مختارات إيزيس
تمهيد لصلاح هاشم
يسعد " سينما إيزيس" أن تقدم لقرائها هنا في زاوية " مختارات " بعض التسابيح والتراتيل الشعرية الفريدة التي جادت بها قريحة الكاتب الروائي الشاعر الصديق محمد ناجي- انظر ماكتبناه عنه وعن رواياته العميقة وكيف ان السينما المصرية لم تهتم باقتباسها للشاشة العريضة و لحد الآن، على الرغم من انها وبشهادة كبار النقاد جواهر روائية مصرية أصيلة ، وتؤرخ لجيل وعصر ، وتحقق اضافات الى فن الرواية العربية الجديدة.انظر أرشيف سينما إيزيس- كتب محمد ناجي هذه التسابيح هو يقضي حاليا فترة علاج طويلة هنا في باريس لزرع كبد جديد، فراح يتأمل في حياته و يحول تأملاته هذه الى سبائك من الشعر المصفى ، تذكرنا بالقصائد الاخيرة التي كتبها الشاعر الهندي الكبير رابندرانات طاغور (12 قصيدة) وهو يرقد على فراش المرض، ونشرت بعد وفاته، وأطلق عليها " أجنحة الموت " و كنت ترجمتها ونشرتها في جريدة " المساء" في فترة الستينيات و أحتلت الصفحة الاخيرة في الجريدة
ويقول فيها طاغور:
على شواطييء الاله روبانارايان أفقت
وادركت ان هذا العالم ليس حلما.
وفي حروف الدم ،رحت أتطلع الى صورتي
حين سألتني شمس اليوم الأولى
من انت ؟
فلم تتلقى جوابا..
*
ونترككم هنا مع تسابيح النسيان
تسابيحُ النسْيان
محمد ناجى
تسابيح النسْيان
آهِ أيّها النسيان
ستائرٌ مسدلةٌ طبقة فوق طبقة
لكل طبقةٍ لونٌ يحجب ما عداه
الرمادىُّ ذو المخالب والأنياب
الأخضرُ ذو الأجنحة
الوردىُّ المُطرَّز بالنهودِ والقُبلات
آه أيها النسيان
بأى الألوان ستغطِّى عيونى فى المشهد الأخير؟
***
العيون التى اخْتزنت كلَّ المُدِن والوجوه
وأعادت ترتيبها على نحوٍ تحبُّه
كيف ستكون إطلالتها الأخيرة على الذاكرة؟
***
تلك اليقظةُ فى عينيك تدفعنى إلى النسيان
فيهما بريقٌ يكفى لرؤية أيامٍ كثيرة
دعينى أنجذب إليك
لتكون ملامحُك إسدالىَ الأخير
انظرينى طويلا
واختزنينى فى ذاكرتك لأيامك الوفيرة المُقبلة
***
آه يا الحبيبة التى أكابدها
أتحسَّس فراقَها فى لمساتها
هل أطمع أن تفسحى لى مكانا فى أحلامِك
يسكنه شئٌ منِّى؟
أظنُّ أنه يمكن أن يبقى شئٌ ما
يسْطع على شاشة نومك بين حينٍ وحين
شئٌ طفيفٌ جدا
مثل شعاع نجم غابر
ابتلعته ثقوب العتمة منذ زمنٍ بعيد
***
فى هذا الوقتِ المُتأخِّر لم يعد هناك متسعٌ للكثير
قد أستطيع أن أستدرِج شفتيك إلى قبلة
أو أنصب الفِخاخ للمسات يديك
لأقيس بها الحرارة الباقية فى جسدى
أو أستعيد معكِ مذاق الأحضان المُحبَّة
لكننى لا أستطيع أن أعدَ بفرحٍ يطول
فذلك الذى يتملْملُ فى بدنى متأهبا للإنصراف
ينبهِّنى باستمرار إلى أنك تأخَّرتِ كثيرا
وأن الوقت قد حان
يقلق هدأتى القصيرة فى أحضانك
***
كثيرون أولئك الذين يجرحون خلوتنا
تتحسَّبين أنتِ للأنفاس وحفيف الأقدام
دون أن تفْطِنى لأولئك الذين يسكنون بصرى
أغْمضى عينيك
وأسْلمى نفسكِ لطمأنينة القُبلات
ربَّما أستطيع أنا أيضا أن أُرْخى جفونى
وأتفادى أشباحا تطلّ خلف أحضانك
***
لا أستطيع أن أؤكد لك
لكن ربَّما يُمْكننى أن أَعِد
بأن أنتقى لكِ من ألبومات الذاكرة
لقطات أبدو فيها مبتسما وواثقا
وأن يكون طيفى فى أيامك
حضورا لطيفا لا يجرح ولا يخلِّف شجنا
***
أتفادى أن تلْمسك برودةُ أناملى
وأنت خاشعة وفرحة
تزيحين أطراف شعرك
لأطوِّق عنقك بعقد الفيْروز المزيف
زرقةٌ بلاستيكيةٌ مشغولةٌ بإتقان
سماءٌ بلا نبض
***
ذلك وجه امرأةٍ محبَّة
تطأطئُ رأسها للأحزان المُقْبلة
تتكتَّم رعودها
وتبرق بابتسامةٍ محيرِّة
هل أستطيع أن أعدها
بأن أخون توقّعاتها؟
***
وهل أستطيعُ أن أخمِّن
بأى عينٍ ينظر الواقفون على الشطوط
إلى تلك الخيالات التى تمَّحى فى الماء؟
***
لأول مرةٍ أيّها الفارس
سيكونُ عليك أن تمضى وحيدا
دون زخرفٍ أو جلبةٍ وبلا صحاب
لن تُعِيرك امرأةٌ ذاكرتها
أكثرَ من المسافةِ إلى أحضان رجلٍ آخر
ولا يُمكنك أن تُحصى
اولئك الذين سيذْرِفون دموعا كثيرة
ليغْسلوا مخيِّلتهم من صورتك
ستمضى طويلا وبلا نهاية
خارجَ الزمانِ والألوان
عاريا إلا من الوحْشة
وجه آخر للسيّدة
ذاكرتُك المثقلةُ بالأشجان
تحاولُ أن تلتقط منّى تذكارا نادرا
لوجه محبِّ يغرُبُ وهو يتوَّهم لمساتِك
ويتنفّس اسمك فى خراطِيم الأكسوجين
قبل أن ينزعوا الإبرَ من عروقه
ويسلموه وحيدا للعتمة المثلَّجة
***
جئتِ مستعدَّة بالكاميرا والابتسامة
ولمسة تغامر بالحبِّ من أول نظرة
وَافرَحِى بابتسامتك
وأنتِ تستنفرين شجاعتى
وتزحفين بخُضْرتك على رماد جلْبابى
لأنبض بالمحبَّة
أدرك الآن أنك تشتغليننى على نحو يخصُّك
تذكارا نادرا بدموع نقيّة
***
ضحكتُك
الهأهأةُ الفارغةُ من البهْجة
إعلانٌ كاذبٌ عن فرح لا تحسِّين به
( ها أنذا قادرةٌ على الضحك )
لكن ذلك الفرح المصنوع للتذكار وحده
المصنوع للنسيان
لا يستطيع أن يُوقظ تلك الكمنْجات النائمة فى صوتك
ولا أن يُغرينى بالابتسام
***
قبلاتُك الموسومةُ برصانة الجدّات
خطّان نحيلان منطبقان
شفاهٌ لا تفرِّط فى الدفء الباقى
ولا تنفتَّح للعطايا
***
جبينُك الضيّقُ لا يتَّسع إلا لسطرين بالكاد
سطرٌ يصلُ بالدنيا إلى منتهاها
وسطرٌ يعودُ بالكلام إلى المبتدأ
***
استجواباتُك الليلية
للحصول على ملخَّصات سريعة
اعترافاتٌ يمكن تدوينها فى ورقة واحدة
عناوين رئيسية
( كنت أعرف عنه كل شئ)
آه يا السيدة المغرمة بتلخيص الحياة
أدرك أنك تجمعين تذكاراتك على عجل
لكن تلك اللعبة قاسيةٌ فى أوقات الموت
وأظن أنك لن تعرفينى أبدا
تلك هى أسئلة النسيان
***
لا يتّسع الوقت للكثير
يمكننى فقط
أن أتقبل عطاياك الصغيرة على المسنجر
قُبلاتك الألكترونية
واستعراضاتك الأنثوية الفاضلة
وحكاياتك عن ذلك الذى هجرك دون سبب
وأولئك الذين باتوا على الأعتاب
ولم تسمحى لهم بخطوة
عيونٌ شاخصةٌ تسبِّح أوهامك
( هأنذا فى الثامنة والأربعين
لابد أن أصارح نفسى
أصبحت جدّة ولم أتذوّق بهجتى حتى الآن )
***
آه يالسيّدة فى المرآة
ثقى بالنعمة التى بشفتيك
وبالبهجة المخبوءة فى صدرك
وارحمى خطواتك من حَزْم الجنرالات
دعيها تلين وتهتزُّ بما تحمله أعطافُك من بهجة
هزّة واحدة يمكن أن تغيّر إيقاع الدنيا
***
الزهور التى تتفتح فى غير أوانها
يكون فورانُها مدويا
تخشع لعطرها الفصول
***
أيتها الكمنجات الغافية فى صوتها
الكمنجات المحرومة من نفسها
يمكنك أن تغافليها وتنطلقى فى آواخر ليل
لتقضّى مضجعها ببهجة أوتارك
فتنتفض عارية فى سريرها
لتتأمل خباياها
مندهشة لكل هذا الحسن الذى كانت تنكره
ثم تبدأ فضيحتها الخاصة
عزفها المنفرد الأليم
***
سلاماً أيتها السيدة المطرَّزة بالتذكارات
ودعينى أرْوى لك تلك الطُرفة
عن عائلة تعّودت أن تحسِب أعمارَها بطريقةٍ مختلفة
وكانت على شَواهدِ القبور كتاباتٌ تقول:
فلان كامل الرجا: ولد عام ... ومات عام ...
فى سنِّ الأربعين
لكنه عاش تسعين
فلان سعيد الرجا: مات فى الخمسين..
لكنه عاش ثمانين
فلان قليل الرجا: عمَّر حتى الثمانين..
ولم يعشْ أكثر من عشرين
فلان عديم الرجا: بلا فخر..
من بطن أمّه إلى القبر
اعتذارُ العاشِق
إلى جول..
( أحمل جثتها فى كبدى )
آهِ يا الحبيبة
يا من غادرتِ زمانى ومكانى إلى غير رجْعة
لو أستطيع أن أتيَقّن من الوصول إليك
لعبرت إلى هناك بقفزةٍ واحدة
لكننى أخشى أن تكون المتاهة
هنا على الأقل شئٌ يدلُّ عليك
ورقة..
صورة..
كلمةٌ على هامش كتاب
أغنيةٌ بأنفاس الذكرى
شئٌ يساعدنى على أن أتنسَّم طيفك
أن أُؤكّد بحسمٍ أنه مرَّ من هنا
لكن من يضمن ما يمكن أن يجرى هناك
فى تلك العتمة التى ليس لها بدن
***
ما زلت أتذكَّر ذلك الإيقاع
الذى تمايلنا معه سويا
خلف نافذةٍ زجاجيةٍ مزخرفةٍ برسوم قلوبٍ صغيرة
فى المطعم الفقير فى حَىِّ "استقلال"
لم يكن البحر بعيدا
لكنه كان محجوبا بصفِّ من البيوت العتيقة
تماماً..
مثل حزنك المستور خلف شفتين مجعَّدتين بالوَهن
وقبلاتك الفوَّاحة بنكهة الفراق
( Those were the days my friend
We thought they'd never end )
تلك كانت أياما يا صاحبى
لم يخطر ببالنا أن تنتهى أبدا )
كنا نهتزُّ سويا
ونحن نسبق الإيقاع والمعنى بخطوة
وكل واحدٍ يخمّن فى صمته
أنه المشهدُ الأخير
***
برفَّة جفنٍ واحدةٍ تدخلين المتاهة
آه يا الأخضر الفسيح
المظلّل برموشٍ اصطناعية
تدارى الشعيرات الذابلة
التى تقصَّفت فى عذاب الإشْعاع
الأخضرُ الذى يغْروْرقُ بشجن اللحن
ويقطرُ فى خلسةٍ لا أجرؤُ أن أتلصَّص عليها
الأخضرُ الذى أسبحُ الآن فى دموعه
***
عازف الأكورديون العجوز على جسر "مرمرة"
ظلَّ يطاردُنا بحكمةٍ تقول:
( ثمَّة حزنٌ يُنسيك كلَّ الأحْزان
وثمَّة فرحٌ يُنسيك الدنيا كلها
لكنه لا يدوم )
لا أنا راغبٌ فى هذا الحزن
ولا أظنُّك كنتِ راغبةً فى مثل ذلك الفرح
***
فى ساحة البهجة
حيث العطرُ والشمعةُ والستارةُ المُسدلة
والملاءةُ المطرزةُ بالورود
كنت أدرك أنك استدرَجْتنى إلى نزالٍ لا تقدرين عليه
وأن جسدك قد وهنَ لدرجةٍ لا يستطيع معها
أن يصمد طويلا فى معارج الفرح
كان علىَّ أن أبادر بالانسحابِ من الميدان
فكيف يمكننى أن أتذوَّق لذَّة انتصار
على جسدٍ منذورٍ للألم
مهزومٍ سلفا
***
تستطيعُ الأجسادُ أن تتشارك فى المُتعة
ولا تستطيعُ أن تتقاسمَ الوَجع
فهلْ حدثت المُعْجزة حين استعادك جسدى
الألمُ نفسه..
المذلّةُ نفسها؟
***
كان بين أخوات كان
بنتٌ صغيرةٌ جميلةٌ اسمها "سأكون"
غامضةٌ ومثيرةٌ ومسكونةٌ بالبهجة
كنت أحبُّها خِلْسة:
وأتغنَّى باسمِها فى سرِّى
( سأكون..
آه سأكون )
كانت أصغر الأَخوات
لكنها أقصرهن عُمرا
الآن.. أحملُ جثتَها فى كبدى
***
هى ذى أنتِ مرَّة أخرى يا جول
لكن فى جسدى
حين أقول: "آه".. فإننى أقصدُك أنت
***
لا تلحّى علىّ الآن يا جول
ولا تقْرَبى أحلامى
أحلامى تسكنُها الآن امرأةٌ أخرى
لا تُشبه عيونك
لكنها منقوشةٌ بألوان الحياة
امرأة أستطيعُ أن أتنفَّسها
وأن أحدّثها عنك
***
ثانيةٌ واحدة
واحدةٌ فقط لو تكرَّمت؛
لو أستطيع أن أتذكَّر
هل أنتِ نفس الشخص؟
( العطرُ نفسهُ دائما
والورودُ تتغيَّر )
نشرت فى صحيفة الأهرام المسائى المصرية 19 سبتمبر 2010