مختارات سينما إيزيس
طرف من خبر النطاعة
الدعاة
يكتسبون أكل عيشهم من افتعال النطاعة والتلصص على الناس والانشغال
بالآخرين وتحديد من تشملهم رحمة الله ومن يمسهم عذابه، أما هم فيأمنون مكر
الله.
بقلم
سعد القرش
روائي مصري
روائي مصري
أستعير هذا العنوان من الكاتب المصري عبدالحكيم قاسم (1934 –
1990) صاحب رواية “طرف من خبر الآخرة”، وأنصح نفسي ألا أصدق صراخ “الدعاة”
نجوم الفضائيات وهم “ينهوْن عن المنكر”، ويتباكون على ما يرونه “فسادا في
الأرض”؛ فهم يبحثون عن هذه الأوهام، يتقصّونها وينقّبون عنها، لكي يقنعوا
جماهير المستهلكين بأنهم الأفضل، وأن الله جنّبهم هذه “المعاصي”، وعصمهم
بفضل شيوخ أتقياء لن يجدوا لأنفسهم عملا لو صار الناس ملائكة.
لا
تصدق أيضا وصلات الدعاء مدفوع الأجر، إذ يخرج من المساجد بعد صلاة
التراويح، ليعبّأ في أشرطة أو أسطوانات، ويطاردك في وسائل المواصلات
والشوارع والهواتف. في هذه الوصلات الدعائية إغناء للسامع عن قيامه بالدعاء
إلى الله بنفسه لنفسه ولأهله، مكتفيا بمن ينوب عنه، وغالبا يكون “النائب
في الدعاء” موفور الصحة، ذا صوت قوي، يجيد تنغيم الحروف، متنقلا بين
المقامات. لا تصدق من يعطيك صك الدعاء ويقبض الثمن؛ فلو قرأ القرآن وتدبره،
لعثر على آيتيْ “ادعوا ربكم تضرعا وخفية”، “واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة
ودون الجهر من القول”. من يتدبر الآيتين يتأكد له أن الله غنيّ عن التقرب
إليه رياء بالدعاء الصاخب، فالله في علاه أقرب إلى الداعي من حبل الوريد.
يكتسب “الدعاة” أكل عيشهم من افتعال النطاعة والتلصص على الناس والانشغال
بالآخرين وإطلاق الأحكام القاطعة وتحديد من تشملهم رحمة الله ومن يمسهم
عذابه، أما هم فيأمنون مكر الله.
كما يجد متنطعون، من غير
المتدينين، في المزايدة على الإيمان واللياقة العامة غطاء للنطاعة، باسم
الدين، أو الأعراف والتقاليد والبروتوكول. هذا ما شهدته مصر في الآونة
الأخيرة لوزيرتيْن، وأشهد الله أن في وجهيهما جاذبية محببة، والجمال، لو
تعلمون، يغفر هفوات من هذا النوع أو ذاك. ولكن ماذا تقول لمن ابتلى الله
روحه بالصدأ، فصدّ قلبه المتصحّر عن ذكر الله، حين يرى سحرا أودعته
الجميلات، وجعل صدره “ضيقا حرجا كأنما يصّعّد في السماء”؟
في
19 أيلول 2015، أدت السفيرة نبيلة مكرم عبدالشهيد، وزيرة الهجرة وشؤون
المصريين بالخارج، اليمين الدستورية، وهي ترتدي فستانا بسيطا ولكنه شيك،
بنصف كم. وفي مساء اليوم نفسه انشغلت برامج فضائيات رجال المال بقضية ذراع
الوزيرة التي يجب “سترها”، لأنها تخدش حياء البروتوكول الرئاسي، وبدأت
التحليلات تستنطق نظرة الرئيس، إذ طرفت عينه لثانية في استنكار صامت، وفي
اليوم التالي، نشرت الصحف نقلا عن سراب اسمه “مصادر مطلعة” أن رئاسة
الجمهورية أخذت على الوزيرة عدم ارتدائها زيّا رسميا، رغم التزامها،
الوزيرة لا الرئاسة، باللونيْن الأبيض والأسود، وأن الرئاسة تفضل أن يكون
زي الوزيرة ذا أكمام طويلة، جاكيت فضفاض غامق اللون، وبنطلون أو جيب “أسفل
الركبة بعشرة سنتيمترات”. نبّهت المصادر المطلعة أيضا، أن تسريحة الوزيرة
لم تكن مناسبة، إذ بدا “الشعر الحرير يهفهف”، فيغطي جانبا من الجبهة، وكان
يجب أن يكون “مهذبا”، أو مربوطا.
ظل هذا الهراء قضية
القضايا لفضائيات تميل برامجها إلى مونولوج يؤديه أناس منحهم الله بسطة في
الجسم، ونقصانا في العقل، ولاحقوا السيدة بما يشبه الاتهام، وشغلوها عن
مهامها لكي ترد عليهم، وكانت أكثر ثقة واعتزازا بالنفس “شكلي كان لائقا
جدا.. أنا دبلوماسية مصرية أعرف جيدا وأفهم جيدا ماذا أفعل”، وقالت إنها لن
تترد في ارتداء بنطلون جينز في مقابلتها المصريين، ميدانيا، وهي تتقصى
قضية الهجرة غير المشروعة.
أما وزيرة التضامن الاجتماعي
غادة والي فنالها جانب من النطاعة العلمانية، حين قالت في حفل منح
الدكتوراه الفخرية لشادية وحسين الجسمي وعبادي الجوهر وعبدالله الرويشد
بأكاديمية الفنون (27 أبريل 2015) “أعتبر أن الموسيقى جزء من الجنة. الجنة
مكان سيكون كله موسيقى وباليه وغناء”. كان الحاضرون من محبّي الحياة
فأسعدهم الكلام، وصفقوا استحسانا، ثم انهالت الانتقادات لدرجة التكفير
والافتئات على ما تضمه الجنة، التي “فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت”،
فهي وسع خيال الذين منحهم الله خيالا غير منقوص.
الطريف
أن عفاريت الفيسبوك استعادوا صورتيْن للوزيرة الجميلة نبيلة مكرم، بالفستان
نفسه، في عمر أصغر قليلا، في مناسبة تبدو رسمية، وأخرى أثناء تناول الطعام
متربعة على الأرض، والبساط أحمدي. ونشروا صورا لعبدالناصر في مقابلات
رسمية مع سيدات يرتدين فساتين نصف كم، وصورا لبعض قراء القرآن الكريم،
الشيخ أبوالعينين شعيشع مع زوجته ترتدي فستانا أنيقا، مكشوفة الشعر، والشيخ
مصطفي إسماعيل مع زوجته التي ترتدي فستانا بنصف كم، وتعزف على البيانو.
الذين
يختلفون مع عبدالناصر يتفقون على زوجته السيدة تحية كاظم، وتعففها عن
الأضواء. وفي كتابها “ذكريات معه” بساطة مصرية، فقد تصحو على الهاتف، وترد
على أحد الوزراء. تدهشها كلمة “وزير”، وتتساءل “كيف يتحدث وزير، ويطلب
بيتنا في التليفون؟”، وتنسى أنها زوجة الرئيس!
وبخصوص
البروتوكول تروي أنهما كانا سيمران باليونان، عام 1960، وتلقى عبدالناصر
دعوة إلى عشاء من ملك اليونان، بملابس السهرة للرجال والنساء، ورفض
عبدالناصر فكرة ارتداء ملابس السهرة، ثم أخبره مسؤول البروتوكول بترحيب
الملك به، بأي ملابس. أقام الملك مأدبة عشاء، بحضور الأسرة المالكة ورئيس
الوزراء والوزراء. وقفت الملكة بجوار عبدالناصر، “لتتأبط ذراعه وتمشي
بجواره، فقال لها سأمشي بجوار الملك، وأنت تمشين بجوار زوجتي، فسألته
الملكة “وماذا لو تأبطت ذراعك؟ قال لها إني أخجل. فرجعت الملكة وقفت
بجواري”. وكأن البروتوكول مقدس.
المفارقة أن بعض الذين
ساءتهم ذراعا الوزيرة، بالأحرى جمالها، لم يترددوا في قبول دعوة سفير
الحجاز بالقاهرة، لأداء الحج. رشوة صريحة قبلها وأعلنها رؤساء تحرير صحف
خاصة وحزبية وحكومية مصرية، تتناقض مع ميثاق الشرف الصحفي الذي يقسم عليه
الصحفيون قبل الانضمام إلى النقابة، “ويحظر على الصحفي استغلال مهنته في
الحصول على هبات، أو إعانات أو مزايا خاصة، من جهات أجنبيــة أو محليــة
بطريقة مباشرة أو غيـــر مباشرة”.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولهم
.
سعد القرش
روائي مصري
رئيس تحرير مجلة الهلال
رئيس تحرير مجلة الهلال
عن جريدة " العرب " الصادرة في لندن
بتاريخ 29 سبتمبر 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق