«الطهطاوي»: عن النهضة والأسئلة المعلّقة
بعد قرابة قرنين على رحلة رفاعة الطهطاوي الشهيرة إلى فرنسا، يسير صلاح هاشم في شريطه على خطى صاحب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، معيداً طرح السؤال ذاته: لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟
عثمان تزغارت
تتنازع الإعلامي والناقد السينمائي المصري صلاح هاشم ثلاثة انشغالات أساسية: حبّ السينما وموسيقى الجاز والبحث في الفكر التنويري بوصفه المنطلق التأسيسي لأي مسعى تحرّري من شأنه تخليص الثقافة العربية من براثن التشدد والظلامية.
وها هو يجمع بين هذه الانشغالات الثلاثة في شريطه «البحث عن رفاعة» (وثائقي 63 دقيقة ـــــ إنتاج كويتي مصري) الذي قُدّمت عروضه الأولى أخيراً في لندن وباريس، وسيُعرض ضمن «كرافان السينما العربية الأوروبية» الذي بدأ في عمان. كما سيشارك في مهرجان السينما المتوسطية في مونبولييه.
يمثّل هذا الشريط الجزء الأول من ثلاثية توثيقية يعتزم هاشم تخصيصها لفكر رفاعة الطهطاوي ومساره، ضمن مشروع يشغله منذ أكثر من عقدين. لكن إعجابه بشخصية الطهطاوي ومكانته الرائدة لم يمنعه من أن يطرح جانباً الأساليب الحكائية التقليدية، ليخرج من الإطار الضيّق المتعلق بالتأريخ لسيرة هذا المفكّر، ويوسّع المشهد إلى ما هو أبعد وأعمق وأكثر راهنية، عبر إعادة طرح السؤال ذاته الذي شغل الطهطاوي قبل قرن ونيف: لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟ وإذا برحلة البحث عن الطهطاوي بين باريس والقاهرة وطنطا وأسيوط تتحوّل إلى رحلة تأمّلية في الواقع المصري والعربي اليوم، ضمن نظرة تشريحية قاسية، تضع اليد على الجرح وعلى مكمن الخلل في المشروع الحداثي العربي المعطّل والمعطوب...
يقول صلاح هاشم: «لم يكن الهدف من إنجاز الفيلم نوعاً من التكريس لـ«عبادة البطل»، رغم مكانة رفاعة المعلّم والمفكّر والإنسان ورائد نهضة مصر الحديثة، إلا أنّ ما شغلني هو التحفيز على التأمل في فكر رفاعة ومفاهيمه لمعاني النهضة والتقدم وحرية المرأة ودور المثقف وعلاقة الحاكم بالمحكوم، من أجل طرح سؤال أكثر راهنية، وهو: أين موقع مصر والعالم العربي اليوم من ذلك الفكر التنويري المجدّد؟».
لهذا، لم يسلك هاشم في ثلاثيته المخصّصة للطهطاوي المنحى الكرونولوجي التقليدي، بل سلّط الضوء في هذا الجزء الأول على موقع فكر الطهطاوي وأثره في الراهن العربي اليوم، بعد قرابة قرنين من الزمن، على أن يعود لاحقاً، في الجزءين الباقيين إلى التأريخ لرحلة الطهطاوي إلى باريس، عام 1826، ومن ثم إلى الجهد التحديثي الذي اضطلع به بعد عودته إلى مصر.
في الملخص التقديمي للشريط، يقول هاشم إنّه عمل يحكي وقائع رحلة مطوّلة بين باريس والقاهرة، مروراً بأسيوط وطنطا في صعيد مصر، بحثاً عن ذاكرة رفعت رفاعة الطهطاوي (1801 ـــــ 1873)، رائد نهضة مصر الحديثة الذي يلخص مشواره العلمي قصة بلاده في القرنين الماضيين. لكنّ الفيلم يطرح السؤال الأكثر راهنية: ترى ماذا بقي من تعاليم الطهطاوي ونظرياته وأفكاره بخصوص العلم والتعليم وحرية المرأة والعلاقة بين الحاكم والمحكومين في مصر والعالم العربي اليوم؟
بغية تحقيق ذلك، لم يراهن صلاح هاشم على المغايرة على صعيد المضمون فحسب، من حيث كسر الوتيرة الكرونولوجية، بل أيضاً على صعيد الشكل الفني، إذ طرح جانباً الأساليب الحكائية التقليدية، لحساب لغة بصرية مكثّفة أتاحت له الغوص في الواقع المعيشي للناس، ليرصد مآل بلد الطهطاوي بعد كل هذا الوقت على رحيل رائد نهضتها. ولم تمثّل موسيقى الجاز مجرد خلفية صوتية للفيلم، بل مثّلت عنصراً بصرياً أساسياً فيه، بحيث لم تكتف أجواء الجاز وتلوّناته الإيقاعية بمرافقة إيقاع الفيلم وضبطه، بل كانت مرتكزاً استند إليه هاشم وشريكه في المشروع، المصوّر اللبناني المقيم في كوبنهاغن سامي لمع، للغوص في أعماق الحياة الشعبية للناس البسطاء في مصر. حتى أننا حين نسأله عن أهم ما يميّز عمله التوثيقي هذا، يجيب: «لا بد من أن أفلاماً كثيرة تسجيلية وروائية ستُنجز مستقبلاً عن الطهطاوي، لكنّي واثق بأنّ عملي سيبقى أكثرها قرباً من واقع الناس البسطاء ومعاناتهم في بلد الطهطاوي، حتى لنكاد نلمس في الفيلم حفيف خطواتهم ولفح أنفاسهم...».
عن جريدة "الاخبار" اللبنانية
عدد الاثنين ١٨ آب ٢٠٠٨
عن جريدة الاخبار اللبنانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق