لقطة من فيلم " الريح التي تهز الشعير " للبريطاني كين لوش الحاصل علي سعفة " كان " الذهبية
الريح التي تهز الشعير وسينما المقاومة عند كين لوش
بقلم : صلاح هاشم
من أجمل وأرقي الأفلام التي خرجت للعرض حديثا في باريس ونرشحها للمشاهدة عن جدارة فيلم " الريح التي تهز الشعير " الحاصل علي جائزة " السعفة الذهبية " في مهرجان " كان " ومن إخراج البريطاني كين لوش، ونعتبره من أحسن وانضج أفلامه ولحد الآن. ويحكي الفيلم الذي تبدأ أحداثه عام 1920 ، عن حركة المقاومة الايرلندية ضد الاستعمار البريطاني ، من خلال تراجيديا تاريخية إنسانية سياسية، يضطلع ببطولتها شقيقان ايرلنديان، ينخرط احدهما في جيش حركة التحرير، في أعماق الريف الايرلندي ، في الوقت الذي يستعد فيه شقيقه - أنبه وأذكي صبي في تلك الأسرة الايرلندية كبيرة العدد، مثل العائلات الريفية في الريف المصري - يستعد للذهاب الي العاصمة ليستكمل دراسته العليا، ويصبح طبيبا. إلا انه يفاجئ وهو يقف علي رصيف محطة القطار، بهجمة تفتيش عسكرية بريطانية متوحشة، يهان فيها ناظر المحطة وسائق القطار، ويضربهما العسكري البريطاني بكعب البندقية، فيقرر البقاء والانخراط في سلك المقاومة. وكان كين لوش الذي افتتح فيلمه بمشهد رائع في قلب الريف الايرلندي ، لأناس ريفيين طيبين مسالمين يلعبون في المزارع، ثم يعودون إلي بيوتهم الريفية الوديعة، فإذا بجنود الاحتلال يهجمون علي بيت من تلك البيوت، في حملة تفتيش عسكرية عنترية وحشية، ويطلبون من الشباب ومن ضمنهم بطل الفيلم أن يعلنوا عن أسمائهم وهويتهم، وينكدون عليهم عيشتهم، وعندما يرفض احد الشبان أن ينصاع لأوامر القائد العسكري الذي فقد صوابه من الغضب، يقتاده الجنود إلي داخل البيت، ثم يطعنونه في مقتل بالسونكي، حربة البندقية
ويكشف كين لوش من خلال هذا المشهد المرعب في أول الفيلم، عن طبيعة الاحتلال البريطاني الغاشم، بكل عنفه وجبروته ووحشيته الدموية، كما يكشف أيضا عن نفسية بطل الفيلم المتردد، بين البقاء والانخراط في المقاومة، او السفر لتكملة دراسته الطبية. وتتطور أحداث الفيلم في الجزء الأول، لتقدم بانوراما تاريخية "موثقة " لحركة المقاومة في الريف في الجنوب الايرلندي في تلك الفترة، ويصور كين لوش هنا أحداث فيلمه في الأماكن الحقيقية التي وقعت فيها تلك الأحداث، كاشفا عن سمة أساسية من سمات أسلوب هذا المخرج البريطاني العملاق، ألا وهي تجنب التصوير داخل البلاتوهات والاستوديوهات، وتصوير أحداث أفلامه علي رصيف الشارع البريطاني، وسط الناس، ليحكي عن ضياع البشر الهامشيين المعذبين، في مجتمعات الاستهلاك البريطانية المادية ألكبري وهمومهم، ويتعاطف معهم ويحكي عن مشاكلهم كما في فيلمه العذب الاثير " انها تمطر حجارة
الفيلم السياسي يحكي بالضرورة عن تناقضات اجتماعية
ولذلك نجد أن أفلام كين لوش، هي أفلام سياسية بالدرجة الأولي ،لا لأنها تحكي عن اغتيال زعيم سياسي، أو صعود حزب من الأحزاب السياسية إلي سدة الحكم ، بل لأنها تحكي بالدرجة الأولي عن تناقضات المجتمع الرأسمالي البريطاني المادي الأناني، وتعريها وتفضحها، أي أنها لا تكتفي بالإعلان والكشف عن الواجهة البراقة اللامعة السياحية، التي تزغلل العيون، في تلك الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، بل يتجاوزها ليغوص أكثر في الداخل، وينبش في ذاكرتها، ويمسك بأحشائها الباطنية الخفية عن العيون الناعسة، ويوقظها من غفلتها
وكما فعل كين لوش في فيلم " حياة عائلية " Family Lifeا وفي جل أفلامه، يصور في " الريح التي تهز الشعير " وهي جملة في أغنية شعبية لحركة المقاومة، تعلن علي لسان امرأة عجوز ان تلك الريح التي تهز الشعير، ما هي هي إلا نذير لصاعقة قادمة، تتشكل في الأفق، وستأتي علي كل شيء، يصور كين لوش أحداث فيلمه في أماكنها الطبيعية الحقيقية، ويكشف كيف صارت ايرلندا تحت السيطرة البريطانية، أرضا بلقعا خربة طاردة، تئن من مشاكل البطالة، وسياسات التجويع التي تدفع إلي الهجرة ومغادرة البلاد، لكي تصبح منجما من ذهب للأيدي العاملة الايرلندية النازحة إلي انجلترا، فيمنح كين لوش فيلمه مصداقية تسجيلية توثيقية، إن صح التعبير، تضيف إلي، وتغني الخيط الدرامي المتصاعد في الفيلم
شاشة باريس 2006
الريح التي تهز الشعير وسينما المقاومة عند كين لوش
بقلم : صلاح هاشم
من أجمل وأرقي الأفلام التي خرجت للعرض حديثا في باريس ونرشحها للمشاهدة عن جدارة فيلم " الريح التي تهز الشعير " الحاصل علي جائزة " السعفة الذهبية " في مهرجان " كان " ومن إخراج البريطاني كين لوش، ونعتبره من أحسن وانضج أفلامه ولحد الآن. ويحكي الفيلم الذي تبدأ أحداثه عام 1920 ، عن حركة المقاومة الايرلندية ضد الاستعمار البريطاني ، من خلال تراجيديا تاريخية إنسانية سياسية، يضطلع ببطولتها شقيقان ايرلنديان، ينخرط احدهما في جيش حركة التحرير، في أعماق الريف الايرلندي ، في الوقت الذي يستعد فيه شقيقه - أنبه وأذكي صبي في تلك الأسرة الايرلندية كبيرة العدد، مثل العائلات الريفية في الريف المصري - يستعد للذهاب الي العاصمة ليستكمل دراسته العليا، ويصبح طبيبا. إلا انه يفاجئ وهو يقف علي رصيف محطة القطار، بهجمة تفتيش عسكرية بريطانية متوحشة، يهان فيها ناظر المحطة وسائق القطار، ويضربهما العسكري البريطاني بكعب البندقية، فيقرر البقاء والانخراط في سلك المقاومة. وكان كين لوش الذي افتتح فيلمه بمشهد رائع في قلب الريف الايرلندي ، لأناس ريفيين طيبين مسالمين يلعبون في المزارع، ثم يعودون إلي بيوتهم الريفية الوديعة، فإذا بجنود الاحتلال يهجمون علي بيت من تلك البيوت، في حملة تفتيش عسكرية عنترية وحشية، ويطلبون من الشباب ومن ضمنهم بطل الفيلم أن يعلنوا عن أسمائهم وهويتهم، وينكدون عليهم عيشتهم، وعندما يرفض احد الشبان أن ينصاع لأوامر القائد العسكري الذي فقد صوابه من الغضب، يقتاده الجنود إلي داخل البيت، ثم يطعنونه في مقتل بالسونكي، حربة البندقية
ويكشف كين لوش من خلال هذا المشهد المرعب في أول الفيلم، عن طبيعة الاحتلال البريطاني الغاشم، بكل عنفه وجبروته ووحشيته الدموية، كما يكشف أيضا عن نفسية بطل الفيلم المتردد، بين البقاء والانخراط في المقاومة، او السفر لتكملة دراسته الطبية. وتتطور أحداث الفيلم في الجزء الأول، لتقدم بانوراما تاريخية "موثقة " لحركة المقاومة في الريف في الجنوب الايرلندي في تلك الفترة، ويصور كين لوش هنا أحداث فيلمه في الأماكن الحقيقية التي وقعت فيها تلك الأحداث، كاشفا عن سمة أساسية من سمات أسلوب هذا المخرج البريطاني العملاق، ألا وهي تجنب التصوير داخل البلاتوهات والاستوديوهات، وتصوير أحداث أفلامه علي رصيف الشارع البريطاني، وسط الناس، ليحكي عن ضياع البشر الهامشيين المعذبين، في مجتمعات الاستهلاك البريطانية المادية ألكبري وهمومهم، ويتعاطف معهم ويحكي عن مشاكلهم كما في فيلمه العذب الاثير " انها تمطر حجارة
الفيلم السياسي يحكي بالضرورة عن تناقضات اجتماعية
ولذلك نجد أن أفلام كين لوش، هي أفلام سياسية بالدرجة الأولي ،لا لأنها تحكي عن اغتيال زعيم سياسي، أو صعود حزب من الأحزاب السياسية إلي سدة الحكم ، بل لأنها تحكي بالدرجة الأولي عن تناقضات المجتمع الرأسمالي البريطاني المادي الأناني، وتعريها وتفضحها، أي أنها لا تكتفي بالإعلان والكشف عن الواجهة البراقة اللامعة السياحية، التي تزغلل العيون، في تلك الإمبراطورية البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، بل يتجاوزها ليغوص أكثر في الداخل، وينبش في ذاكرتها، ويمسك بأحشائها الباطنية الخفية عن العيون الناعسة، ويوقظها من غفلتها
وكما فعل كين لوش في فيلم " حياة عائلية " Family Lifeا وفي جل أفلامه، يصور في " الريح التي تهز الشعير " وهي جملة في أغنية شعبية لحركة المقاومة، تعلن علي لسان امرأة عجوز ان تلك الريح التي تهز الشعير، ما هي هي إلا نذير لصاعقة قادمة، تتشكل في الأفق، وستأتي علي كل شيء، يصور كين لوش أحداث فيلمه في أماكنها الطبيعية الحقيقية، ويكشف كيف صارت ايرلندا تحت السيطرة البريطانية، أرضا بلقعا خربة طاردة، تئن من مشاكل البطالة، وسياسات التجويع التي تدفع إلي الهجرة ومغادرة البلاد، لكي تصبح منجما من ذهب للأيدي العاملة الايرلندية النازحة إلي انجلترا، فيمنح كين لوش فيلمه مصداقية تسجيلية توثيقية، إن صح التعبير، تضيف إلي، وتغني الخيط الدرامي المتصاعد في الفيلم
ذلك الخيط المؤسس علي حكاية الشقيقين، والذي يتطور من خلال الصراع بينهما في الجزء الثاني، إذ يكشف كين لوش، بعد أن مهد في الجزء الأول للجغرافيا السياسية وحركة النضال ومقاومة الاستعمار البريطاني الايرلندية وانتصاراتها ( هدنة 1921 )، يكشف عن الانقسام الذي حدث داخل حركة المقاومة ذاتها، بعد أن وقع رجال السياسة في الحركة معاهدة، تصبح ايرلندا بمقتضاها حرة مستقلة، لكن تظل تحت وصاية التاج البريطاني،وتدين له بالخضوع والولاء ، فيظن البعض من رجالات المقاومة أن المعاهدة ما هي خطوة أولي، في سبيل الحصول علي استقلال حقيقي لايرلندا ، في حين يعتقد بل يجزم البعض الآخر، بان بريطانيا ضحكت علي عقول رجال السياسة الايرلنديين السذج، وأكلت عقولهم بموائد الأكل الحافلة في لندن، والسهرات والاحتفالات والدعوات، وجعلتهم يوقعون علي تلك المعاهدة التي لم تكن إلا خدعة، لبقاء ايرلندا تحت سيطرة وهيمنة التاج البريطاني والي الأبد
وهنا يحدث الانقسام داخل صفوف المقاومة، بل وينضم بعض رجالاتها إلي جيش الاحتلال البريطاني ومن ضمنهم شقيق بطل الفيلم، وبسبب تلك المعاهدة التي باركتها الكنيسة الايرلندية، كما يكشف كين لوش في فيلمه، تشب نار الحرب الأهلية، ويصبح شقيق الأمس.. عدو اليوم، ويتقاتل الشقيقان
وهنا يحدث الانقسام داخل صفوف المقاومة، بل وينضم بعض رجالاتها إلي جيش الاحتلال البريطاني ومن ضمنهم شقيق بطل الفيلم، وبسبب تلك المعاهدة التي باركتها الكنيسة الايرلندية، كما يكشف كين لوش في فيلمه، تشب نار الحرب الأهلية، ويصبح شقيق الأمس.. عدو اليوم، ويتقاتل الشقيقان
وينهي كين لوش فيلمه " الأسود " الذي يذكرك برواية " الأخوة الأعداء " للروائي اليوناني العظيم نيكوس كازانتزاكيس عن الحرب الأهلية في اليونان ، ينهيه بمشهد سوف يظل محفورا في ذاكرتنا الي الأبد، الا وهو مشهد الإعدام في نهاية الفيلم، الذي تتأسي وتحزن له اقسي القلوب غلظة، ولن نحكي عنه، حتي نقطع عليكم الاستمتاع بمشاهدة الفيلم
فيلم " الريح التي تهز الشعير " الذي يحكي أيضا في ما يحكي عن قصة حب، وتضامن وحرب وألم ومشاركة، هو فيلم أسود أيضا بلون الحزن المقيت، ورداء الحداد الأسود الكالح علي عزيز، وتلك السحب السوداء المظلمة المهينة التي تنذر بالرعد والمطر، والتي تعبر سماوات حياتنا أحيانا ونحن نتطلع إليها في الأفق مرعوبين، ونتمنى أن تذهب والي غير رجعة. حزن أسود في " الريح التي تهز الشعير " لكن ليس كمثله حزن يطهرنا، كما في كل التراجيديات اليونانية العظيمة، لسوفوكل واسخاليس، ويغسلنا من كل سوءاتنا ، لكي يجعلنا في النهاية نتأمل ونفكر، ونتصالح مع أنفسنا والعالم
فيلم " الريح التي تهز الشعير " الذي يحكي أيضا في ما يحكي عن قصة حب، وتضامن وحرب وألم ومشاركة، هو فيلم أسود أيضا بلون الحزن المقيت، ورداء الحداد الأسود الكالح علي عزيز، وتلك السحب السوداء المظلمة المهينة التي تنذر بالرعد والمطر، والتي تعبر سماوات حياتنا أحيانا ونحن نتطلع إليها في الأفق مرعوبين، ونتمنى أن تذهب والي غير رجعة. حزن أسود في " الريح التي تهز الشعير " لكن ليس كمثله حزن يطهرنا، كما في كل التراجيديات اليونانية العظيمة، لسوفوكل واسخاليس، ويغسلنا من كل سوءاتنا ، لكي يجعلنا في النهاية نتأمل ونفكر، ونتصالح مع أنفسنا والعالم
يصالح كين لوش في فيلمه مابين السياسي والاجتماعي, مابين المنظر الطبيعي المضيء المنور في الخارج، وبين ظلام وعتمة المشاهد الداخلية، ويغلب علي الفيلم الأجواء المعتمة عموما، فيصالح في فيلمه مابين الكراهية والحب، ومابين الحرب والسلام, ويمزج كل هذه عناصر في بوتقة فنه، لكي يشير في ذات الوقت الذي يحكي فيه عن الحرب الأهلية في ايرلندا ، يشير إلي تلك الحروب، التي مازالت دائرة في أماكن أخري من العالم : في العراق وفلسطين ولبنان، ومازالت كما قال في حوار معه ، مازالت قوات الاحتلال البريطاني تشارك في احتلال العراق، مع الجيش الأمريكي الغازي. إني لم اصنع فيلمي – يقول كين لوش-لانتقد الشعب البريطاني، بل لانتقد الحكومة البريطانية التي مازالت تسير ذليلة، من خلال سياسات بلير، في طابور الأمريكي بوش، وتركع تحت إقدامه
فيلم " الريح التي تهز الشعير "، يتوهج بفنه وإنسانيته، وإيقاعه وحبكته، ويقدم لنا درسا في السينما العظيمة، ولذلك لم يكن غريبا أن تمنحه لجنة التحكيم في مهرجان" كان " الماضي جائزتها ألكبري " السعفة الذهبية " ، لكي تكون تلك الجائزة، بمثابة شهادة اعتزاز وتقدير وتكريم لكين لوش ، واعترافا منها بالإضافات المهمة التي حققها بأفلامه، لتطوير فن السينما في العالم كمؤلف ، والاقتراب به أكثر من تناقضات وهموم عصرنا، ومشاكل ومتناقضات مجتمعاتنا، وهي تضع الإنسان في مركز العالم، و تقدم نموذجا يحتذي من سينما المقاومة ، كاشفة عن ماسي وأهوال تلك الحروب، التي ما تزال تروعنا بدمارها ومذابحها، وبشاعتها في كل وقت ، وهو يقينا يستحق المشاهدة أكثر من مرة عن جدارة
صلاح هاشم
عن ايلاف
انظرالموقع الرسمي لسينما ايزيس تحت التأسيس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق