مختارات إيزيس
مصر تزحف نحو المجهول
حين يصبح هذا المقال فى متناول القارئ سيكون اليوم الثانى والأخير
من جولة الإعادة فى انتخابات الرئاسة قد بدأ، وبعد ذلك بساعات سيبدأ العد
التنازلى، تمهيدا لإعلان الفائز بالمقعد الرئاسى. ولأن الأجواء المحيطة
بجولة الإعادة، خصوصا بعد صدور أحكام الدستورية العليا، تبدو مثيرة للكثير
من الشكوك وترشح «شفيق» للفوز فى هذه الجولة، بصرف النظر عما ستقوله
الصناديق، فليس بوسع أحد أن يتنبأ بشكل الخطوة التالية، فالشرعية
الجماهيرية للرئيس «المنتخب» ستكون موضع شكوك عميقة، وسيتقدم الرئيس الجديد
نحو القصر الجمهورى، وسط فراغ سياسى ودستورى مخيف، فقبل أقل من 48 ساعة من
فتح باب التصويت فى جولة الإعادة تم حل البرلمان، ومعه أجهضت جميع
المحاولات الرامية إلى تشكيل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور الجديد.
قد لا يكون من الإنصاف أن نصادر هنا على حق المبتهلين، من أجل وقوع
معجزة تدفع بمرشح الإخوان نحو المقعد الرئاسى، غير أن كل الشواهد المحيطة
بالعملية الانتخابية تستبعد احتمال وقوع تلك المعجزة أصلا، فضلا عن أن
وقوعها لن يغير كثيرا من حالة الارتباك والفوضى القائمة حاليا، بل ربما
يزيدها تعقيدا، ويضيف إلى كتاب الصراع المحتدم حاليا بين الجماعة والنظام
القائم صفحات جديدة.
كان يفترض أن يقوم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى آلت إليه مسؤولية
إدارة المرحلة الانتقالية، بتسليم السلطة قبل نهاية شهر يونيو الحالى إلى
رئيس منتخب، لكن فقط بعد أن تكون عملية بناء مؤسسات النظام الجديد قد
اكتملت. ولأن هذه العملية عادت مرة أخرى إلى نقطة الصفر، أظن أنه بات من
المشكوك فيه الآن، خصوصا فى ظل وضع سياسى يبدو مضطربا ومفتوحا على جميع
الاحتمالات، أن تجرى عملية انتقال حقيقية وكاملة للسلطة فى الموعد المحدد
لها.
لو كان من الممكن اختزال المرحلة الانتقالية لإدارة التحول الديمقراطى
فى اختيار رئيس منتخب تسلم له جميع السلطات، لما احتاج الأمر لستة عشر شهرا
كاملة، ولتعين على المجلس الأعلى للقوات المسلحة الاكتفاء بإجراء انتخابات
رئاسية لم يكن الإعداد لها ليستغرق أكثر من شهرين أو ثلاثة بعد تنحى
الرئيس المخلوع. غير أنه يبدو واضحا الآن أن المجلس العسكرى حين تسلم
السلطة لم يكن فى عجلة من أمره، وكان شديد الحرص على البقاء فيها، إلى أن
يتمكن من تصفية ثورة لم تكن بالنسبة له سوى وسيلة لإسقاط مشروع التوريث،
وإعادة ترتيب الأوضاع بما يتفق مع رؤيته الخاصة لما يجب أن يكون عليه شكل
النظام السياسى الجديد فى مصر.
قد يرى الحريصون على إنجاح عملية التحول الديمقراطى فى مصر أن المجلس
العسكرى أخفق فى التقدم خطوة واحدة على طريق بناء مؤسسات النظام الجديد،
ومن ثم فإن إدارته للمرحلة الانتقالية لا تستحق أكثر من صفر كبير. غير أن
الأمر قد لا يكون كذلك من وجهة نظر آخرين من المرتبطين بشبكة مصالح النظام
القديم، والتى يقف على رأسها المجلس العسكرى، خصوصا إذا ما أدخلنا فى
الاعتبار حقيقة الأهداف التى كان المجلس العسكرى يسعى لتحقيقها، والتى بدت
فى ذلك الوقت خافية على الكثيرين، فمن الواضح الآن تماما أن المجلس العسكرى
نجح فى استخدام جماعة الإخوان كمخلب قط، لضرب وتفتيت وعزل بقية القوى التى
ساهمت فى الثورة، بإغرائها بتعديلات دستورية تتفق مع مصالحها وبإجراء
الانتخابات البرلمانية أولاً. وحين تمكنت الجماعة من السيطرة على البرلمان
وظهر نهمها الكبير للسلطة استطاع المجلس استغلال هذا النهم، لإضعاف الجماعة
نفسها شعبيا وعزلها جماهيريا. وعندما تيقن المجلس أن التفاهمات الخاصة
باقتسام السلطة مع الجماعة، وفق صيغة «لكم البرلمان ولنا الرئاسة»، لم
يتردد فى خوض معركة مكشوفة مع الجماعة، حين قررت تغيير موقفها والدفع بخيرت
الشاطر، ثم بمحمد مرسى للمنافسة على المقعد الرئاسى، مستخدما فى مواجهتها
جميع الأسلحة السياسية والقانونية، بما فى ذلك المحكمة الدستورية العليا
ولجنة الانتخابات الرئاسية. ونجاح «شفيق» فى معركة الرئاسة يعنى فوزه
بالضربة القاضية فى هذه المعركة.
لقد تابعت شخصيا محاولات البعض إقناع قيادة الجماعة بضرورة الانسحاب من
جولة الإعادة والعودة إلى صفوف قوى الثورة، لكشف وتعرية المخطط الانقلابى
للمجلس العسكرى، وكم تمنيت فى قرارة نفسى أن تتخذ الجماعة مثل هذا القرار
الشجاع، رغم يقينى بأنها تفتقد الخيال السياسى والرؤية الاستراتيجية،
ودائما ما تغلب مصالحها الضيقة على مصالح الوطن. ولأن الجماعة تبدو واثقة
تماما من فوزها فى الانتخابات، يبدو واضحا أنها ليست فى وضع يسمح لها
باتخاذ قرار استراتيجى من هذا النوع، على الرغم من أنها لا تعرف بالضبط كيف
ستدير معركتها السياسية مع النظام الجديد، عقب خسارتها المحتملة فى
الانتخابات الرئاسية. أغلب الظن أنها ستبرر هذه الخسارة بوقوع تزوير ممنهج،
ولأنها لن تستطيع إثباته، فقد يؤدى ذلك إلى مواجهات محفوفة بالمخاطر.
فوز الفريق شفيق رسميا فى انتخابات الرئاسة يضمن للمجلس العسكرى ليس فقط
وجود أحد رجاله فى أعلى مواقع السلطة التنفيذية، لكنه سيمكن المجلس أيضا
من لعب أدوار مؤثرة، لاستكمال بناء بقية المؤسسات السياسية للنظام الجديد،
خاصة عند تشكيل الجمعية التأسيسية التى ستتولى صياغة الدستور الجديد، وربما
أيضا عند إجراء الانتخابات التشريعية المقبلة، التى يتوقع كثيرون أن تسفر
عن برلمان مختلف نوعيا عن شكل البرلمان المنحل. وفى هذه الحالة سيكون بوسع
المؤسسة العسكرية فرض الصيغة التى تريدها حول دورها فى النظام السياسى
الجديد كما نصت عليها وثيقة «على السلمى». فى الوقت نفسه سيكون بوسع شبكة
المصالح المرتبطة بالنظام القديم أن تعود إلى السطح من جديد، وأن تحاول
استعادة ما خسرته من مواقع النفوذ. وفى هذه الحالة فمن المتوقع أن يتم
التعامل برفق مع ملفات الفساد المفتوحة ومعالجتها بالطريقة التى تضمن عدم
المساس بشبكة المصالح القديمة. أما خسارة الدكتور مرسى هذه الانتخابات
فسيكون معناها خروج جماعة الإخوان، مؤقتا على الأقل، من مختلف مواقع
التأثير فى عملية بناء النظام الجديد، وحينئذ سيكون أمام الجماعة سلوك واحد
من سبيلين:
الأول: العمل على التهدئة وتلطيف الأجواء ومحاولة تجنب المواجهة، فى
مقابل اقتسام بعض مواقع السلطة والنفوذ، وفى هذه الحالة فمن المتوقع أن
تفضل الجماعة الارتباط بالنظام القائم والبحث عن شراكة معه على التفاعل مع
القوى الثورية الراغبة فى إحداث تحول ديمقراطى حقيقى، إيثارا للسلامة ودفعا
لنزعات الانتقام والرغبة فى تصفية حسابات مع نظام قديم يعتقد أنه عائد
بقوة الصناديق هذه المرة!.
والثانى: العودة إلى صفوف المعارضة وإلى حلبة الصراع فى مواجهة النظام
الذى تشكل الآن. وفى هذه الحالة فسوف يتعين على الجماعة أن تبحث عن صيغة
تمكنها من استعادة الثقة المفقودة مع القوى الليبرالية، وهو أمر لن يكون
سهلا بطبيعة الحال.
كانت قطاعات واسعة من الناخبين قد قررت قبل صدور أحكام المحكمة
الدستورية العليا يوم الخميس الماضى، تبدو مصممة على عدم الذهاب إلى صناديق
الاقتراع أو على إبطال صوتها، ولا أستبعد أن يكون جانب من هذه القطاعات
الواسعة قد استفزته قرارات المحكمة الدستورية العليا إلى الدرجة التى جعلته
يعدل عن قراره القديم، ويقرر التصويت فى اللحظة الأخيرة لصالح الدكتور
مرسى.
ولأن التدخل المباشر فى عملية التصويت من جانب أجهزة الإدارة يبدو مسألة
فى غاية الصعوبة، بالنظر إلى حجم عمليات المراقبة من جانب مؤسسات المجتمع
المدنى على الصعيدين الداخلى والخارجى، فقد تحدث المعجزة التى ينتظرها
البعض. ومع ذلك فليس بوسعى أن أتصور كيف سيكون عليه حال المجلس الأعلى
للقوات المسلحة فى مثل هذه الحالة، وما إذا كان سيقبل فعلا أن ينقل إلى
مرشح جماعة الإخوان جميع الصلاحيات التى يملكها حاليا، والتى تجمع بين
السلطتين التشريعية والتنفيذية والعودة إلى ثكناته، ليتولى رئيس الجمهورية
المنتخب صياغة النظام الجديد بما يتفق مع رؤيته الشخصية.
وأيا كان الأمر، وسواء فاز مرسى أو شفيق، فمن الواضح أن طائرة مصر
المقلعة بعد الثورة قد بدأت تتجه نحو منطقة المجهول بعيدا عن شبكات الرصد.
وتلك حالة تفرض على جميع القوى السياسية، خاصة تلك التى تخشى من عودة
الاستبداد فى شكله القديم أو فى ثوب جديد لم نجربه بعد، أن تراجع نفسها وأن
تعيد حساباتها، وأن تحاول الاستفادة من دروس الماضى وأخطائه الكثيرة.
مطلوب الآن من هذه القوى ربما أكثر من أى وقت مضى وقفة مع النفس من أجل
مصر
عن جريدة المصري اليوم بتاريخ الأحد 17 يونيو 2012
.
هناك تعليقان (2):
Le succès .. J'espère que le nouvel écran est toujours
Dank den Themen .... Ich hoffe, mehr von den Themen
إرسال تعليق