في " عمارة يعقوبيان" يتفوق الفيلم علي الرواية
بقلم يوخنا دانيال
يجب الاقرار بأنه يصعب الفصل بين رواية "عمارة يعقوبيان" والفلم المأخوذ عنها لأنهما متقاربان في التفاصيل والمواقف والنظرة والخطاب، وقد تحولا الى ظاهرة ثقافية/شعبية بامتياز في حياتنا الثقافية والفنية. ورغم ان الرواية تحظى بشعبية كبيرة بين القراء في العالم العربي، وخارجه ايضا بين المهتمين بالأدب العربي الجديد او المعاصر، إذ أعيد طبعها عدة مرات وترجمت الى عدة لغات عالمية ... الا أنني شخصياً أنحاز الى الفلم باعتباره قطعة فنية رائعة، متقنة الصنع من جميع النواحي والمستويات ... لكن من دون تجاهل لآراء وملاحظات النقّاد "المعارضين" للفلم، والتي ينصبّ معظمها ضد الأصل الروائي والخطاب السياسي والاجتماعي الذي يحمله هذا الأصل بالدرجة الأولى، مما أدى الى ان الكثير من العروض والكتابات النقدية تخلط بين الفلم والرواية، ولا تعطي الانتاج السينمائي حقه من التقييم
الأبطال الحقيقيون : السياسة والجنس
نتعرّف في اللقطات الأولى من الفلم على طه الشاذلي "محمد إمام" ابن البواب ... وهو يغسل سلّم العمارة مع والده، ويمسح البلاط أمام ساكني العمارة الذين يعاملونه باستعلاء. لكن الشاذلي الذي يفشل في مساعيه للدخول الى كلية الشرطة بسبب وضعه الطبقي ... نراه يتحول بسرعة الى ناشط طلابي اسلامي، يقود التظاهرات في الجامعة بشجاعة تثير الاعجاب، ويهرب من قوات الشرطة والأمن، ليقع لاحقاً في قبضتهم. ثم يتعرض الى تعذيب بشع، ونراه جالساً في زنزانته الضيقة، عارياً، باكياً، مصالباً ساقيه أمام وسطه، بعد أن هتكوا عرضه عدة مرات (كما يقول لاحقا) .... في لقطة تعبيرية، انسانية، رائعة. محمد إمام يتحول "سينمائياً" أمام أعيننا ... من انسان مسحوق ... الى ناشط سياسي ... الى شهيد "حي" ... ببراعة وتفوّق وحضور رائع
في هذه اللقطات، يثبت كاتب النصّ السينمائي "وحيد حامد" انه لا يخون الرواية التي تشي – الى حدٍ ما – بالتعاطف مع الاسلاميين كمعارضين سياسيين. وفي هذه اللقطات أيضاً، يثبت المخرج "مروان حامد" انه لا يخون النصّ السينمائي المكتوب ... ( رحم الله الروائي الكبير نجيب محفوظ الذي ظلت أعماله تتعرض للخيانة المباشرة والتسطيح وإعادة القراءة والتفسير على مدى عشرات السنين على أيدي كبار المخرجين المصريين ). والحقيقة، انه من الصعب خيانة نصّ معروف ومتداول ومترجم الى هذا الحد ... مثل رواية "عمارة يعقوبيان"، انه ضرب من السخف والضحك على العقول والذقون. لذا، فانه من الأفضل ان ينتجها سينمائياً – ويستغلها اعلامياً – أصدقاء النظام الحاكم في مصر؛ المنتج "عماد الدين اديب، الكاتب السينمائي وحيد حامد، النجم الكبير عادل إمام ... ويحولوها الى نقطة في صالح النظام، كنوع من النقد الذاتي واستيعاب للآراء المعارضة. لا أتصور ان أية مجموعة سينمائية اخرى كانت ستتجرأ على تنفيذ الفلم او يسمح لها بذلك من قبل الرقابة ... وهذا لا يقلل أبداً من القيمة الفنية والنقدية للفلم، ولا من مصداقية صنّاعه والعاملين فيه. ويعبّر الناقد المصري "سمير فريد" عن هذه الأفكار بصراحة ووضوح ... معتبراً تنفيذ الفلم جزءاً من عملية الاصلاح السياسي و"التوريث" التي يقودها جيل الشباب في الحزب الوطني، بقيادة السيد "جمال مبارك" شخصياً
ان حكاية الشاذلي تسرد بشكل سينمائي ممتاز، ونشاهد المجموعات الاسلامية وهي تدعو وتهيّج الجماهير ... وتتعرّض للقمع والضرب بطريقة شرسة ... في عهد الرئيس الحالي حسني مبارك! ... وليس في عهد الرئيس الراحل "الدكتاتوري" عبد الناصر، وليس في عهد الرئيس الراحل "المؤمن" أنور السادات ... وهذه خطوة مهمة، حتى لو كانت شكلية او استثنائية. إذ انتقلت السينما المصرية الى مرحلة جديدة، يجب البناء عليها واستغلالها من قبل السينمائيين الآخرين. أصبح من الممكن – بل يجب – نقد الحاضر والنظام السياسي الحاكم حالياً. وربما انتهينا من نقد الأموات والراحلين والعهود "البائدة"، كما لو اننا أمام حركة "كفاية" سينمائياً
كما يبرهن "الحامدان" سينمائياًعلى إخلاصهما "الجنسي" للأصل الروائي هذه المرة ... بالسرد السينمائي المذهل والصريح والشفاف لحكاية الصحفي الشاذ جنسياً حاتم رشيد "خالد الصاوي" ورفيقه المجنّد البسيط عبد ربّه "باسم السمرا". يبدع الصاوي في أداء دور الصياد الليلي الباحث عن الفرائس في لقطة رائعة، وتمنيت لو ان الرواية غير معروفة او مقروءة ... كي يصدم المشاهدون الى أبعد حدّ بما هو مقدم عليه. أما باسم سمرا، الذي كنا نحبه فقط لأنه يعمل مع الفنانين التقدميين – تلاميذ يوسف شاهين – والذين لم يستطيعوا الحصول منه أبداً على أي اداء مقنع في أفلامهم ... فانه يلعب دوره بسلاسة وجمال وعفوية غير مسبوقة ... ونطقه الجميل للكلمات الصعيدية ينسينا ان هذا هو السمرا الذي كنا نعرفه مع يسري نصرالله، وبالكاد نفهم ما يتمتم به
ان مشاهد تطور العلاقة بينهما وتفاصيلها ونهايتها التراجيدية بالنسبة للطرفين .... أخذت حيزاً مهما وكبيرا من التوتر ات والصراعات الدرامية في الفلم. إذ لم يجبن "الحامدان" من الخوض في مسألة المثلية الجنسية بشكل طبيعي، ونجحا في عرضها بحيادية على الشاشة .... وبجمالية واهتمام فائقين كما لو انها موضوع الفلم الوحيد والرئيس. وهذه سابقة أخرى يجب استغلالها والبناء عليها من قبل السينمائيين الآخرين في تناول مثل هذه المسائل .... أتذكر في هذا المجال؛ فلمي "أسرار البنات" و"دنيا" بموضوعيهما الجريئين جداً
وفي تقييمي الشخصي، يستحق الثلاثي محمد إمام وخالد الصاوي وباسم السمرا أرفع الجوائز على أدائهم لهذه الأدوار الصعبة و"القلقة" ... وخصوصاً ان دور الشاذ جنسياً شبه جديد على السينما العربية، وأقصد بهذه المساحة والفهم غير المسبوقين على الشاشة ... وربما كان الصاوي متوترا أحياناً، وخارج الشخصية، وهو يحاول استحضار أدواته الفنية، عندما كان يمارس فن الإغواء الصعب مع "العسكري المستقيم" عبد ربه. لكنه كان ناجحاً تماماً بعد ذلك ... الى الحد الذي أثار استنكار الجمهور
وقد ذكرنا البعض من النقّاد والكتّاب لعرب عن عمد؛ بأن خالد الصاوي لعب دور الزعيم "خالد الذكر" عبد الناصر في فلم سابق ... في محاولة لاستعداء القراء والمشاهدين عليه وعلى دوره وعلى الشذوذ الجنسي. ولا ندري : هل كان على الصاوي ان لا يلعب الدور كي لا يسيء الى ذكريات هؤلاء عن الزعيم الراحل مجسداً بشخص الصاوي ... وهل كان على الراحل أحمد زكي ان لا يلعب دور السادات بعد ان لعب دور عبد الناصر؟
الحكايات الأخرى ... الخطاب السياسي
الخط القصصي الاخر الذي التزم به الفلم، هو حكاية التاجر الحاج عزّام "نور الشريف" وسعاد "سمية الخشّاب" والوزير الفاسد كمال الفولي "خالد صالح" ... المكرّسة كلياً لفضح الفساد الاداري الحكومي والرشوة والبلطجة التي يمارسها النظام الحاكم على من هم تحت سلطته من أغنياء وفقراء، وكذلك لفضح ممارسات الأثرياء الجدد تجاه الفقراء والمرأة بدعم من الدولة وبركة بعض رجال الدين. هذه الحكاية هي الوجه الآخر للنظام السياسي (الفساد السياسي والمالي) ... الذي رأينا وجهه الأول في حكاية الشاذلي، ونقصد (القمع والاضطهاد) اللذان تتعرض له المعارضة المصرية – اسلامية كانت او غير اسلامية. لم يرحم "الحامدان" أحداً في سرد هذه الحكاية سينمائياً بتفصيل وتعمّق ... لكنهما استبعدا الاشارة الى "رأس كبيرة" تتحكّم بكل شيء – كما يرد في الرواية – لأن ذلك في اعتقادي هو اشارة مباشرة الى رأس النظام الحاكم .... وكفاية بقى، وما تودوناش في داهية
وهذا لا يعني ان الخطوط القصصية الأخرى غير مهمة او قد تمّ إهمالها ... ونقصد حكايات زكي باشا الدسوقي "عادل إمام" وأخته دولت "إسعاد يونس" وعشيقته السابقة كريستين "يسرا" وحبيبته الشابة بثينة "هند صبري" وخادمه فانوس "أحمد راتب" وشقيق الأخير ملاك "أحمد بدير" والمحامي فكري عبد الشهيد "يوسف داود" ... والصراعات والمصالح المتداخلة فيما بينهم، والتعليقات ذات الطابع الأخلاقي والسياسي ... والنقد او الهجاء الذي يوجهه ابن الباشا الى المجتمع المصري وانحدار القيم الثقافية والاخلاقية والجمالية بمرور الوقت وبتأثير ثورة يوليو/تموز 1952 وغير ذلك ... جميعها اخذت الحيّز الدرامي والزمني الكافي، وجسّدها أفضل الفنانين المجرّبين، بجماليات وتصوير سينمائي ممتاز، وتداخلات وانتقالات سلسة ولذيذة بين الحكايات والشخصيات
وفي مراسلات بين الناقدين المصريين "صلاح هاشم" و"صبري حافظ" حول سلبيات الفلم، يعزو الأخير معظم الملاحظات السلبية على تصوير الشخصيات في الفلم الى الأصل الروائي نفسه؛ وهو يرى في تصوير الشخصيات القبطية – فانوس، ملاك، فكري – تنميطاً من النوع السيء للأقباط المصريين، ربما يصل الى طائفية مقيتة ... لأن أدوارهم كانت شخصيات انتهازية ومتآمرة وناكرة للجميل في الرواية، وقد التزم الفلم بذلك تماماً ... ولم يحاول ان يغيّره او يخففه على الأقل. ليس معنى هذا ان شخصيات المسلمين – في الفلم او الرواية – كانت أفضل حالاً : ففيها تاجر المخدرات والوزير الفاسد وزئر النساء والشاذين جنسيا والساقطات والعاهرات والمتطرفين الدينيين ... وهذا يخفّف من تهمة حافظ للرواية والفلم بالتنميط السيء، بل بالعكس ... ربما أراد الأسواني ان يقول ان الأقباط – في مصر – ليسوا أفضل من اخوانهم المسلمين ... وهذا يقودنا ايضا الى الملاحظة الشعبية الذكية : هؤلاء مصريون بالفعل (الشخصيات) ... لكن هذه ليست مصر، مصر أكبر وأعظم
وهنا، يجب ان لا ننسى ان الخطاب السياسي للرواية هو الخطاب السياسي للروائي أولاً وأخيراً. ومن السخف مطابقة الواقع بالعمل الروائي، وكأن الرواية وثيقة اجتماعية او انثروبولوجية او تاريخية ... والحقيقة، انه حتى الوثيقة "شخصية" و/او قابلة للتزييف والتحوير ... هذا هو فحوى درس "جورج أورويل" لنا في هذا العصر. لقد كتب علاء الأسواني رواية "طبيعية" على طريقة الروائي الفرنسي الشهير "أميل زولا" ... وادعى الحيادية في كل ما يعرضه ... كما لو انه طبيب معالج ( بالطبع هو طبيب أسنان). واستطاع الفلم بفضل صنّاعه وأبطاله إبراز ما لم يكن في الإمكان إبرازه إطلاقاً – في السابق – بهذه الجرأة والبساطة والوضوح والجمال
ان الكاتب يبدو قدرياً في الرواية، يميل الى معاقبة الشخصيات المختلفة جسدياً او معنوياً ... كما لو كان رسول العدالة الالهية ... ومن لا يعاقبه الله ... يسلّط عليه ظالماً او مجرماً آخراً للانتقام منه. في بعض الأحيان كنت أشعر ان منطلقات الكاتب الروائي أخلاقية او "إصلاحية" اكثر مما هي سياسية او فنية. وقد تحدث الكاتب في لقاءات صحفية متعددة حول موقفه من القضايا السياسية والاجتماعية في مصر، محاولاً الردّ على الانتقادات الموجهة اليه والى عمله الروائي من النواحي السياسية والاجتماعية ... فشنّ هجوما كاسحاً على المرحلة "الساداتية" التي سمحت بصعود التيارات الاسلامية المتطرفة وشيوع القيم "الوهابية" في المجتمع وانعكاسها على الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية .... لقد أراد ان يخفف من حدة النقد اليساري والناصري الموجّه اليه في هذه الظروف بالذات، وان يبعد نفسه عن التيارات السياسية الاسلامية
إحدى مشاكل مطابقة الرواية و/او الفلم بالواقع المصري تظهر في كتابات بعض النقاد والكتّاب غير المصريين ... الذين يعتقدون ان كل هذه "السيئات" و"المعصيات" تحدث في مصر "العروبة" فقط ... وكأن باقي البلدان العربية فراديس وواحات للديمقراطية وحقوق الانسان والمرأة والعدالة الاجتماعية .... ويبلغ بهم ضيق الأفق انهم لا يستطيعون قراءة مجتمعاتهم على ضوء مثل هذه الأعمال الفنية النقدية. ولهؤلاء نقول ما يقوله "حاتم رشيد" لرفيقه "عبد ربه" عندما يشتكي الأخير من آثامهما :" ... اننا لسنا وحدنا في هذه الفحشاء ... انهم يرتكبونها في آسيا وأوروبا وأمريكا .... والخليج أيضاً ....". هذه ليست مصر وحدها في هذه البلايا ... انها صورة للمجتمعات العربية المعاصرة. في كل دولة عربية هناك "عمارة يعقوبيان" : فترة "ذهبية" قريبة من عهود السيطرة الكولونيالية والتأسيس ... ينأى عنها المجتمع كلما تقدم في الزمان واقترب من الحاضر. مشكلات وظواهر مثل : الإرهاب والعنف والفساد السياسي والمالي والأخلاقي والتحلّل العائلي وغياب العدالة الاجتماعية .... أصبحت مسائل عالمية او "عولمية"، يعاني منها معظم البشر ... إلا القلّة المحظوظة!
خاتمة ... وتوقعات
في النهاية، نستطيع القول : ان الفلم كان أميناً للرواية الى أبعد الحدود ... مثلها رجعي، نوستالجي، أرستقراطي النزعة ... لكن من دون الوقوع في فخ تمجيد الطبقات القديمة التي شاخت وتفسّخت ... من دون تجاهل للقوى الجديدة الصاعدة في المجتمع. انه مرثية لمصر القديمة "النظيفة" ... وإدانة لمصر الحالية "القاسية" على أبنائها جميعاً : فقراء وأغنياء، مسلمين وأقباط، رجال ونساء. الخلاصة : انه ينتقد بشدة التطرّف الاسلامي العنيف والممارسات القمعية للحكومة المصرية في هذه الأوقات، ويتنبأ لهما بالزوال والعبثية في مشهد النهاية : قتل طه الشاذلي والضابط المسؤول عن تعذيبه ... وتجاور جثتيهما وسيلان دمائيهما العبثي على أرضية الشارع.
التصوير (سامح سليم) والموسيقى (خالد حمّاد) في الفلم كانا ممتازين ... خدما السرد السينمائي والتوتر الدرامي الى أبعد الحدود، وتداخلا أحياناً بشكل مذهل ورسما لوحات تشكيلية متحركة للقاهرة : سطوحاً وشوارعاً وأناساً ... ولم يفرضا نفسيهما بإصرار على المشاهدين. كما تداخلت الخيوط القصصية المتعددة على يدي المخرج وتنامت بسلاسة ورشاقة، بحيث تتبعها وفهمها المشاهدون بيسر، وتفاعلوا مع أبطالها بسهولة
الآن، وبعد ترشيح الفلم رسمياً الى جوائز الأوسكار، في مسابقة الأفلام الناطقة بلغة غير الانكليزية ... أعتقد ان أكاديمية السينما الأمريكية سوف تهلّل للفلم كثيراً، ليس لجمالياته والاتقان في صنعه فحسب ... بل لأنه يوجه الانتقادات اللاذعة للمجتمعات العربية/الاسلامية، ويعرّي ويفضح كل ما تحاول إخفاؤه عادة مثل هذه المجتمعات. انه، ببساطة، يزيل هالة القداسة الزائفة التي ترغب مثل هذه المجتمعات في ارتدائها دائماً. انه مكمّل – تقريباً – لفلم "الجنة الآن" في ما بدأه في العام الماضي ... لكنه يسلط الضوء هذه المرة على البنى التقليدية والمتحركة في المجتمعات العربية ... ويفسح المجال للمختلفين سياسياً وجنسياً في مجتمعاتنا للظهور وطرح أنفسهم بطريقة عقلانية ومقبولة وانسانية الى حد ما. وربما يكافىء الأمريكيون الجهود السينمائية والسياسية لصنّاع الفلم وحلفائهم في الحكومة المصرية ... وكل هذا هو كسب حقيقي للسينما العربية التقليدية في النهاية
الأبطال الحقيقيون : السياسة والجنس
نتعرّف في اللقطات الأولى من الفلم على طه الشاذلي "محمد إمام" ابن البواب ... وهو يغسل سلّم العمارة مع والده، ويمسح البلاط أمام ساكني العمارة الذين يعاملونه باستعلاء. لكن الشاذلي الذي يفشل في مساعيه للدخول الى كلية الشرطة بسبب وضعه الطبقي ... نراه يتحول بسرعة الى ناشط طلابي اسلامي، يقود التظاهرات في الجامعة بشجاعة تثير الاعجاب، ويهرب من قوات الشرطة والأمن، ليقع لاحقاً في قبضتهم. ثم يتعرض الى تعذيب بشع، ونراه جالساً في زنزانته الضيقة، عارياً، باكياً، مصالباً ساقيه أمام وسطه، بعد أن هتكوا عرضه عدة مرات (كما يقول لاحقا) .... في لقطة تعبيرية، انسانية، رائعة. محمد إمام يتحول "سينمائياً" أمام أعيننا ... من انسان مسحوق ... الى ناشط سياسي ... الى شهيد "حي" ... ببراعة وتفوّق وحضور رائع
في هذه اللقطات، يثبت كاتب النصّ السينمائي "وحيد حامد" انه لا يخون الرواية التي تشي – الى حدٍ ما – بالتعاطف مع الاسلاميين كمعارضين سياسيين. وفي هذه اللقطات أيضاً، يثبت المخرج "مروان حامد" انه لا يخون النصّ السينمائي المكتوب ... ( رحم الله الروائي الكبير نجيب محفوظ الذي ظلت أعماله تتعرض للخيانة المباشرة والتسطيح وإعادة القراءة والتفسير على مدى عشرات السنين على أيدي كبار المخرجين المصريين ). والحقيقة، انه من الصعب خيانة نصّ معروف ومتداول ومترجم الى هذا الحد ... مثل رواية "عمارة يعقوبيان"، انه ضرب من السخف والضحك على العقول والذقون. لذا، فانه من الأفضل ان ينتجها سينمائياً – ويستغلها اعلامياً – أصدقاء النظام الحاكم في مصر؛ المنتج "عماد الدين اديب، الكاتب السينمائي وحيد حامد، النجم الكبير عادل إمام ... ويحولوها الى نقطة في صالح النظام، كنوع من النقد الذاتي واستيعاب للآراء المعارضة. لا أتصور ان أية مجموعة سينمائية اخرى كانت ستتجرأ على تنفيذ الفلم او يسمح لها بذلك من قبل الرقابة ... وهذا لا يقلل أبداً من القيمة الفنية والنقدية للفلم، ولا من مصداقية صنّاعه والعاملين فيه. ويعبّر الناقد المصري "سمير فريد" عن هذه الأفكار بصراحة ووضوح ... معتبراً تنفيذ الفلم جزءاً من عملية الاصلاح السياسي و"التوريث" التي يقودها جيل الشباب في الحزب الوطني، بقيادة السيد "جمال مبارك" شخصياً
ان حكاية الشاذلي تسرد بشكل سينمائي ممتاز، ونشاهد المجموعات الاسلامية وهي تدعو وتهيّج الجماهير ... وتتعرّض للقمع والضرب بطريقة شرسة ... في عهد الرئيس الحالي حسني مبارك! ... وليس في عهد الرئيس الراحل "الدكتاتوري" عبد الناصر، وليس في عهد الرئيس الراحل "المؤمن" أنور السادات ... وهذه خطوة مهمة، حتى لو كانت شكلية او استثنائية. إذ انتقلت السينما المصرية الى مرحلة جديدة، يجب البناء عليها واستغلالها من قبل السينمائيين الآخرين. أصبح من الممكن – بل يجب – نقد الحاضر والنظام السياسي الحاكم حالياً. وربما انتهينا من نقد الأموات والراحلين والعهود "البائدة"، كما لو اننا أمام حركة "كفاية" سينمائياً
كما يبرهن "الحامدان" سينمائياًعلى إخلاصهما "الجنسي" للأصل الروائي هذه المرة ... بالسرد السينمائي المذهل والصريح والشفاف لحكاية الصحفي الشاذ جنسياً حاتم رشيد "خالد الصاوي" ورفيقه المجنّد البسيط عبد ربّه "باسم السمرا". يبدع الصاوي في أداء دور الصياد الليلي الباحث عن الفرائس في لقطة رائعة، وتمنيت لو ان الرواية غير معروفة او مقروءة ... كي يصدم المشاهدون الى أبعد حدّ بما هو مقدم عليه. أما باسم سمرا، الذي كنا نحبه فقط لأنه يعمل مع الفنانين التقدميين – تلاميذ يوسف شاهين – والذين لم يستطيعوا الحصول منه أبداً على أي اداء مقنع في أفلامهم ... فانه يلعب دوره بسلاسة وجمال وعفوية غير مسبوقة ... ونطقه الجميل للكلمات الصعيدية ينسينا ان هذا هو السمرا الذي كنا نعرفه مع يسري نصرالله، وبالكاد نفهم ما يتمتم به
ان مشاهد تطور العلاقة بينهما وتفاصيلها ونهايتها التراجيدية بالنسبة للطرفين .... أخذت حيزاً مهما وكبيرا من التوتر ات والصراعات الدرامية في الفلم. إذ لم يجبن "الحامدان" من الخوض في مسألة المثلية الجنسية بشكل طبيعي، ونجحا في عرضها بحيادية على الشاشة .... وبجمالية واهتمام فائقين كما لو انها موضوع الفلم الوحيد والرئيس. وهذه سابقة أخرى يجب استغلالها والبناء عليها من قبل السينمائيين الآخرين في تناول مثل هذه المسائل .... أتذكر في هذا المجال؛ فلمي "أسرار البنات" و"دنيا" بموضوعيهما الجريئين جداً
وفي تقييمي الشخصي، يستحق الثلاثي محمد إمام وخالد الصاوي وباسم السمرا أرفع الجوائز على أدائهم لهذه الأدوار الصعبة و"القلقة" ... وخصوصاً ان دور الشاذ جنسياً شبه جديد على السينما العربية، وأقصد بهذه المساحة والفهم غير المسبوقين على الشاشة ... وربما كان الصاوي متوترا أحياناً، وخارج الشخصية، وهو يحاول استحضار أدواته الفنية، عندما كان يمارس فن الإغواء الصعب مع "العسكري المستقيم" عبد ربه. لكنه كان ناجحاً تماماً بعد ذلك ... الى الحد الذي أثار استنكار الجمهور
وقد ذكرنا البعض من النقّاد والكتّاب لعرب عن عمد؛ بأن خالد الصاوي لعب دور الزعيم "خالد الذكر" عبد الناصر في فلم سابق ... في محاولة لاستعداء القراء والمشاهدين عليه وعلى دوره وعلى الشذوذ الجنسي. ولا ندري : هل كان على الصاوي ان لا يلعب الدور كي لا يسيء الى ذكريات هؤلاء عن الزعيم الراحل مجسداً بشخص الصاوي ... وهل كان على الراحل أحمد زكي ان لا يلعب دور السادات بعد ان لعب دور عبد الناصر؟
الحكايات الأخرى ... الخطاب السياسي
الخط القصصي الاخر الذي التزم به الفلم، هو حكاية التاجر الحاج عزّام "نور الشريف" وسعاد "سمية الخشّاب" والوزير الفاسد كمال الفولي "خالد صالح" ... المكرّسة كلياً لفضح الفساد الاداري الحكومي والرشوة والبلطجة التي يمارسها النظام الحاكم على من هم تحت سلطته من أغنياء وفقراء، وكذلك لفضح ممارسات الأثرياء الجدد تجاه الفقراء والمرأة بدعم من الدولة وبركة بعض رجال الدين. هذه الحكاية هي الوجه الآخر للنظام السياسي (الفساد السياسي والمالي) ... الذي رأينا وجهه الأول في حكاية الشاذلي، ونقصد (القمع والاضطهاد) اللذان تتعرض له المعارضة المصرية – اسلامية كانت او غير اسلامية. لم يرحم "الحامدان" أحداً في سرد هذه الحكاية سينمائياً بتفصيل وتعمّق ... لكنهما استبعدا الاشارة الى "رأس كبيرة" تتحكّم بكل شيء – كما يرد في الرواية – لأن ذلك في اعتقادي هو اشارة مباشرة الى رأس النظام الحاكم .... وكفاية بقى، وما تودوناش في داهية
وهذا لا يعني ان الخطوط القصصية الأخرى غير مهمة او قد تمّ إهمالها ... ونقصد حكايات زكي باشا الدسوقي "عادل إمام" وأخته دولت "إسعاد يونس" وعشيقته السابقة كريستين "يسرا" وحبيبته الشابة بثينة "هند صبري" وخادمه فانوس "أحمد راتب" وشقيق الأخير ملاك "أحمد بدير" والمحامي فكري عبد الشهيد "يوسف داود" ... والصراعات والمصالح المتداخلة فيما بينهم، والتعليقات ذات الطابع الأخلاقي والسياسي ... والنقد او الهجاء الذي يوجهه ابن الباشا الى المجتمع المصري وانحدار القيم الثقافية والاخلاقية والجمالية بمرور الوقت وبتأثير ثورة يوليو/تموز 1952 وغير ذلك ... جميعها اخذت الحيّز الدرامي والزمني الكافي، وجسّدها أفضل الفنانين المجرّبين، بجماليات وتصوير سينمائي ممتاز، وتداخلات وانتقالات سلسة ولذيذة بين الحكايات والشخصيات
وفي مراسلات بين الناقدين المصريين "صلاح هاشم" و"صبري حافظ" حول سلبيات الفلم، يعزو الأخير معظم الملاحظات السلبية على تصوير الشخصيات في الفلم الى الأصل الروائي نفسه؛ وهو يرى في تصوير الشخصيات القبطية – فانوس، ملاك، فكري – تنميطاً من النوع السيء للأقباط المصريين، ربما يصل الى طائفية مقيتة ... لأن أدوارهم كانت شخصيات انتهازية ومتآمرة وناكرة للجميل في الرواية، وقد التزم الفلم بذلك تماماً ... ولم يحاول ان يغيّره او يخففه على الأقل. ليس معنى هذا ان شخصيات المسلمين – في الفلم او الرواية – كانت أفضل حالاً : ففيها تاجر المخدرات والوزير الفاسد وزئر النساء والشاذين جنسيا والساقطات والعاهرات والمتطرفين الدينيين ... وهذا يخفّف من تهمة حافظ للرواية والفلم بالتنميط السيء، بل بالعكس ... ربما أراد الأسواني ان يقول ان الأقباط – في مصر – ليسوا أفضل من اخوانهم المسلمين ... وهذا يقودنا ايضا الى الملاحظة الشعبية الذكية : هؤلاء مصريون بالفعل (الشخصيات) ... لكن هذه ليست مصر، مصر أكبر وأعظم
وهنا، يجب ان لا ننسى ان الخطاب السياسي للرواية هو الخطاب السياسي للروائي أولاً وأخيراً. ومن السخف مطابقة الواقع بالعمل الروائي، وكأن الرواية وثيقة اجتماعية او انثروبولوجية او تاريخية ... والحقيقة، انه حتى الوثيقة "شخصية" و/او قابلة للتزييف والتحوير ... هذا هو فحوى درس "جورج أورويل" لنا في هذا العصر. لقد كتب علاء الأسواني رواية "طبيعية" على طريقة الروائي الفرنسي الشهير "أميل زولا" ... وادعى الحيادية في كل ما يعرضه ... كما لو انه طبيب معالج ( بالطبع هو طبيب أسنان). واستطاع الفلم بفضل صنّاعه وأبطاله إبراز ما لم يكن في الإمكان إبرازه إطلاقاً – في السابق – بهذه الجرأة والبساطة والوضوح والجمال
ان الكاتب يبدو قدرياً في الرواية، يميل الى معاقبة الشخصيات المختلفة جسدياً او معنوياً ... كما لو كان رسول العدالة الالهية ... ومن لا يعاقبه الله ... يسلّط عليه ظالماً او مجرماً آخراً للانتقام منه. في بعض الأحيان كنت أشعر ان منطلقات الكاتب الروائي أخلاقية او "إصلاحية" اكثر مما هي سياسية او فنية. وقد تحدث الكاتب في لقاءات صحفية متعددة حول موقفه من القضايا السياسية والاجتماعية في مصر، محاولاً الردّ على الانتقادات الموجهة اليه والى عمله الروائي من النواحي السياسية والاجتماعية ... فشنّ هجوما كاسحاً على المرحلة "الساداتية" التي سمحت بصعود التيارات الاسلامية المتطرفة وشيوع القيم "الوهابية" في المجتمع وانعكاسها على الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية .... لقد أراد ان يخفف من حدة النقد اليساري والناصري الموجّه اليه في هذه الظروف بالذات، وان يبعد نفسه عن التيارات السياسية الاسلامية
إحدى مشاكل مطابقة الرواية و/او الفلم بالواقع المصري تظهر في كتابات بعض النقاد والكتّاب غير المصريين ... الذين يعتقدون ان كل هذه "السيئات" و"المعصيات" تحدث في مصر "العروبة" فقط ... وكأن باقي البلدان العربية فراديس وواحات للديمقراطية وحقوق الانسان والمرأة والعدالة الاجتماعية .... ويبلغ بهم ضيق الأفق انهم لا يستطيعون قراءة مجتمعاتهم على ضوء مثل هذه الأعمال الفنية النقدية. ولهؤلاء نقول ما يقوله "حاتم رشيد" لرفيقه "عبد ربه" عندما يشتكي الأخير من آثامهما :" ... اننا لسنا وحدنا في هذه الفحشاء ... انهم يرتكبونها في آسيا وأوروبا وأمريكا .... والخليج أيضاً ....". هذه ليست مصر وحدها في هذه البلايا ... انها صورة للمجتمعات العربية المعاصرة. في كل دولة عربية هناك "عمارة يعقوبيان" : فترة "ذهبية" قريبة من عهود السيطرة الكولونيالية والتأسيس ... ينأى عنها المجتمع كلما تقدم في الزمان واقترب من الحاضر. مشكلات وظواهر مثل : الإرهاب والعنف والفساد السياسي والمالي والأخلاقي والتحلّل العائلي وغياب العدالة الاجتماعية .... أصبحت مسائل عالمية او "عولمية"، يعاني منها معظم البشر ... إلا القلّة المحظوظة!
خاتمة ... وتوقعات
في النهاية، نستطيع القول : ان الفلم كان أميناً للرواية الى أبعد الحدود ... مثلها رجعي، نوستالجي، أرستقراطي النزعة ... لكن من دون الوقوع في فخ تمجيد الطبقات القديمة التي شاخت وتفسّخت ... من دون تجاهل للقوى الجديدة الصاعدة في المجتمع. انه مرثية لمصر القديمة "النظيفة" ... وإدانة لمصر الحالية "القاسية" على أبنائها جميعاً : فقراء وأغنياء، مسلمين وأقباط، رجال ونساء. الخلاصة : انه ينتقد بشدة التطرّف الاسلامي العنيف والممارسات القمعية للحكومة المصرية في هذه الأوقات، ويتنبأ لهما بالزوال والعبثية في مشهد النهاية : قتل طه الشاذلي والضابط المسؤول عن تعذيبه ... وتجاور جثتيهما وسيلان دمائيهما العبثي على أرضية الشارع.
التصوير (سامح سليم) والموسيقى (خالد حمّاد) في الفلم كانا ممتازين ... خدما السرد السينمائي والتوتر الدرامي الى أبعد الحدود، وتداخلا أحياناً بشكل مذهل ورسما لوحات تشكيلية متحركة للقاهرة : سطوحاً وشوارعاً وأناساً ... ولم يفرضا نفسيهما بإصرار على المشاهدين. كما تداخلت الخيوط القصصية المتعددة على يدي المخرج وتنامت بسلاسة ورشاقة، بحيث تتبعها وفهمها المشاهدون بيسر، وتفاعلوا مع أبطالها بسهولة
الآن، وبعد ترشيح الفلم رسمياً الى جوائز الأوسكار، في مسابقة الأفلام الناطقة بلغة غير الانكليزية ... أعتقد ان أكاديمية السينما الأمريكية سوف تهلّل للفلم كثيراً، ليس لجمالياته والاتقان في صنعه فحسب ... بل لأنه يوجه الانتقادات اللاذعة للمجتمعات العربية/الاسلامية، ويعرّي ويفضح كل ما تحاول إخفاؤه عادة مثل هذه المجتمعات. انه، ببساطة، يزيل هالة القداسة الزائفة التي ترغب مثل هذه المجتمعات في ارتدائها دائماً. انه مكمّل – تقريباً – لفلم "الجنة الآن" في ما بدأه في العام الماضي ... لكنه يسلط الضوء هذه المرة على البنى التقليدية والمتحركة في المجتمعات العربية ... ويفسح المجال للمختلفين سياسياً وجنسياً في مجتمعاتنا للظهور وطرح أنفسهم بطريقة عقلانية ومقبولة وانسانية الى حد ما. وربما يكافىء الأمريكيون الجهود السينمائية والسياسية لصنّاع الفلم وحلفائهم في الحكومة المصرية ... وكل هذا هو كسب حقيقي للسينما العربية التقليدية في النهاية
يوخنا دانيال
-----
سينما ايزيس.صورة تشبهنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق