إيزيس في باريس
يوميات ناقد
يكتبها صلاح هاشم
" الحلم المصري العصري " في السينما
( 1 من 2 )
أرجو أن يكون صديقي الشاعر المريض جمال بخيت مؤلف أغنية " تعرف تتكلم بلدي؟ " الراقد على سرير الآن في المستشفي الامريكي بباريس بخير. لقد حزنت كثيرا بالأمس عندما زرته ووجدته منهكا ويسعل سعالا قاسيا موجعا ، وهو لايقوي على القيام من الفراش في غرفته بالفندق الذي نزل فيه في باريس ، ومنذ وصوله حديثا اليها من مصر. جمال شاعر مؤلف بالعامية المصرية، وكاتب مصري وطني أصيل, وهو يكتب مقالا منذ سنوات بعنوان " كلام شاعر" في مجلة " صباح الخير " ويعمل في مؤسسة روز اليوسف الصحفية العريقة . واعتبره من ناحية تقييمه كشاعر مبدع ، امتدادا أصيلا لشعراء العامية المصرية الكبار من أمثال بيرم التونسي وصلاح جاهين وفؤاد حداد وعبد الرحمن الابنودي، لكن على سكة عصرية، وهو أيضا صديقي منذ زمن.
كتب جمال بخيت اشعار أغنيات كثيرة لأفلام يوسف شاهين، من ضمنها اغنية " تعرف تتكلم مصري؟ ، التي شدت بها الفنانة المطربة التونسية " لطيفة " في فيلم " سكوت حنصور" ليوسف شاهين، ثم تغنت بها بعد أن غنتها لطيفة"، تغنت بها مصر كلها،وأحباب مصر كلهم. فمن لا يحب في مصر " الورد البلدي " تساءلت، و من لايحب في مصر عشق المصريين للحياة و " بحر" النيل " و " الحلم المصري العصري " ؟
كان جمال بخيت الشاعر يتردد على باريس بصفته ككاتب ومؤلف أغاني، ويحقق خلال رحلته عدة زيارات لتلك المؤسسة الفرنسية التي ترعي وتحافظ على حقوق المغنيين والمؤلفين في فرنسا و العالم ، وتربطها علاقات ومصالح وحقوق بالطبع مع نقابة مصرية مماثلة. ولايحضر جمال بخيت الى باريس لعمل مكلف به من أعمال تلك النقابة، او لغرض شخصي ما ، من دون ان يتصل بي ، ويعلمني بحضوره.
حكي لي جمال بخيت الذي صار هزيلا جدا بفعل المرض ، حكي لي عما تخلل فترة علاجه في مصر التي امتدت الى اكثر من أربعة شهور من حوادث لطيفة وظريفة ومضحكة, ولها العجب. و مثل تلك أحداث عجيبة وغريبة على يبدو لاتقع الا في مصر، حتى إنها من فرط تراجيديتها وعبثيتها و ميلودراميتها ، أعني مبالغاتها العاطفية ، تجعلنا نضحك ونتعجب ، ونخبط كفا بكف. أن شر البلية حقا كما يقول المثل المصري ما يضحك، او في ما يضحك ، او مافيها يضحك ، وكأنها مصر" ، محروسة " فقط لاسعاد الناس ، وإضحاكهم ، و لذلك فان من أرادها بسوء – على ما يبدو - قصمه الله ، كما كتب المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي
تعودنا إذن أن نصنع في مصر من مصائبنا نكاتا ، وذلك منذ أزمنة سحيقة كما يذكر المؤرخون لحضارة مصر الفرعونية القديمة ، حتي ان بعض المصريين الذين كانوا يقومون برسم جدران المعابد المصرية القديمة من العمال البناءين الرسامين في عصر "الاسرات الفرعونية" التي حكمت مصر قديما ، كانوا يرسمون نكاتا يسخرون فيها من فرعون الملك ، والآلهة ، ويسجلون ذلك على قطع من الحجر،، والطريف انهم كانوا يجعلون الحيوانات في تلك الرسومات تتكلم ، وتدخل في "حوار" ضاحك ساخر مع بعضها البعض .
وقد شاهدت بنفسي بعض تلك القطع الحجرية التي استخدمها هؤلاء الرسامين مثل مفكرة أو مذكرة ، وسجلوا عليها انطباعاتهم و نكاتهم بالرسوم الكاريكاتورية الفكاهية المضحكة، و كان ذلك في معرض لآثار الحضارة المصرية القديمة اقيم حديثا في باريس. يبدو أن مصر منذ قديم الأزل – هكذا فكرت - كانت " مصنع نكات" ، تصيب الحاكم بسهامها ، وظلم الواقع الأليم بسببه، و بخاصة في تلك الظروف الثقافية والتعليمية والعلاجية المصرية " العصرية" التي تبعث على الأسي في بر مصر العامرة بالخلق ، وبخاصة أكثر بعد أن صار الطب في مصر تجارة عيني عينك للأسف . واتذكر هنا بالمناسبة عدة وقائع " طبية" سينمائية مؤلمة ، مثل واقعة المخرج وفاة مخرج الافلام الوثائقية المصري المرحوم المخرج حسام علي ، على ابواب مستشفي في مصر القاهرة ، لأنه لم يكن يملك في جيبه ثمن العلاج ، ويجب ان يدفعه مقدما في صندوق خزينة المستشفي قبل ان يصرح له بالدخول. و ياويل و ما أتعس المرء الذي يجد نفسه في وطنه مصر ، وهو لا يملك في جيبه ثمن علاجه ، في وقت لم يعد العلاج فيه علاجا ، وانتفت منه صفته العلاجية، واختفت تماما
و فكرت في كل ذلك ، وانا اتحدث مع جمال بخيت، الذي حملته في تاكسي بالأمس، وهبطنا في المساء لنشم الهواء في الخارج، ونتفرج على باريس في الليل، و خطر على بالي أن أسال جمال في سيارة التاكسي التي اخذناها الي السان ميشيل ، إن كان سمع بالمصادفة عن أنسان دخل مستشفي للعلاج في مصر ، وخرج منه سليما معافيا. وكان رده طبعا بالسلب، وأخذنا نضحك في التاكسي. وهو يعبر ذلك الجسر الحجري الصغير أمام كنيسة نوتردام ، الى الضفة الاخري لنهر السين.
جمال بخيت " مسحراتي " عصري
برز جمال بخيت كشاعر بالعامية المصرية في جيل جديد من شعراء العامية المصرية، نهل من اضافات وإنجازات شعراء العامية المصرية الكبار بيرم وجاهين وحدّاد والابنودي، لكنه كان يتكلم باسم هموم جديدة في عصر جديد ، وبحساسية و شاعرية مختلفة- انظر مقالنا عن جمال بخيت في أرشيف " سينما إيزيس " للاستزادة - وصعد نجمه بسرعة منذ فترة السبعينيات ، حتي أصبح فارسا من فرسان الاغنية المصرية الجديدة ، التي تحمل كلماتها بعض همومنا واحلامنا المصرية " العصرية " اي بنت هذا الوقت، وقتنا وزمننا ، وتتضافر على صنعها هموم الناس لتشكل حلما في عالم أكثر عدالة ، ولنتأمل في مايقول يقول الشاعر جمال بخيت في أغنية " تعرف تتكلم مصري ؟ " في فيلم " سكوت حنصور " للمخرج يوسف شاهين ، وهي من تلحين الفنان الملحن المصري الكبير عمر خيرت. يقول بخيت في إغنيته :
" تعرف تتكلم بلدي
و تشم الورد البلدي
وتعيش الحلم العصري ؟
يبقى أنت أكيد مصري .
تعرف بالعربي تنادي
بإسم الله ، وبإسم بلادي
نورك للعالم يسري
يبقى انت أكيد المصري
والي جانب هذه الاغنية التي تستحضر ذلك "الحلم المصري العصري " في الخلاص من الظلم طبعا في فيلم " سكوت حنصور" ليوسف شاهين ، ولا يضارعه أو يكبره حلم آخر، و تروح بكلماتها ترسم سمات الشخصية المصرية من خلال شخصية " ابن البلد " و هي تستنهض الهمم والعزائم حتى يأخذ كذلك العدل مجراه، كما في فيلم " شكاوي الفلاح الفصيح " للمخرج شادي عبد السلام ، الذي جعل هذه الشكوي من الظلم على لسان فلاح مصري من " عصر الاسرات " قبل خمسة آلاف سنة، تتواصل مع وتستنطق الحاضر ايضا ، وتصير بنت زمنها وعصرها.كتب الشاعر جمال بخيت أيضا العديد من اغنيات أفلام شاهين .
كتب أغنية " آدم وحنان " التي تغنيها ماجدة الرومي وهي من تلحين الملحن المصري فاروق الشرنوبي في فيلم " الآخر "، و كتب أغنية " روح جسد ، بنت و و لد " التي يغنيها " الدويتو" اي الثنائي الغنائي على الحجار وهدي عمّار وهي من ألحان فاروق الشرنوبي في فيلم " إسكندرية. نيويورك". وقبل ان يتعاون جمال مع شاهين ، كان كتب العشرات من الاغنيات للعديد من المطربين والمطربات في مصر وعالمنا العربي وصار الناس يرددون اغنياته في بلادنا ، مع لطيفة وعلى الحجار وماجدة الرومي وغيرهم . وللتذكار كان لجمال بخيت برنامجا يوميا في إذاعة مصر العربية اثناء شهر رمضان الفائت بعنوان " مسحراتي مصر البهية " من ثلاثين حلقة من اشعار جمال بخيت وتلحين الملحن المصري الكبير عمار الشريعي. وحديثا كتب جمال أغنية " مش باقي منّي" لفيلم " دكان شحاته " للمخرج المصري خالديوسف، وهي من تلحين وغناء المطرب الشاب أحمد سعد. سوف يبقى معنا جمال في باريس لمدة إسبوع - كان اتصل بي هذا الصباح، لكي يطمئنني كما طلبت على صحته، و انه خرج من المستشفى ، ويزف الي ايضا هذا الخبرالذي أسعدني - ثم يعود بعد ذلك الى " بلد المحبوب " لكي يشم الورد البلدي ، ويستأنس به ، و يشارك باشعاره واغنياته ، في تجسيد ذلك " الحلم المصري العصري" ، حلم كل المسحراتية والحكواتية ، وللحديث عن " الحلم المصري العصري في السينما المصرية " بقية ..
صلاح هاشم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق