع الفيلم، السيناريست والمخرج بشكل خاص، لديهم من الوعي والالتزام السياسي ما يؤهلهم لتبني موقف واضح، يساري النزعة غالبا. وعندما يتسلح الناقد ببعض الأفكار الماركسية في تحليل هذه الظواهر الاجتماعية من خلال نظرية الصراع الطبقي والحتمية التاريخية لانتصار الطبقة العاملة، يصبح هذا النقد الاجتماعي أداة للنضال والتعبئة والتحريض، ويصبح النموذج "الجمالي" الأعلى لهذا النقد هو الفيلم الذي يساهم في التوعية والتحريض والحث على النضال. وقد مر النقد الماركسي على مدار القرن العشرين بالكثير من المحطات والتطورات والتحالفات مع تيارات أخرى مثل البنيوية والنسوية وما بعد الكولونيالية التي تدرس مجتمعات ما بعد الاستعمار، كما تخفف كثيرا من "يساريته" وغلب النصف الأول منه "الواقعية" على النصف الثاني "الاشتراكية".
النقد الشكلي، أو السياقي
 ويطلق عليه في مجال السينما الفيلمولوجي باعتبار أنه يدرس الفيلم كظاهرة أو علم، وقد تأسس هذا النقد على يد المخرجين الروسيين مثل إيزنشتين وفيرتوف، ولكنه شهد الكثير من التطورات والتحولات على يد الشكلانيين الفرنسيين والأمريكيين . وتستمد هذه المدرسة أفكارها من علم الأحياء، ثم علم دراسة الشعوب، الأنثروبولوجي، كما ذكرت، خاصة تطبيقاته على يد باحث الفلكلور فلاديمير بروب في كتابه "فورمولوجيا الحكاية الشعبية"، وقد تطورت هذه المدرسة على يد كلود ليفي شتراوس عالم الأنثروبولوجي ومؤسس البنيوية، وعلى يد جوزيف كامبل عالم الأساطير. وقد تطورت على يد عالم الاجتماع دي سوسير مؤسس علم العلامات، السيميولوجيا.
 وإذا كان النقد الماركسي يهتم بالمضمون على حساب الشكل ويرفض التقنية، فإن النقد العلمي يركز على التقنية ولا يهتم بالمضمون إلا من خلال تقييم علاقة الاسلوب واللغة السينمائية بالتعبير عن هذا المضمون.  ومثلما يتعامل نقاد الأدب مع النص باعتباره حدث لغوي، فإن النقد السينمائي الشكلي يتعامل مع الفيلم كحدث سينمائي، يتكون من مجموعة من الصور والوحدات التي تربطها علاقات ظاهرة أو خفية عبارة عن شفرة أو لغة غير منطوقة بين المبدع والمتلقي، وذلك عن طريق التصوير والمونتاج وبقية العناصر السينمائية. ويمكن أن نجد نماذج بسيطة وجيدة من أعمال هذه المدرسة في كتاب مثل "خفايا نظام النجم الأمريكي"، تأليف بول وارن، المخصص بالكامل لدراسة لقطة رد الفعل، أو دراسة برايان هندرسون عن "اللقطة الطويلة" أو مقال ليفي شتراوس عن اللقطات المقربة لوجه جريتا جاربو!
النقد النفسي
أو التحليل النفسي للنص السينمائي. كان فرويد أول من تعامل مع منتجات ابداعية مثل مسرحيتي "أوديب" و"هاملت" أو أعمال ليوناردو دافنشي التشكيلية كما يتعامل مع "أحلام" و"تخييلات" مرضاه النفسيين. وهو أول من تعامل مع الأحلام باعتبارها تعبيرا "ابداعيا" عن ذات الحالم، أو الفنان، وأول من تعامل مع العمل الفني باعتباره حلما جماعيا، يعبر عن لا وعي الجماعة التي "تستهلكه". وقد تطورت أفكار فرويد على يد نخبة من تلاميذه الذين اختلفوا معه، ولكنهم احتفظوا بالمنهج والطريقة في التحليل، بداية من كارل يونج، وايريك فروم، وجاك لاكان...وصولا إلى مدرسة التحليل النفسي الجديدة والكثير من أعمال الناقدات النسويات.
النقد الأسطوري
أو نقد النماذج العليا archtypes وهو نوع مهم ومثير جدا من النقد غير معروف للأسف في العالم العربي، وإن كان هناك بعض الدراسات التي طبقت هذا المنهج في مجالي الأدب والشعر. ويستمد هذا المنهج جذوره من أبحاث علماء الأنثروبولوجي، مثل جيمس فريزر وليفي شتراوس، مع نظريات عالم النفس كارل يونج حول النماذج البدئية للاوعي، لدراسة المنتجات الثقافية باعتبارها تعبيرا عن مجموع الأساطير والنماذج الأسطورية البدئية التي تحكم عقل مجتمع ما، مثل أساطير الموت والبعث، أو نموذج المرأة غاوية الرجال، أو البطل المنتظر، ويرى أنصار هذه النظرية أن الأعمال الأدبية والفنية تتشابه وتتكامل عبر العصور والحضارات لترسم لوحة جدارية كبيرة لعقل الانسان وتصوراته عن العالم.
الاستغراب
على نقيض مذهب "الاستشراق" الذي ابتكره المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، يسعى النقد "الاستغرابي" إلى دراسة صور الغرب في عيون وفنون الشرقيين، وهو مذهب حديث نسبيا، ومهم جدا بالنسبة لنا، ولكن الأعمال التي ظهرت فيه في مجال علم الاجتماع والنقد الأدبي قليلة جدا، وشبه معدومة في مجال السينما، على حد علمي.
التحليل الثقافي
كل المدارس السابقة شهدت مراجعات وتطورات كما استفادت من بعضها البعض وامتزجت  في بوتقة واحدة حتى بات الناقد أو محلل الأعمال الفنية يستخدمها كأدوات دون تقديس أو تفضيل احداها على الأخرى، وهو ما يعرف بمدرسة التحليل الثقافي التي تتعامل مع المنتج الفني باعتباره حدثا "اجتماعيا"، وتهتم بدراسة رد فعل المتلقي والمعاني التي تتولد في ذهنه من العمل، ومن ثم تركيزها على الأعمال الجماهيرية، لا النخبوية. ونقاد أو باحثو هذه المدرسة يستخدمون أدوات من كل المدارس السابقة وغيرها، لدراسة المنتج الثقافي من كل جوانبه.
ما بعد الحداثة...وما بعدها
كما ذكرت شهد القرن العشرون منذ عقده الثاني عمليات هدم متتالية لأفكار الحداثة، يرجع بها البعض إلى أعمال الفيلسوف الألماني نيتشة في نهاية القرن التاسع عشر ومن أهم المدارس النقدية التي نشأت عن انهيار الحداثة مثل التفكيكية، ما بعد البنيوية، ما بعد الحداثة، والتي تتجلى في أعمال مفكرين مثل ميشيل فوكو، جي ديبور وجاك بودريار، ويحتاج الأخير منهم إلى وقفة خاصة لأنه يتحدث عن صلب المأزق الذي نعاني منه اليوم.
أبرز ما في "ما بعد الحداثة" هو تأكيدها على غياب الثبات عن معنى الأشياء، وبالرغم من أنها تنتقد، مثل الماركسية، آثار الحداثة الرأسمالية السلبية، وعبثية الحياة في المجتمع الاستهلاكي الراهن، إلا أنها تحتفي بهذه الحياة بشكل كوميدي ساخر، نزع عنه مرارة الملتزمين سياسيا، وهي تدرس تأثير مجتمع اليوم على مفاهيمنا عن الهوية والنوع الجنسي والطبقة الاجتماعية. وما بعد الحداثة تركز على الفنون "الجماهيرية" مثل الأغاني والسينما والمسلسلات وبرامج المسابقات وبرامج الواقع، وتعطي اهتماما بالغا بالصور، خاصة الصور المتحركة عبر شاشة التليفزيون والسينما.
وإذا كانت ما بعد البنيوية ترى أن الواقع بناء لغوي، ليس له أصل، فإن ما بعد الحداثة تهدم التصورات الحداثية عن الحقيقة والعقل والتقدم وترى أنها ابتداعات غربية ونتاج لنظرة محددة إلى ما يعد معقولا أو حقيقيا أو تقدميا، ولكنها ليست أفكارا كونية متعدية للتاريخ كما يرى الغرب. ( النظرية النقدية- آلن هاو).
وقد قام ديبور في كتابه "مجتمع الفرجة" وبودريارفي الكثير من أعماله  بدراسة المجتمع ما بعد الحداثي ووصفاه بأنه "مشهد" أو "فرجة" spectacle، وأن المجتمع الحديث هو مجتمع "مشهدي" يقوم على استهلاك السلع التي تخطف الأبصار.
رأى بودريار أن الحقبة التي تنطبق عليها المفاهيم الماركسية مثل "الاغتراب" و"الفيتشية السلعية" قد عبرت، وأننا غارقون في عالم ما بعد حداثي لم يعد فيه المشهد هو الوهم، بل الشىء الواقعي.
وعند بودريار، فإن النمو المتسارع في الاتصالات الجماهيرية، على هيئة التلفاز متعدد القنوات، عالمي النطاق، الذي يبث على مدار 24 ساعة والنمو المتسارع في تكنولوجيا المعلومات والانترنت، قد ولد حملا زائدا من المعلومات، أما الأثر المترتب على ذلك فيتمثل في نزع استقرار المعنى. ان هناك الكثير من صور الحقيقة، لدرجة الشك في فكرة وجود عالم واقعي يمكننا أن نعلم حقيقته. وبلغة ألسنية دي سوسور، فإن العلاقة المستقرة بين الدال والمدلول قد تحطمت. وأصبحنا نعيش في عالم تتوالد فيه الدوال حتى باتت "تعوم حرة". وقد بات الدال من هؤلاء قادرا على أن يقيم علاقات عابرة للحدود مع دوال أخرى.
وحتى نبسط هذه الفكرة هناك المثل الذي يضربه بودريار عن صورة مارلون براندو في فيلم "العراب" المعلقة على حائط  مطعم للأكلات الايطالية في جنوب انجلترا، باعتبارها "دالا" على الثقافة الايطالية!
وبحسب بودريار فإن الصور لم تعد مقيدة إلى أي شىء محدد أو نوعي في العالم الواقعي، بل باتت تتحرك هنا وهناك بسيولة، قافزة عبر حدود الواقع التقليدية.
ويضرب بعد الحداثيون نموذجا من برنامج تليفزيوني مثل "ستار أكاديمي" يأتون فيه بمغنيين هواة يتنافسون عن طريق تقليد الأغاني القديمة الشهيرة، حتى أن الجمهور لا يعلم في النهاية هل هو يصوت لواحد من هؤلاء الهواة، أم للمطرب القديم، وتتلاشى الحدود بين الأصل والصورة، فلا نعرف كيف نفرق بينهما.
إن رؤية بودريار الكابوسية تزداد قتامة كل يوم، وكلماته التي قيلت منذ ربع قرن تزداد انطباقا على الواقع، أو بمعنى أدق يزداد الواقع محاكاة لها كل يوم...في عصر حولت فيه وسائل الاعلام ووسائل الاتصال كل شىء إلى "واقع افتراضي" وصور متتابعة متناقضة في سيل لا ينقطع، انفجرت فيه المعاني وساد هيولي من الفوضى لا مهرب للناس منه سوى الانغماس أكثر فأكثر في هوس الاستهلاك. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية منذ ما يقرب من عشر سنوات، تزداد عبودية الانسان لرأس المال والآلة والصور التي تبثها وسائل الاعلام، بما فيها السينما السائدة.
لقد أفرزت ما بعد الحداثة تعريفات في النقد مثل موت المؤلف وموت القارىء، غالبا ما يقصد بها غياب المعنى عن النص وعدم قدرة الناقد أو القارىء على تقييم عمل ما، بما أنه لا يوجد اتفاق على ماهية الشعر أو السينما، أو قيمة هذا الشعر أو الفيلم.
ولكن إذا كان من غير الممكن للنقد أن يجيب عن سؤالي ت.س. اليوت: ما هي السينما؟ وما قيمة فيلم ما؟ فما الذي يبقى من النقد؟!
نقد النقد السينمائي
مع نشأة فن السينما في بداية القرن العشرين ظهر "النقد السينمائي" على يد رواد السينما الأوائل مثل ايزنشتين وجريرسون، تمثلت غايته الأولى في الإجابة على سؤال: هل السينما فن؟ وما هي طبيعة هذا الفن؟ ثم انتقل هذا النقد إلى السؤال الثاني عن هل هذا العمل أو ذاك فيلم جيد أم سيء ولماذا؟ ومع انتشار السينما وسحبها البساط من تحت أقدام سائر الفنون الجماهيرية الأخرى ظهرت "الصحافة السينمائية" المتخصصة كما أصبح من الطبيعي أن تخصص كل صحيفة مساحات ثابتة ومتحركة للكتابة عن السينما، ومعظم الصحف باتت تعتمد على صحفي "متخصص" في الشئون السينمائية أشبه بمحرر الرياضة أو الحوادث.
ومنذ ذلك الحين أصبح هناك لبس وخلط متعمد غالبا بين عدة مهن لا يربطها سوى أنها تقوم على "الكتابة عن الأفلام".
 أولها مهنة الناقد "الأكاديمي"، بحكم عمله كسينمائي أو مدرس للسينما أو باحث متخصص في التعريف بماهية السينما ومعاييرها الجمالية. وهذا النوع منه الناقد "النظري" الذي يبحث طبيعة وجماليات الوسيط بشكل عام، والناقد التطبيقي الذي يطبق نظرية أو طريقة تحليل ما على فيلم بعينه، أو مجموعة أفلام.
وثانيها مهنة كاتب المراجعات النقدية المتخصص في مشاهدة الأفلام الحديثة المعروضة للجمهور، وابداء رأيه فيها بشكل مختصر .
وثالثها المؤرخ السينمائي المهتم بالمعلومات حول الأفلام، وليس تقييمها أو تحليلها.
ورابعها "المخبر الصحفي" المكلف بجمع أخبار السينمائيين والأفلام، والذي يكتسب بمرور الوقت خبرة تمكنه من تقييم الأفلام وابداء رأيه فيها.
وخامسها الناقد الهاوي، الذي يكتب بشكل غير منتظم عن بعض الأفلام التي يشاهدها، ومن هؤلاء صحفيون وأدباء ومفكرون وأساتذة علم تاريخ أو اجتماع أو فلسفة وأيضا أطباء علم نفس أو أمراض تناسلية بل وسياسيون ولاعبو كرة قدم. وهذا النوع من النقاد لا يوجد له مثيل في أنواع النقد الأخرى في مجالات الشعر أو الرواية أو الموسيقى أو الفن التشكيلي...ذلك أن السينما بحكم جماهيريتها ولغتها المباشرة البسيطة وقدرة معظم الناس على استساغتها والاستمتاع بها، هي أكثر اغراء بمناقشتها وتقييمها وابداء الرأي فيها عن علم أو غير علم.
ومع اكتمال نمو الفن السينمائي ترسخ نوعان من نقد الأفلام، ظهر نوعان أساسيان من النقد السينمائي الأول ينظر إلى الفيلم كمنتج جماعي تتحكم في تحديد معناه ومستواه عدة أطراف على رأسها شركة الانتاج، ثم مؤلف السيناريو والممثلون النجوم والمخرج..إلخ، والثاني ينظر إلى الفيلم كعمل إبداعي فردي للمخرج، أو ما يعرف بنظرية المؤلف.
كان عام 1954 فاصلا في تاريخ النقد السينمائي.، فهو العام الذي قام فيه الناقد الفرنسي فرانسوا تروفو وزملاءه في مجلة "كاييه دي سينما" باختراع تعبير "نظرية المؤلف" film auteur، أو auteur theory، حين اعتبروا أن المخرج، من بين كل فريق العاملين في السينما، هو القوة المحركة وراء انتاج المعنى في الفيلم. وحتى لو كان المنتج هو القوة المحركة وراء انتاج الفيلم نفسه، فإن من يعطي للفيلم معناه ونوع التأثير الذي يحدثه هو المخرج.
والآن بعد أكثر من ستين عاما على نظرية "المؤلف" وظهور عشرات، وربما مئات من المخرجين المؤلفين، ممن نطلق عليهم "المخرج الكبير"، عالميا ومحليا، فإن الحقيقة الدامغة هي أن النسبة الغالبة الهائلة من المنتجات السينمائية في العالم تتحكم فيها قوى أخرى مثل المنتج الفني، الموزع، الرأي العام والمزاج العام السائد.
في مقال بعنوان "نحو نقد سينمائي جديد" ( موضوع بحثنا اليوم) يعرف ويلي أوسترويل Willie Osterweil  هذه القوة المحركة في العبارات التالية:
" إنها روح عصر zeitgeist مصنعة، ظرف طارئ مفتعل، يعززه ويديمه وابل من الاعلانات والمناقشات والكتابات النقدية حول فيلم ما بشكل يوحي بأن هذا الفيلم أو ذاك يعكس اللحظة الثقافية الآنية" أو ما يطلق عليه أوسترويل "الراهن السينمائي"  film current.
يتساءل أوسترويل:
"ما الذي يجعل أفلاما متوسطة القيمة، رجعية، مملة، بل غبية، جديرة بالمناقشة؟ إنه "الراهن السينمائي"، ما الذي يجعل أفلاما مثل "تصادم"، "جونو" و"مليونير الصفيح" تعامل على أنها مهمة، جديدة، بل وتخريبية؟ إنه "الراهن السينمائي"."
يناقش أوسترويل الوضع الانتاجي الحالي في هوليوود، حيث يذهب من ربع إلى ثلث الميزانية على التسويق، وهذه الأموال تنفق من أجل جعل الفيلم "يتواجد في كل مكان" ومن أجل ربطه بالقضايا الثقافية الراهنة. وفي الوقت الذي يتم فيه التغطية على ضعف مستوى فيلم ما، يتم دعوة النقاد لاعتباره نافذة على الحالة النفسية للشعب الأمريكي، واعتبار أنفسهم ثاقبي البصيرة لأنهم اكتشفوا ذلك!
يصف أوسترويل هذا "الراهن السينمائي" بأنه "حالة من الإثارة يسيطر عليها شعوران هما الأمل والإحباط. الأمل في نزول فيلم جديد نشاهده ونناقشه، والإحباط من مستوى هذا الفيلم الذي شاهدناه وناقشناه أو لم نشاهده بعد."
المشكلة بالنسبة للناقد هو أنه لا يستطيع غالبا الخروج من هذه الدائرة الجهنمية، التي يشارك فيها حتى وهو يحاول الخروج منها بنقد أو كشف خواء عمل ما أصبح حديث الناس ووسائل الاعلام، ومهما برهن الناقد على أن هذا العمل رجعي أو متواضع فنيا فسوف يظل رأيه بلا جدوى، لأن هناك أصوات سترد عليه دائما بمقولات محفوظة من نوعية أن الفن أذواق، وأن تنوع الآراء سمة من سمات الديموقراطية..إلى آخره!
الأمر نفسه ينطبق على النظرة للمخرج باعتباره مبدع و"فنان" الفيلم، وهي نظرة  خاضعة أيضا لـ"الراهن السينمائي" الذي تحدده اعتبارات كثيرة.
 من هذه الاعتبارات أن نظرية المؤلف طبقت على أعمال مخرجين مثل هيتشكوك وهوارد هوكس وفلليني الذين كانوا يعملون مع فريق عمل لا يتجاوز 15 شخصا. أما الآن فيشارك عشرات البشر في صنع فيلم يستغرق العمل فيه ثلاث سنوات أو أكثر.
الحقيقة أن صاحب المال لا يزال يتحكم في السينما، حتى في الفيلم الفني، لأن أسطورة "المخرج المؤلف" لها جمهورها أيضا، والمنتج يرحب بها طالما أن هذا المخرج له جمهور وأفلامه تباع لهذا الجمهور، مهما كان محدودا، أو مختلفا ( حيث توجد أفلام تعتمد في ميزانيتها وايراداتها على الأسواق الخارجية، وصناديق الدعم، والمهرجانات، ومحطات التليفزيون..إلخ) ، ولكن بمجرد أن يفقد هذا الفنان جمهوره، فلن يحصل على تمويل فيلم آخر...والأمثلة حولنا كثيرة على مخرجين مؤلفين توقفوا بعد صنع فيلم واحد أو عدة أفلام، والبعض الآخر يضطر إلى صنع فيلم كل عشر أو خمسة عشر عاما.
يرى أوسترويل ان تمجيد النقاد لشخص واحد هو المخرج في فيلم يعمل به 300 شخص يعانون من الاغتراب عن العمل الذي يمارسونه ليس احتفاءا بفن السينما ولكن بالمديرين. وهو يطالب النقاد بالتوقف عن الاستمرار في هذه الخدعة والتعامل مع أفلام الانتاج الضخم  كمنتج جماعي.
يكتب أوسترويل: "احذف تعبير "الرؤية الابداعية" من المعادلة، وسوف تتضح أمامك الأجندة الايديولوجية لأي فيلم بشكل أوضح. إن تعامل النقاد مع أي فيلم باعتباره عمل فني محتمل هو أمر غير منطقي لأن الكثير من هذه الأفلام مجرد سلع استهلاكية معلبة".
إن التعامل النقدي مع فيلم ما من منظور تاريخي اجتماعي ووضعه في سياق النوع الفني الذي ينتمي إليه أو اسم مخرجه أو بطله الرئيسي يجعل الناقد يغفل عن رغبات وأهداف المحرك الأساسي وراء الفيلم وهو الصناعة. هذه الصناعة التي تجعل من كل فيلم سلعة. إن التعامل مع أي فيلم باعتباره مرآة للمجتمع، حسب رأي أوسترويل، انما هو "امتثال للعبة التسويق، وامتهان للفن."
البحث عن نقد
...ولكن ما هو البديل؟ ما هو النقد السينمائي الجديد الذي يطرحه أوسترويل في نهاية مقاله؟ لا شىء، سوى الاحتفاء بمستقبل يصبح بإمكان كل شخص فيه أن يصنع فيلمه الخاص ويبثه عبر الانترنت، وسيصبح بإمكان كل ناقد أن يكتب عن أي فيلم. مستقبل لا يحتاج فيه المشاهد إلى وسيط  خبير"يشرح" له التجربة الجمالية للفيلم، وانما يعتمد على نفسه فقط. مستقبل تتوه فيه المعالم بين المبدع والناقد والمتلقي، نموذجه الحالي في رأي أوسترويل هو "اليوتيوب"!
هذا القفز الحماسي في المجهول لا يجيب عن السؤالين الأساسيين لوظيفة النقد: ما هي السينما؟ وكيف نحدد الجيد من الردىء؟
 هل تختفي السينما التي نعرفها وتظهر سينمات أخرى تناسب عالم اليوتيوب والأفلام يدوية الصنع؟
وعندما يختفي النقاد، هل ستختفي المهنة؟ هل يتوقف الناس عن مناقشة الأفلام وتحليلها وتقييمها، وينشىء كل قاريء، كما نرى اليوم، مدونة يكتب فيها عن الأفلام التي يراها؟
عندها سنصل إلى درجة الصفر أو الهيولي المعرفي، ويبدأ تاريخ آخر تظهر فيه أنواع جديدة من الفنون ويأتي أرسطو آخر ليعرفها ويضع قواعدها وهلم جرا.
ما أستشعره من الآراء الحديثة المطروحة هنا وهناك، أننا نشهد نهاية العالم، وأن هناك عالما جديدا على وشك البدء...ولكن للأسف هذا الشعور زائف ومن يقرأ تاريخ الفلسفة والفنون يعرف أنه شعور متكرر طالما سيطر على الفنانين والمفكرين في عصور التحول، من جلجامش إلى صمويل بيكيت مرورا بشكسبير.
 العالم كما نعرفه قد تغير، ويتغير، وسوف يتغير، هذه طبيعة الأشياء، والمهم هو أن ندرك المحطة التي نقف فيها بالتحديد، حتى نحدد اتجاهنا ونعرف إلى أين نتوجه.
ما أطرحه هنا هو مشروع لنقد النقد نفسه، وليس السينما. مشروع حافزه الأساسي هو تطوير حاسة وعقل النقد في مجتمع يمارس كل شىء إلا النقد الذاتي لنفسه. مشروع يستغل حالة "السيولة" والوفرة المعلوماتية الهائلة المتوفرة حاليا، يشارك فيها شباب الكتابة على الانترنت قبل غيرهم، وهو مشروع يتكون من ثلاث خطوات:
الأولى
قراءة منظمة ومتعمقة للتراث النقدي العالمي، تشمل الترجمة، ومراجعة الترجمة، والتعريف بأهم المذاهب النقدية وأعلامها، والدراسات والمقالات المحورية التطبيقية في كل مذهب وتيار، واجراء "حوار" ممتد حول هذه المذاهب يشمل نقدها هي أيضا.
الثانية
اعادة قراءة تراث النقد السينمائي العربي قراءة نقدية صارمة، حتى لو كانت قاسية، وتخليصه من الغث، وهو كثير، وجمع السمين منه واعادة تنظيمه وترتيبه بحثا عن السمات التي تميزه والتي يمكن أن تشكل نواة لمذهب نقدي خاص.
الثالثة
الكتابة التطبيقية حول كل أنواع الأفلام مستخدمين ما يصلح لدراستها من هذه المذاهب، خاصة وأن لدينا تراث غني من أفلام السينما المصرية، وإثارة نقاش حول هذه الكتابات التطبيقية من وجهة نظر المدارس التي تنتمي إليها، وليس من زاوية مدى جودتها كمراجعات نقدية صحفية.

ليست هناك تعليقات: