مهرجان " كان " السينمائي . الدورة 69
فيلم " إبق واقفا " للفرنسي ألان جيرودي يسأل : هل يمكن أن يتصالح البشر مع الذئاب ؟
بقلم
صلاح هاشم مصطفى
من أجمل وأهم الأفلام المشاركة في مسابقة مهرجان " كان "
السينمائي في دورته 69 من ضمن 21 فيلما، فيلم " إبق عموديا " أو " إبق واقفا " للمخرج
الفرنسي آلان جيرودي وهو فيلمه الروائي الخامس، وأعتبره بالنسبة لي " مفاجأة
" من مفاجآت المهرجان المثيرة في دورته 69 ونحن مازلنا بعد على عتبة المسابقة.فقد أعجبني الفيلم كثيرا
جدا، بسبب أفكاره وإشتغالاته الفنية، وقلب كل
أفكاري المسبقة وتوقعاتي رأسا على عقب، وبخاصة بشأن السينما الفرنسيةالتي
كثيرا مانظلمها حين نطلق عليها أحكاما و "تعميمات"من عندنا، بسبب وفرة
الإنتاج الفرنسي الذي يصل الى أكثر من 100 فيلم في السنة، وتصدّر السينما الفرنسية
في المركز الثالث قائمة أكثر الدول المنتجة والمصدرة للأفلام في العالم..
خارج
دائرة الإنتاج الفرنسي التجاري " الإستهلاكي "
وكان الفيلم RESTER VERTICAL قد افتتح قسم " المسابقة
الرسمية" وافلامها التي تستقطب الأضواء أكثر من أي قسم آخر وعرض يوم 12 مايو
في المهرجان، وقد تحمست له كثيرا، وأعتقد أنه سينال حتما جائزة من جوائز المهرجان
الكبرى، بل لقد رشحه بعض النقاد الفرنسيين مبكرا جدا للحصول على " سعفة كان
الذهبية " وحتى قبل أن تعرض في المسابقة الرسمية بعد أفلام المخرجين الكبار..
وكنت انا أيضا أظن، من ضمن الأحكام
و" التعميمات " التي تطلق بشأن
السينما الفرنسية أن فيلم إبق عموديا
سيكون مثله مثل أغلب الأفلام الفرنسية التجارية " الثرثارة جدا "التي
تناقش مشاكل " فردية " خاصة جدا، ولا علاقة لها بالواقع الذي نعيشه في
فرنسا وهمومه ومشاكله التي تصدمنا..
وتجعلنا نتساءل ومع كل فيلم : ..حسنا ..وماذا
بعد.. وما دخلنا.؟!. إن تلك أمور شخصية يعالجها الفيلم لاتهمنا ولاتعنينا على
الإطلاق. ، ونشد في شعرنا ..
ثم نروح نلعن تلك الأفلام التجارية
السطحية الإستهلاكية التافهة التي تقصفنا
بها السينما الفرنسية في كل وقت..وفي أغلب إنتاجاتها، وذلك بسبب استغراق السينما
الفرنسية- وأكرر هنا في أغلب أفلامها - بمشاكل " وجودية "و "
شخصانية " و " حميمية " لكن يبدو أن ذلك " التفكير المسبق " و قبل مشاهدة فيلم
RESTER VERTICALE وتقييمه والحكم عليه قد كان مفيدا
جدا، فقد ضاعف بعد مشاهدته من فرحتي ومتعتي
الكبيرة به وبإكتشاف مخرج فرنسي جد متميز ..وفيلم بديع..
وجوه وشخصيات غائبة
في السينما الفرنسية
تتوقف سيارة في اول لقطة في فيلم
" إبق عموديا "في قلب الريف الفرنسي ويتجه سائقها بطل الفيلم ويدعى ليو
" الى شاب فرنسي جميل في العشرين من عمره يقف على ناصية الطريق، ويسأله إن
كان يحب أن يمثل في السينما، وأن يقبل بإجراء إختبار تمثيل له لتقديمه كـ "
وجه جديد "من ضمن الوجوه الجديدة التي لاتكشف عنها السينما الفرنسية عموما في
أفلامها،،لكن الفتي يرفض عرض ليو ويرفض
العمل بالسينما ..
ومنذ أول مشهد في الفيلم يحسب لفيلم
إبق عموديا انه سيقدم لنا من خلال قصة الفيلم التي يحكيها لنا، وجوها جد غائبة عن
أفلام السينما الفرنسية التجارية التي يضلع ببطولتها النجوم الذين تتوافر فيهم
صفات الجمال والشباب والوجه الحسن، وأدعوك هنا لتأمل وجوه ابطال الفيلم في الصورة
المرفقة لتكتشف انها لوجوه لأناس فرنسيين
عاديين، وليس لوجوه نجوم معروفين من امثال دينوف وديلون وبلموندو، وهي يقينا حسنة
لاجدال من حسنات الفيلم البديع
ونكتشف بعد المشهد الاول في الفيلم أن
" ليو " بطل الفيلم لابد أن يكون كاتب سيناريو حيث يهاتف شخصا على الطرف
الاخر من الهاتف ،ويطلب سلفة للانتهاء من كتابة سيناريو فيلم ما، ثم نتبين انه قد
ترك متاعه عند اصدقائه وهجر مسكنه، وقرر ان يقوم برحلة بسيارته في قلب الريف
الفرنسي، عله يكتشف معنى لحياته و يجد إجابات على التساؤلات التي يطرحها على نفسه،
وهي بطبيعة الحال ذات التساؤلات الوجودية والفلسفية المهمة التي يطرحها مخرج
الفيلم ألان جيرودي علينا ايضا..
وفي قلب الطبيعة الفرنسية الجبلية
الساحرة والسهول الريفية الخضراء الممتدة
الى لانهاية يتوقف " ليو " ليلتقط أنفاسه، و ليتأمل في المنظر الطبيعي
الخلاب - الذي يمثل في الفيم بحضوره "
شخصية" من شخصيات الفيلم – حسنة اخرى من حسنات الفيلم وفضائله الجمة - وفي
مواجهة حياة المدن التي تظهر بعد ذلك في الفيلم ،..
ويتعرف الشاب " ليو " كاتب
السيناريو على راعية أغنام، ويدور بينهما حوار في قلب الطبيعة الفرنسية الرائعة ،
يدور حول الهجمات المرعبة التي تقوم بها الذئاب على الأغنام وتفتك بها، وضرورة
التخلص من الذئاب بأي ثمن ، حتى لو كان ضد
السياسات الفرنسية التي تعمل بها الحكومة للحفاظ على الذئاب، رغم الخسارة المادية
الجسيمة التي يتكبدها الرعاة في فرنسا وتكاد أن تضع نهاية لتلك المهنة..وفي حين
تؤكد " ماري " راعية الأغنام لليو أنه من المحال أن يتصالح البشر
والذئاب، وأنه لايمكن التعايش بين الذئاب والغنم ..
يذهب ليو الى أنه لابد من تشديد
الرقابة فقط على الذئاب بدلا من الفتك بهم والقضاء على النوع، ثم أن " ماري
" تدعو ليو الى بيتها وتعرفه بولديها اللذين تعيش معهما بمفردها وبوالدها المزارع، وتطلب منه أن يتوقف لفترة في
رحلته عندها في قلب ذلك الريف الفرنسي الساحر البعيد عن دخان المدن
وضجيجها وصخبها، وقبل أن يستأنف رحلته في أقاليم فرنسا..
وتكون نتيجة قصة الحب التي تنشأ بين
ليو وماري أن تحبل ماري وتنجب طفلا جميلا
لليو، ومن اجمل مشاهد الفيلم - الصادمة ؟
- التي لاتنسى مشهد إخراج الطفل من بطن
امه في الفيلم - غير أن ماري التي تعاني من إنهيار عصبي وتقع بالفعل في غرام ليو
لاتستطيع ان تمنح ليو كل ثقتها بسبب حركته وتجواله وشعوره بعدم الاستقرار، لذلك
تقررأن تهجره لكي يربي طفله وحده
غربتنا في العالم
غربتنا في العالم
وهنا تبدأ مرحلة جديدة في الفيلم، نتعرف خلالها على المصاعب والمشاق التي يتعرض لهو ليو
مع طفله، ونخشي بالطبع ونخاف على مصير الطفل في صحبة هذا الاب الصعلوك المتشرد
التائه، ونتساءل ، هل سيستطيع ليو " المفلس "، بعد أن هجرته ماري أن
يربي طفلهما وحده ؟ كما نتعرف أيضا من خلال تطور احداث الفيلم - التي تتطور أيضا خطوة خطوة مع تطور كتابة ليو
للسيناريو الذي وعد بالانتهاء منه وإرساله للمنتج - نتعرف على بعض الشخصيات الاخري
التي تظهر مع تطور أحداث الفيلم..
ومن ضمنها شخصية والد ماري المزارع الذي يريد أن
يضاجع ليو ، وشخصية الرجل العجوز الذي يعيش وحده ايضا في بيت كبيرمن دون زوجة او إمرأة، ويروح يستمتع
بنور الشمس في الخارج وهو يستمع الى موسيقى فرقة " بنك فلويد " كما
نتعرف أيضا على الطبيبة أو المربية التي تسكن كوخا في قلب المستنقعات ويتوجه اليها
ليو بصحبة طفله في قارب ليطلب مساعدتها فهو أيضا مثل طفله " حالة " وبحاجة الى علاج طبيعي..
التعايش بين البشر والوحوش والحمل
والذئب
فيلم " إبق عموديا "هو فيلم
ساحر، وأقرب مايكون الى استكشاف لـ " حالات " و " شخصيات "
غريبة، تذكرك بشخصيات المخرج الأمريكي الكبير دافيد لينش وبخاصة في فيلمه الأثير
" مولهولاند درايف " وبـ " نفس " مغناطيسي منوم ، وبإيقاع " هامس – السينما
عموما تكره التصريح والثرثرة العقيمة والمبالغات الميلودرامية الفجة والخطاب الزاعق
- وكما في حكايات الأساطير القديمة والكتب
الدينية المقدسة، و هو مصنوع بـ"
بصمة " إخراجية مميزة لمخرج سوف يكون
له شأن كبير في السينما الفرنسية، لو ظل محافظا على اسلوبه السينمائي وبكل
اختراعات الفن المدهشة..
حيث أن " إبق عموديا "
يعالج عدة ثيمات أو موضوعات من ضمنها موضوع "الجنس " في حياتنا، وموضوع الوحدة،
وحدتنا في هذا العالم ، وقدرتنا على التعايش مع الذئاب – موضوع "الوحش "
ذئبا كان أو تنينا في القصص الخرافية- وبكل مافي الموضوع من " إسقاطات سياسية
" في قلب مجتمعاتنا، و كذلك المقارنة التي يعقدها الفيلم بين حياة الريف
وحياة المدن..
كما يطرح الفيلم،وهو ينتقل ببراعة بين مشاهد من
الواقع ومشاهد أخرى من الكوابيس والأحلام، يطرح عدة تساؤلات فلسفية مهمة ومن دون رغي أو سفسطة من ضمنها :هل من حق الرجل أن يطلب من إمرأة أن
تمنحه طفلا لكي يقوم وحده بتربيته وتحمل مسئوليته في غياب الأم؟ وهل من حق الإنسان
ان يساعد إنسانا آخر ويعاونه على الإنتحار حتى لو تطلب الأمر مضاجعته وهو يلفظ
انفاسه الأخيرة ..وحتى لو كانت بعض مشاهد الفيلم ستكون صادمة للبعض ؟..
غير أن اهم تلك التساؤلات
الضرورية المهمة والملحة التي يطرحها علينا
الفيلم هو : ترى هل يمكن ان يتصالح البشر يوما مع الذئاب ؟.. كيف للذئب أن يتعايش
مع الحمل ، والقوي مع الضعيف، والخير مع الشر، والجزّار مع الضحية ؟
والأكثر والابعد من ذلك : كيف نستطيع نحن البشر
أن نتصالح مع ذلك " الوحش" الذي يسكن أيضا داخلنا ؟. .
وفقط في المشهد الاخير من الفيلم -
الذي نرشحه للحصول على جائزة من جوائز المهرجان-
نتعلم في مواجهة قطيع من الذئاب التي يقف امامها ليو وهو يحمل طفله والاب
المزارع في قلب الطبيعة. نتعلم كيف نستطيع
أن نواجه خطر الموت المدحق بنا ..وننجو من بطش الوحوش الكاسرة، ونجد إجابة
على ذاك التساؤل الذي يفتح سكة ربما .. لعوالم
" اليوتوبيا " المفقودة..
صلاح هاشم مصطفى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق