الاثنين، سبتمبر 25، 2006

سينما المقاومة عند ايليا سليمان تبدأ من سؤال الهوية . صلاح هاشم



سينما المقاومة عند ايليا سليمان
باريس- صلاح هاشم
من أجمل الافلام التي عرضها مهرجان الاسكندرية السينمائي الدولي 22، فيلم " يد الهية " للمخرج الفلسطيني ايليا سليمان، الذي حصل به علي جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان " كان السينمائي الدولي، وكان المهرجان نظم خلال دورته المنصرمة في الفترة من 5 الي 10 سبتمبر، تظاهرة خاصة ب " سينما المقاومة " ، عرض فيها الي جانب الفيلم المذكور مجموعة كبيرة من الافلام التي تحمل طابع المقاومة : مقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين، ومقاومة الاستبداد بكافة اشكاله وأساليبه، من ضمنها فيلم " كفر قاسم " للبناني برهان علوية ، و " المخدوعون " للمصري توفيق صالح ، وفيلم " عرس الجليل " للفلسطيني ميشيل خليفي وغيرها، كمانظم المهرجان ايضا ندوة "حول سينما المقاومة " حضرها المخرج اللبناني المتميز جان شمعون الذي عرض له المهرجان فيلمه التسجيلي الطويل " أرض النساء "، وبمشاركة مجموعة من كتاب ونقاد السينما، وربما كانت هذه الندوة، بالجمهور الواعي الذي استقطبته، والمحاور والقضايا التي ناقشتها، من أهم أحداث المهرجان في دورته 22
في هذا الحوار الذي اجرته مجلة " تليراما " الاسبوعية الفرنسية، التي تعد الاكثر توزيعا في فرنسا، يتحدث المخرج الفلسطيني ايليا سليمان، وبمناسبة اختياره عضوا في لجنة تحكيم مهرجان " كان " الثامن والخمسين، يتحدث عن سينما المقاومة، ويوضح مايعنيه عندما يقول ان الفلسطيني يمكن ان يكون اي انسان، في اي بلد، ولايعني بالضرورة ان يكون من مواليد فلسطين او حاملا للجنسية الفلسطينية،كما يتحدث عن مفهومه لسينما المقاومة التي لاشك عنده تبدأ من طرح سؤال الهوية ، ولقد ارتأيت أن اترجمه عن الفرنسية لأهميته في الكشف عن الطريقة التي يفكر بها ذلك المخرج الفلسطيني " المقاوم " المتميز ، ومنهاجه في صنع الافلام، و" رؤيته " لبعض القضايا المطروحة علي الساحة السينمائية الدولية في الوقت الراهن، وهي جميعها اشياء تدعو الي التأمل والتفكير، في عصر حضارات الاستهلاك الكبري، و تدمير كل تلك القيم والفضائل التي كان يفاخر بها الانسان، ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر ومع انتهاء الثورة الصناعية، ووفقا لمخطط أو نظام " كوني " جديد، كما ينوه ايليا سليمان في حواره الشيق.. في بداية الحوار الذي نشرته تليراما
في عددها2940 الصادر في 17 مايو 2006 يسأل الناقد لوران ريجوليه ايليا سليمان : في نهاية تصوير فيلم " يد الهية " قلت انك وجدت ان مهنة المخرج السينمائي مهنة جد عسيرة ، لأنها تخلق توازنا صعبا للغاية بين لحظات المتعة والشغف ولحظات التعب والعذاب والألم. كيف يكون الحال اذن عندما لاتعمل، وكيف تجد الحياة ؟
لا افكر في هذه المسألة الآن الا قليلا، لأني مشغول بكتابة سيناريو فيلمي الجديد في شقتي في باريس وعلي وشك الانتهاء منه، لكني افكر فيها طول الوقت عندما لايكون هناك ما يشغلني. افكر كيف يستطيع المرء ان ينجو بجلده من هذا العبث الذي صارت اليه حياتنا، والخروج من الارض الخراب. افكر كيف استطيع الخروج من حالة يأس واحباطات مابعد الميلاد ( ميلاد الفيلم ) التي تأتي في اعقاب الانتهاء من عمل الفيلم وخروجه للعرض. وصدقني لقد عشت تلك الحالة بعدما عرض " يد الهية " في " كان " وحصل علي الجائزة الخاصة للجنة التحكيم، ووقع ذلك " الانفجار " الذي لم اكن اتوقعه او احسب له حسابا وكانت له تأثيراته المدمرة وأضراره " السعيدة " علي وجودي. كنت انتهيت من الفيلم قبل ان يبدأ مهرجان " كان " بقليل،ولم أحسب حسابا لأي شيء، واذا بي فجأة أجد الجميع يتدافعون لشرائه والاستفادة من الضجة الاعلامية التي احيطت به بعد حصوله علي تلك الجائزة لعرضه علي الناس وتحقيق اكبر مكاسب مالية في الحالة وقبل ان تتلاشي تلك الضجة وتختفي. فجأة صار الفيلم مثل موجات متتابعة متلاحقة تبحر فوق بحر السينما والافلام في العالم ، بل لقد عرض في بلدان لم اتوقع ابدا ان يكون له فيها جمهور، وطلب مني بسبب الفيلم أن اسافر الي جميع أنحاء العالم وأن أتنقل مابين مطاراته للدعاية للفيلم في كل مكان فأخذت أسافر لمدة عام ونصف العام من دون توقف. وكان يبدو لي من الاهمية بمكان ان اتنقل مع الفيلم في رحلاته عبر العالم وكانت سعيد جدا بالنجاج " النقدي " المهم الذي حققه، لكن كان الشيء الاساسي لحظة التقاء الجمهور بالفيلم، اللحظة التي يغادر فيها المتفرج بيته كي يتوجه لمشاهدة لفيلم، حيث اعتبر ان عمل المخرج السينمائي لاينتهي الا بالمشاهد عند تلك اللحظة. ولو ان المتفرج ادار ظهره للفيلم وعاد الي بيته فكأنك لحظتئذ لم تحقق شيئا علي الاطلاق. والحقيقة انني اتعلم الكثير الكثير من خلال لقاءاتي مع الجمهور وأتبين من خلال مناقشاتهم معي ما كنت اسعي ومن دون وعي او ادراك مني ، ما كنت أسعي الي تحقيقه وما كنت احاول اظهاره في " يد الهية "... والكشف عنه
هل شعرت في لحظة ما بالضياع اثناء تجوالك مع فيلمك ؟
بعد فترة سوف تشعر بأنك قد افرغت كل ما في جعبتك وانك ضائع وقد تاه منك السبيل ولاتعرف الي أين ستكون وجهتك، عندما تبدأ مضيفة الطائرة تنادي علي ايليا سليمان فتتساءل من هو هذا الايليا سليمان الذي تزعجنا المضيفة بالنداء عليه مرارا وتكرارا وأين يكون. اللعنة. ولا تعد تتذكر حتي أسمك أو الجهة التي تقصدها وتميل علي جارك وتسأله، وتروح تراجع خريطة الطريق التي حملتها معك وتنتابك حالة توهان فظيع عندما تصل الي المطار وتري احدهم يحمل يافطة عليها اسمك وتصحبك المسئولة الصحفية التي حضرت لاستقبالك وتجلس الي جوارك في التاكسي الذي يحملك بسرعة الي الفندق ومنه الي مؤتمر صحفي تروح تجيب فيه علي ذات الاسئلة التي وجهت اليك من قبل مئات المرات، ثم يصحبك موزع الفيلم بعدها الي الغداء في مطعم ولو انك سألتني اليوم ان كنت مازلت اتذكر واقعة ما او حدثا لاكتشفت ان الامور والذكريات والاحداث اختلطت بعضها ببعض ولم اعد استطيع ان اتذكر بدقة شيئا محددا
هل تعتبر انها فترة صالحة للكتابة ايضا ؟
لقد دونت بعض الملاحظات الصغيرة هنا وهناك اثناء سفري وتجوالي مع الفيلم ، غير ان سعادتي الحقيقية تحققت من خلال لقاءاتي مع الجمهور، التي تحرك فيك ذلك الدافع الخلاق الغامض المبهم وتعززه وتقويه: أنت مثلا تواجه بالعديد من التحديات مثل كيف تحافظ علي لياقتك وطزاجتك عندما تكون هي المرة الالف التي تجيب فيها علي ذات السؤال الذي يطرح عليك في أماكن متباعدة ومختلفة علي سطح كوكبنا،. انها ليست قضية التزام اخلاقي تجاه الجمهور فقط ، بل هي قضية التزام تجاه جسدك ونفسك وروحك ايضا. احاول اثناء مداخلاتي وحواراتي مع الجمهور والحوارات التي تجري معي، أحاول أن اخترع وابتكر وأعيد اختراح عباراتي وجملي من جديد، من أجل استكشاف مناطق جديدة، وهي عملية متعبة وشاقة للغاية، لكنها تمنحني قدرا كبيرا من السعادة حين تصبح تلك المداخلات اقرب ماتكون الي ابداع الشعر، أوالانزلاق عبر جدران اللغة من اجل الامساك بتجليات اللحظة وبكل مافيها من طاقة توليد علي طبخ مصطلحات وعبارات وجمل جديدة شفافة لاعطاء اجابات مغايرة ومتجددة في كل مرة يطرح فيها ذات السؤال..ولسوف تكتتشف حينئذ كيف تستطيع ان تخلق حلما وتجعل الآخرين يحلمون معك وهي عملية شبيهة في رأيي بعملية صنع الافلام، عملية خلق مستمرة. فلو انك وصلت موقع التصوير في صحبة سيناريو مكتوب منذ سنة مضت وأردت تصويرالكلام المكتوب بحذافيره لاكتشفت انك لا تتكلم بصيغة الحاضر المضارع بل بصيغة الماضي الذي عفي عليه الزمن وانقضي ولا تستطيع بالتالي ان تخلق جديدا ولسوف تفقد عندئذ كل امكانيات التعبير في الزمن الحاضر.يجب ومن دون توقف ان تخترع كل شيء من جديد. انا احاول ذلك في كل مرحلة من مراحل صنع الفيلم، حتي يحس و يشعر المتفرج بأن هناك شيئا ما يحدث له هو ايضا في الخفاء لكنه لايدري كنهه في صلب الفيلم
..
تري هل يتعلم المخرج شيئا يجهله عن عمله اثناء لقاءاته مع الجمور ؟
ان لقاءاتي مع الجمهور تضعني في مواجهة تناقضاتي وتحيلني كثيراالي قضية الوطنية او القومية كمخرج فلسطيني، في الوقت الذي اعتقد اني احارب فيه كمخرج كل النزعات القومية الضيقة واني ضد الحدود بكافة انواعها وكل مايمت بصلة من قريب او بعيد الي القبلية، واظن ان امامي مسافة طويلة مازال علي ان اقطعها قبل ان اتخلص من تلك الانتماءات التي تشدني اليها واجدها ماثلة في كل مداخلاتي. علي كمخرج ان اطرح تساؤلات مستمرة علي طبيعة وهوية ذلك الانتماء وبخاصة عندما التقي ب " اخوتي " الفلسطينيين. وعندما اقول فلسطيني، فاقصد بها ان تكون صورة استعارية ليس الا، اذ يمكنك ان تكون فلسطينيا وانت في البلاد الاسكندنافية او في امريكا الجنوبية، لأن الفلسطينيين عندي تجمعهم وحدة تضامن ومبدأ مقاومة النظام " الكوني " الجديد.. وفي خلال تلك اللقاءات يكتشف المخرج اخطءئه وعثراته لكن لابد من الثقة بالنفس قبل ان تشرع في نقد الذات. وذات مرة في امريكا وجدت ان الجمهور لم يجد في الفيلم مايبعث علي الانتقاد فسارعت انا نفسي الي انتقاد الفيلم فحكيت لهم عن الاخطاء الفنية الصغيرة التي يجهلونها وعن المشاهد التي لاتصلح وعن ومشاكل الايقاع في الفيلم واخذت اهاجم ايليا سليمان المخرج اهاجم نفسي.وكنت علي حق في الهجوم علي الفيلم لاني في النهاية معذور، حيث اني لا استطيع بحكم شروط الانتاج التي خضعت لها ان اصنع السينما التي احب، وربما لو توافرت مستقبلا شروط انتاج اخري لكنت صنعت فيلما مغايرا وبه مشهد تأمل في لوحة جميلة يستغرق عرضه نصف ساعة ، لكن الي ان يأتي زمن تلك الظروف سوف نستمر في صنع افلام ليست معصومة ابدا من الخطأ، وعلي في كل وقت اثناء صنع الفيلم ان افكر في الجمهور وان اخلق " روابط " و" جسور " و " تنقلات " مابين اللقطات والمشاهد والفصول وانا اكتب سيناريو الفيلم واكتشف انني لن استطيع ابدا ان اصل الي ما اريد التعبير عنه تماما ومهما كانت محاولاتي.. علي الرغم من الحروب والدمار نستطيع ان نحكي عن فرح الحياة في قصيدة
ما هو موضوع السيناريو الذي تكتبه حاليا ؟
بعد تصويري لغربة الفلسطينيين وضياعهم في وطنهم اكتب حاليا سيناريو فيلم يعبر عن حيرتي وغربتي وضياعي في هذا العالم الواسع ولكن ليس لدي طاقة او بنزين بالبلدي كفاية. لا اعرف اين اعيش ولا اعرف اين اذهب ولقد كنت ابحث طوال الوقت عن مكان اشعر فيه اني في بيتي, ولفترة اثناء تسويق الفيلم عشت في باريس ثم انتقلت للعيش في لبنان وفكرت انني استطيع ان اجعل منه وطنا فهو قريب من مدينة الناصرة حيث ولدت في فلسطين وله ذات العبق وفيه استنشق ذات الهواء ثم ان هناك ايضا البحر والطعام والاصدقاء لكني لم انجح، فبمجرد الاستقرار في اي مكان يضيع مني الوحي والالهام في التو ولا اعد قادرا علي الكتابة, وتبينت ان هناك تناقضا بين الصور التي اريد ان اكتبها وبين الرغبة في الاستقرار في مكان ما وهي مشكلة تؤرقني.. اعتقد اننا نعيش فترة غريبة عصيبة حرجة في تاريخنا ولا نستطيع الا ان نطرح العديد من التساؤلات علي انفسنا كمخرجين مثل ماهو مكاننا في العالم ، وما هي قيمة الافلام التي نصنعها وهل لهذه الافلام اي تأثير او سلطة وهل تستطيع ان تغير استقرار الانظمة الثابتة المستقرة ثم كيف نساهم في تغيير تلك الاوضاع الراهنة التي نعيشها اليوم ومن دون ان نقع في المصيدة و تلك الشراك المنصوبة من حولنا، وهي تساؤلات جد مهمة وخطيرة والحقيقة اني احسد كثيرا المخرجين الذين يخرجون علينا كل سنة بفيلم جديد وأتساءل كيف يتسني لهم صنع تلك الافلام وكيف يجدون دوما مايقولون لنا في افلامهم. عجيب. من النظر في ملاحظاتي اكتشفت اني اريد ان اكتب شيئا عن عالم اليوم عن السياسة العالمية عن السرعة الرهيبة التي تتراجع بها الاشياءفي عصرنا الحالي وبالنظر الي حقب وعصور أخري، حيث اني اعتبر اننا نعيش في قلب برنامج أطلق منذ القرن 18 برنامج اسمه كيف ندمر العوالم التي نعيش فيها ونمحوها من الوجود، وقد بدأنا بالفعل في عملية التدمير منذ نهاية عصر الثورة الصناعية: دمرنا مناطق السكن المأهولة بالعمران، ثم أتينا من بعدها علي الطبيعة ودمرناها ثم اننا رأينا عملية التطور التاريخي هذه تتسارع بشكل مذهل منذ الحادي عشر من شبتمبر 2001 بحيث ان التساؤل حول صنع فيلم لتغيير العالم في اطار تلك الظروف بات تافها، غير اني علي يقين بأننا في وسط الدمار واليأس نستطيع أن نحول أشد كوابسنا قتامة وحزنا دمارا ووحشية الي براعم من الامل. نستطيع أن نكتب وسط كل هذا الدمار وبربرية الحروب، نستطيع ان نكتب قصيدة ونحكي عن فرح الحياة في فيلم..
ايليا سليمان: من مواليد مدينة الناصرة فلسطين في 28 يوليو 1960. في عام 1998 حصل بفيلمه " وقائع اختفاء " علي جائزة العمل الاول في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، وفي عام 2001 عرض له فيلم " سيبر فلسطين " في تظاهرة " نصف شهر المخرجين " في مهرجان " كان " السينمائي الدولي وفي عام 2002 حصل بفيلمه " يد الهية " الذي كان اول فيلم روائي فلسطيني طويل يشارك في مسابقة مهرجان " كان " الرسمية ومنذ تأسيسه، حصل علي جائزة لجنة التحكيم الخاصة
عن جريدة القاهرة بتاريخ 19 سبتمبر 2006
انظر الموقع الرسمي لسينما ايزيس

ليست هناك تعليقات: