NIKOS KAZANTAZAKIS
عن الحفل والضيوف
كازانتزاكيس في القاهرة
مقالي الثالث عن مهرجان القاهرة السينمائي 40 - بعد ترشيحاتي للمشاهدة ، ومقالي الثاني عن "درس السينما"للمخرج والمفكر السينمائي الإنجليزي الفذ بيتر جريناواي- يناقش مجموعة من أبرز الأفلام التي عرضها المهرجان، مثل فيلم " كازانتزاكيس "من اليونان، وفيلم " طيور الممر" من كولومبيا، وفيلم " الكتاب الأخضر"، ويشرح لماذا لم تصل في رأيي تلك الباقة الرائعة من الأفلام التي جلبها لجمهوره الى مستحقيها..
صلاح هاشم
كاتب وناقد ومخرج سينمائي مصري مقيم في باريس.
--
عن الحفل والضيوف في مهرجان القاهرة السينمائي 40
كازانتزاكيس في القاهرة
قضيت اياما سعيدة في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأربعين الذي عقد في الفترة من 2- الى 29 نوفمبر2018 ونجح في أن يجعل للإدارة الجديدة بصمتها المميزة الخاصة.إن دعوا الأفلام تمر، لتكون هي،وفي المحل الأول ،المعيار والحكم.. اتركوها لتكون نجوم المهرجان الحقيقية ، ولاتشغلوا أبدا أنفسكم بضيوف الحفل من أشباه وأنصاف النجوم.. لاتجعلوا سخافات بعض الممثلات المصريات اللواتي ينتهزن فرصة إنعقاد المهرجان للدعاية لأنفسهن، وإبراز مفاتنهن، وفضح عريهن، ولايهمهن سمعة مصر،أوسمعة المهرجان،وسمعة ذلك التراث السينمائي المصري العريق الذي ورثناه، ولم نعرف بعد كيف نحافظ عليه،، تكون مبررا للهجوم على إدارة المهرجان ،ووزيرة الثقافة، والحرية الشخصية لكل مواطن ، وحق كل إنسان أن يرتدي ما يعجبه.. لم أشغل نفسي كالعادة بتلك ترهات وسخافات تتصيدها صحف الإثارة التابليود وبعض الصحف القومية، للهجوم على المهرجان بكلام فارغ وحشو..
وفرحت جدا بتلك الباقة الرائعة من الافلام التي جلبها المهرجان الى جمهوره، فتركت نفسي أغطس في بحرها ، وعوالمها،.وأعيش مع أبطالها ونجومها ,أشاركهم أفراحهم وأتراحهم ، والتقي بصديقي" زوربا" اليوناني على شاطيء كريت ..
الكتاب الأخضر
حتى أني خلال لحظات جد متوهجة بالسعادة ،في بعض لقطات ومشاهد بعض الأفلام ،تركت نفسي تنبت لي أجنحة،لأسافر على خلفية أحداث الأفلام الى الجنوب الأمريكي وأشاهد كيف كان المواطن الأمريكي الأسود ومازال يعامل مثل الكلاب، كما في فيلم الافتتاح " الكتاب الأخضر" ، واتألم لألمه وجرحه الذي مازال ينزف، ولحد الآن..
وكنت في بعض الأفلام، كما في فيلم " كازانتزاكيس " اليوناني الذي يروي سيرة الشاعروالأديب والروائي اليوناني العظيم نيكوس كازانتزاكيس ،أخرج بعد مشاهدة الفيلم ،ممتلئا بالنشاط والحيوية ، وأنا أجر خلفي حبلا من الذكريات العزيزة، كمن يخرج من الماء بعد أن سبح في بحر إيجه، منتشيا بسحر الضوء والألوان..
ليس هناك كمايقول الشاعر التركي العظيم ناظم حكمت، ليس هناك تحت الشمش أجمل من أن تكون تحت الشمس، وأن تترك نفسك - إن كنت في مصر- بعد الخروج من قاعة السينما المظلمة لحضن القاهرة..
ساعدت الظروف إدارة المهرجان الجديدة، بل يمكن أن نقول أن المهرجان يقيناساندته السينما، فقد كان حصاد العام السينمائي في العالم كله هذا لعام 2018 جيدا ومتميزا،وبخاصة في مهرجان " كان " بالذات، في دورته 71 الماضية.حيث حرص المهرجان على عرض مجموعة كبيرة من الأفلام الرائعة، كانت في الغالب الأفلام الأولى – عمل أول - لمخرجيها، مثل فيلم " يوم الدين " للمصري أحمد شوقي الذي أعجبنا كثيرا،وكتبنا عنه في معرض تغطياتنا للدورة 71 ".. ودخل الفيلم مسابقة المهرجان الرسمية للمهرجان، لكنه لم يفز بشييء، كما دخل مسابقة " الكاميرا الذهبية" المكرسة للأعمال الأولى فقط،،وهي المسابقة الثانية في المهرجان بعد مسابقة " السعفة الذهبية " في المهرجان،لكنه لم يفز أيضا بشييء، ومع ذلك حرص المهرجان على أن يجلب هذا الفيلم المصري الرائع لجمهوره..
ولذا كان ذلك "الحصاد"الوفير من الأفلام الجيدة لهذا العام، في مهرجانات كان وبرلين وفينيسيا و غيرها،قد سهّل بداية على ادارة المهرجان ،عملية الاختيار المذكورة.واستطاع المهرجان، هكذا، عرض مجموعة كبيرة من روائع "سينما المؤلف"- التي عرضت في العديد من مهرجانات السينما العالمية ،وحصلت أو لم تحصل على جوائز-وجعل بعضها تشارك في أقسام المهرجان المختلفة، حتى بلغ عدد الأفلام التي عرضت خلال الدورة الأربعين أكثر من160 فيلما من أكثر من 60 دولة..
وهي أول نقطة تحسب لصالح المهرجان، على إعتبار أن أي مهرجان في العالم من واقع متابعاتنا لمهرجانات السينما العالمية منذ أكثر من ثلاثين عاما،وبخاصة في مهرجان " كان "السينمائي "سيد المهرجانات السينمائية في العالم" ومن دون جدال.. هو " شاشة " أولا لعرض إنتاجات السينما الجديدة في العالم، وربط المتفرج، بحركة وإتجاهات السينما العالمية،عبر تلك الإنتاجات التي تتوهج، وبخاصة في نوع " سينما المؤلف " بالتساؤلات الفكرية و الفلسفية الكبري، التي تطرحها على عصرنا، وتتألق بما فيها من متعة وثقافة في آن..
وعلى إعتبار- من جانب آخر - أن الوظيفة الأولى للسينما أيضا، ليست في " الترفيه " عنا و إمتعانا فحسب ، بل في أن تكون بجمالها وسحرها وفنها " أداة تأمل وتفكير " في واقع مجتمعاتنا الإنسانية ..
عرض المهرجان في مسابقته وعبر أقسامه المختلفة مجموعة كبيرة من الروائع السينمائية التي صدمتنا وهزتنا بشدة ، وحفزتنا على التأمل والتفكير
طيور الممر طقس سحري يتوهج بمفردات الفن
مثل فيلم " طيور الممر " – عمل أول -من كولومبيا اخراج كريستينيا جاييجو وتشيروا جيرا ، الذي فاز بجائزة أحسن سيناريو في المسابقة الرسمية للمهرجان،وكان..وهو يحكي عن الحرب بين عشائر الواييون المتناحرة حول تجارة المخدرات في شمال كولومبيا، أشبه ما يكون بطقس سحري، يستحوذ بنسيجه الفني وسحر كادراته على كل كيانك، وكأنك تشاهد مسرحية من مسرحيات التراجيديا اليونانية القديمة لسفوكليس أو إسخيلوس ، مثل مسرحية " أوديب "، وأنت في حضرة "عرّافة" ، مسكونة بالطيور، وبالاسلاف الموتى الأشباح..
عرّافة تقرأ الطالع في الفيلم ،حين تتلبسها روح الأسلاف الهائمة، التي تظهرعلى شكل طيور من الطبيعة ، وتسكنها، فتنطق آنذاك بلسانها، وتروح في غيبوبة، وتتوقع أن يحل الدمار، بعد أن تفجر الدم ، ونشبت الحرب التي لاتفيد بشييء على الإطلاق بالفعل، وقضت على الجميع ،وحكمت علي الكل بالتشرد والضياع ..
فيلم هو أشبه مايكون بـ "نبؤة" لعالمنا المسعور وهو يقف على حافة " الهاوية" و يصرخ.. إن يارب إرحم، ويتوهج بـروحانيته العميقة ،وعمق فهم لماهية السينما وأصول التشكيل البصري..
كازانتزاكيس في القاهرة. النظرة الكريتية
وفيلم " كازانتزاكيس " من اليونان اخراج يانيس سماراجديس الذي يقدم سيرة ذاتية للشاعر والكاتب الروائي اليوناني العظيم نيكوس كازانتزاكيس مؤلف روايات " الكسيس زوربا " و " الأخوة الأعداء" و " المسيح يصلب من جديد " وغيرها من روائع الأعمال الأدبية التي اختطفتها السينما العالمية ،واقتبستها للشاشة.. من خلال اقتباس كتابه " تقرير الى الجريكو " REPORT TO GRECO الذي قدم فيه كازانتزاكيس تجربة حياة كاملة، وهو يبحث لنفسه عن خلاص ، ويكافح ضد " العدم "، و يتسامق بالدور الثقافي والحضاري الذي لعبته جزيرة كريت ،في تاريخ اليونان القديم والمعاصر،بل والمنطقة المتوسطية بأسرها، وحضاراتها العريقة.. من خلال ما أطلق عليه بـ THE CRETAN GLANCE" أي " النظرة الكريتية " التي تأثر فيها كازانتزاكيس بفلسفة نيتشه، والمسيح ، وبوذا ، وماركس .. والصراع ما بين "ابوللو" إله الشعر والتأمل، وديونسيوس إله الخمر والحياة على الفطرة – شخصية زوربا تنتصر لإله الخمر والفعل- وكان كازانتزاكيس قد ترشح أكثر من مرة للحصول على جائزة نوبل، إلا أنه لم يفز بها، وفاز بها في التصفيات النهائية الكاتب الروائي والفيلسوف الفرنسي الكبير ألبير كامو، مؤلف رواية " الغريب "، الذي أعلن أن كزانتزاكيس كان يستحقها أكثر منه، وذلك لـ" إضافات " الثرية والعميقة ، من خلال رواياته وكتبه وأشعاره للتراث الإنساني العالمي، مثل شكسبير، ولكل العصور .
لغزهيدي لامارو . الوجه الخفي لقنبلة الجنس في هوليوود
وفيلم " قنبلة : قصة هيدي لامار " الذي يعرض لأيقونة من نجمات هوليوود اللواتي غزت هوليوود العالم بهن العالم، مثل جريتا جاربو، وكنا شاهدنا فيلمها " شمشون ودليلة " ونحن صغار في " سينما إيزيس " حيث قامت النمساوية لامار بدور داليدا، والممثل البريطاني فيكتور ماتيور بدور شمشون..ويكشف الفيلم من خلال الغوص عميقا في تفاصيل حياتها كيف كانت لامار إمرأة عصامية متمردة على هوليوود ،وعلى شروط العمل في استوديوهاتها المجحفة ،واستطاعت أن تفرض ارادتها على أعتى المنتجين، وكانت لامار أول إمرأة تظهر عارية كما ولدتها أمها في فيلم، وتفجر أول فضيحة في تاريخ السينما..
كما كانت صاحبة اختراع ملهم في مجال الإتصالات، قدم خدمة جليلة للإنسانية على سكة تطور وسائل الإتصال الحديثة، وساهم في إنتصار الحلفاء على النازية في الحرب العالمية الثانية.. ويكشف الفيلم كيف كانت لامار اليهودية، وبسبب ماتعرض له اليهود من اضطهاد مع صعود النازية في ألمانيا ووصول هتلر الى سدة الحكم، قررت أن تجعل من أن تجعل " هزيمة " النازية وبأي شكل معركة حياة كاملة،معركة حياتها.. ولم تكن "قنبلة" الإغراء والجنس كما يبين الفيلم مجرد " لعبة "في يد المنتجين أيحركونها كما يريدون، بل شخصية متحررة من الهيمنة الذكورية، ويجعلنا الفيلم نعيد الاعتبار للامار ونحبها ، ليس فقط لجمالها الساحق، بل لقوة الإرادة عند إمرأة حرة ومتحررة، لم تخضع لأعتى الرجال، وعاشت حياتها كلها لمحاربة النازية حتى إنتصار الحلفاء على المحور في الحرب العالمية الثانية..
المهرجان لم يسمّع
وحسنا فعل المهرجان بجلب تلك الروائع وغيرها، وعرضها على جمهوره-من الضيوف فقط للأسف- أكثر من1200 ضيف من أنحاء العالم – والمحترفين، و "لم يسمّع" عند الناس كما قيل لي.بمعني أن صوته لم يصل للناس، ولم يعرفوا بأمره، وتلك الأفلام الرائعة سياسيا وفنيا وفكريا التي جلبها، إلا عندما عرض التلفزيون المصري حفل إفتتاح الدورة الأربعين . خسارة..وحفل الختام لكن يحسب له بالطبع، أنه حقق بورشة أو "درس السينما "العظيم للمخرج الإنجليزي الكبير بيتر جرينواي " ضربة معلم "غير أن جل أفلام المهرجان - على الرغم من "مشكلة الجمهور" التي ورثتها الإدارة الجديدة عن إدارات سابقة ولم تحل ولحد الآن- لم تصل للأسف الى مستحقيها....
صلاح هاشم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق