نظرة خاصة
ومثلما هبط الملاك في بابل
هبطت السيدة العذراء في
الاسماعيلية !
لماذا كانت دورة مهرجان الاسماعيلية
" 15 "
دورة " المعجزات " السينمائية حقا وعن جدارة ؟
بقلم
صلاح هاشم.باريس
ترددت كثيرا قبل الكتابة عن دورة مهرجان الاسماعيلية
السينمائي الدولي للافلام الوثائقية والقصيرة التي أقيمت في الفترة من 23 الى 28
يونيو 2012 في مدينة الاسماعيلية الجميلة، والرشيدة، التي تربطني بها ببحرها
وأناسها وسمكها ذكريات جد عزيزة، ومنذ زمن غارق في القدم، فقد كنت أتردد في فترة الخمسينيات على مدينة الاسماعيلية مع
والدتي، لزيارة بعض أقاربها هناك، وقضاء فترة الصيف في ضيافتهم، وكانت تلك الفترات
التي أمضيتها في الاسماعيلية، وداخل معسكر للجيش الانجليزي، انتقلت ادارته الى أحد
أقارب أمي، وكنا نهبط في الشقة الكبيرة المخصصة له ولعائلته الكبيرة في المعسكر كل
سنة من أجمل فترات سنوات عمري التي قضيتها في مصر، وكانت الاسماعيلية هي أول مدينة
أزورها/ خارج نطاق مدينة القاهرة التي نشأت وكبرت وتربيت في أزقتها وحواريها..
ومنذ تلك الفترة
بدأت أتعرف على مدينة الاسماعيلية الهادئة الصغيرة على حافة القنال،وأعجب بنظافتها
وشوارعها ومساكنها ومعمارها الفرنسي الكلاسيكي ببيوتاته العريقة التي كانت محلا
لسكن العائلات الفرنسية العاملة في هيئة القناة في الاسماعيلية، وكانت المدينة تضم
الكثير من الجاليات الاجنبية المهاجرة التي تعمل في مصر واندمجت مع أهلها في
النسيج العرقي المصري العام للشعب المصري وشبعت من الاندماج حتى صار بعض افرادها
يتحدثون العامية المصري بطلاقة مثل ابن البلد المصري الأصيل القادم من الأحياء
الشعبية المصرية العريقة في السيدة زينب والحسين وباب الفتوح والموسكي..
الملصق الرائع للدورة 15 الذي أعجبني كثيرا وكان أقرب بشاعريته والاحالة الى المدينة ، أقرب مايكون الى قصيدة.صلاح هاشم
كانت
الاسماعيلية في فترتي الخمسينيات والستينيات التي سبحت أنا أيضا في بحرها، وجربت
تلك المتعة التي لاتقارن، متعة السباحة في القنال الولوج الى داخل المياه من دون
وجل، كانت كما تمثلتها في ذهني أشبه ماتكون بمدينة قد خلقت أساسا وشيدت للأجانب،
ومازال ذلك الطابع العام و لحسن الحظ هو المهيمن على روحها، كما خبرته وعهدته
أثناء زيارتي الأخيرة للاسماعيلية لحضور الدورة 15 للمهرجان، برئاسة المخرج
السينمائي مجدي أحمد على، وإدارة الناقد السينمائي الكبير أمير العمري. وتجمعني
بهما الاثنان صداقة تاريخية أصيلة وعميقة من جهة، كما اني تشرفت بالعمل معهما كمندوب لمهرجان الاسماعيلية في أوروبا، وكنت
مشاركا هكذا في الاعداد لانطلاقة المهرجان الجديدة، ولهذا كنت اتردد في الكتابة
بموضوعية وواقعية عن المهرجان، اذ كيف يمكن للمرء – رحت هكذا أتساءل- أن يكتب بوضوعية عن شييء شخصي يحبه ويهتم به
وينحاز اليه، ووجدت أنه، و من باب الحرص على الموضوعية فقط، من غير اللائق ابدا أن
أقحم نفسي في مهمة تقييم المهرجان، والكتابة عن اضافاته وانجازاته، وأن أترك هذه
المهمة للصحافيين والنقاد الحاضرين، وبخاصة بعد أن انتهيت من مسئولياتي و المهام
الملقاة على عاتقي تجاه المهرجان، وصرت حرا وطليقا مثل بروميثيوس الذي سرق النار
من الالهة، ولم أعد خاضعا من جهة الادارة لأية محاسبة.لكني بعد طول تأمل وتفكير
قررت أن أتراجع عن موقفي ذاك، بعد أن عشت خلال المهرجان تجربة " سينمائية فريدة "من نوعها ،
تجربة سمحت لي بمتابعة ورصد حركة تأسيس المهرجان ومن عند درجة الصفر تقريبا، ورفعه
في زمن قباسي، وحيث لم يكن هناك وقتها في الواقع لا مهرجان ولادياولو، بل مجرد فكرة
" حول أهمية وجدوى تأسيس مهرجان جد جديد ومغاير للسينما الوثائقية أو " سينما
الواقع " في مصر، ويعود الفضل في مشاركت كمندوب للمهرجان في أوروبا ي للزميل
الناقد الصديق أمير العمري الذي طلب مني ومنذ شهر فبراير الماضي وبمجرد صدور قرار
بتعيينه مديرا للمهرجان، التفكير معه والتخطيط للـ " المولود "
الجديد،والاستفادة من خبراتي لفترة العشرين سنة أو أكثر الماضية، التي قضيتها كمندوب
لمهرجان الاسكندرية السينمائي في فرنسا، وعلاقاتي الواسعة بالاوساط السينمائية
الغربية ومهرجاناتها وبخاصة في اوروبا وكنت شاركت في لجان تحكيم بعضها، وكنت
بالطبع أخجل ، وأجد أنه من غير اللائق أو المناسب أن أحكي عن ذلك كله، كما أحكي
عنه الآن، اذا وجدت سبيلا للكتابة، وأخشى أن أمنح المهرجان اذا كتبت عنه وقيمته
أكثر مما يستحق على مستوى التقدير والنقد وأن أبالغ ولو بعض الشييء في أحكامي ..
غير أن ماشجعني على الكتابة عن المهرجان كوني عشت من
الخارج تلك "التجربة"
السينمائية المهمة التي تقع في مصر في أعقاب ثورة 25 يناير المصرية، الا وهي
التأسيس لمهرجان سينمائي جديد في مصر، وباتجاه احداث تغيير جذري مهم وفاعل وحقيقي،
في المشهد السينمائي المصري بعد الثورة.ووجدت انها تجربة تستحق بالفعل أن يكتب
عنها المرء كمراقب الآن و " موضوعي " من الخارج، لتكون " شهادة
"" تاريخية " لمصر السينما، و "حكاية "للمغرمين بحكايات
مصر الجديدة بعد الثورة، تلك الحكايات التي بدأت بدأت تتشكل وتخرج للنور من تحت
الانقاض، وتشارك بفضل أصحابها من كتاب وشعراء ةوفنانين ومبدعين في التعمير
والتغيير والتثوير الذي نحتاجه ، في كل مجالات الحياة في مصر وبعد الثورة ..
دورة ثورية في زمن قياسي
ولذلك لم يكن
غريبا أن يجد بعض النقاد أيضا ان الدورة 15 لمهرجان الاسماعيلية كانت جديدة
و" ثورية "على عدة مستويات – انظر مقال الناقد أسامة عبد الفتاح في مدونة
" حياة في السينما " لأمير العمري بعنوان " مهرجان الاسماعيلية .
دورة ثورية وجوائز عادلة " بتاريخ 10 يوليو، وكان نشر من قبل في جريدة "
القاهرة "- وكنت علقت على مقال أسامة على صفحة الفيس بوك وقلت في تعليقي على المقال في سطرين :
"لقد كانت
دورة المهرجان 15 رائعة عن حق كما كتب أسامة بنزاهة و موضوعية، وقد تشرفت فيها
بالعمل مع الصديقين أمير العمري ومجدي أحمد علي، و سعدت بلقاء زملاء وأصدقاء أعزاء
كثر ،والتعرف ايضا على أصدقاء جدد,لقد كانت "دورة المعجزات" كما أحب أن
أسميها بالنظر الى الظرف التي عاشتها ، والانجازات ايضا التي حققتها و في زمن
قياسي,الف مبروك للعمري ومجدي أحمد على ومصر السينما والأمل في التغيير " ..
نجحت دورة المهرجان 15 التي حضرتها وتابعتها كمراقب
" دولي " من الخارج – بعد ان
انتهت تكليفاتي – نجحت في تحقيق وانجاز
عدة "معجزات " بسبب ظروف الواقع السياسي الذي خاضته، وتشكلت خلاله، و قد
حققت الدورة 15 تلك الانجازات بشهادة جميع
من حضروا المهرجان وكتبوا عنه في زمن قياسي فقد كانت مصر أنذاك تعاني الكثير في
أجواء تخبط و بلبلبة، وعدم وضوح في الرؤية وكانت تقف على كف عفريت وكنا جميعا نخشى على
وطننا من وقوع كارثة وندعو جميعا " ربنا يستر " حتى لاتقع حرب أهلية..
وهذا عن أول " معجزة " تحققت وأعني خلق كيان
سينمائي مصري حقيقي أصيل من خلال مهرجان الاسماعيلية في ثوبه " المعاصر
" الجديد، والتأكيد على أن صناعة المهرجانات لاتحتاج الى اعداد قائمة اختيار
لمجموعة من الافلام الجديدة ومهما كانت قيمتها الفنية ، بل لابد وأن تكون مؤسسة
على " رؤية " VISION و" فكرة " محورية تدور
حولها الافلام المختارة وقبل كل شييء، ومسنودة على " عامود " محوري
وفلسفي، وبحيث تتحقق من مجموعة الافلام المعروضة في المهرجان، وتصب جميعها في نهر
تلك الفكرة وتعمل على بلورتها.وقد كانت " الفكرة "كما اعتمدها العمري
للمهرجان هي النظر الى أفلام الدورة 15 المختارة من منظور " الثورة "،
ولولا ان المهرجان قد استطاع أن يبلور بوضوح رؤيته هذه ، ومن خلال خياراته
ومطبوعاته وعروضه وندواته، لما كان له يقينا أن يحقق ذاك النجاح المدوي والباهر
الذي حققه في دورته 15، وكانت أول " ضربة " معلم لمهرجان الاسماعيلية في
دورته الجديدة أن يؤسس لمهرجان على أسس علمية ومنهجية ترسخ لقيم ومفاهيم جديدة
لصناعة المهرجانات في مصر بحرفية عالية وادارة ذكية في الادارة والتنظيم اعتمدت
على الكفاءات صاحبة الخبرة في تلاحم وتضامن مع الكفاءات المصرية الشابة..
السيدة العذراء تهبط في
مهرجان الاسماعيلية
حقق مهرجان الاسماعيلية اذن في دورته 15 الجديدة الكثير
ورسخ لذائقة جديدة من خلال خياراته السينمائية الصائبة لمجموعة كبيرة من الافلام
المهمة – أكثر من مائة فيلم - التي أشاد الجميع بجديتها وتنوعها وجودتها.ومثل ذلك
الملاك الذي هبط في بابل كما في مسرحية الكاتب السويسري دورينمات حققت الدورة 15
عددا لابأس به من المعجزات، فقد رفعت لشادي عبد السلام فيلما عظيما من التراب في
وصف مصر، يعيد اليها ذاكرتها المثقوبة، وهو يسأل من أين أتت يا ترى حكمة الحياة في
مصر القديمة ؟ وكيف أصبحت " مصر "
تشرق هكذا في وجوه الفلاحين الطيبين الذين يزرعون ويفلحون الأرض، ليجعل من أباطرة التراب هكذا ملوكا على ممالك الدلتا والصعيد وآخر نقطة
على الحدود المصرية، ويجعلنا نتأمل من
خلال مشاهد فيلمه البديع الأثير "
هويتنا في مرآة المكان والزمان"، كاشفا على الطريق الى الله " رسالة
" مصر الحضارية واستحوذ فيلمه على قلوبنا جميعا وجعلنا نشهق من عبقريته
وجماله، وكنت بعد مشاهدة الفيلم مباشرة ومفتونا بسحره وجماله في حفل افتتاح الدورة
الجديدة اقترحت على رئيس المهرجان مجدي احمد على في التو توزيع الفيلم في
المهرجانات الاوروبية والعالمية لعلمي بأنها سترحب بعرض ذلك العمل السينمائي الفذ
على جمهورها، والتعريف بتراث واضافات السينما المصرية العظيمة والتذكير دوما
بانجازاته، كما سمح المهرجان لمعجزة اخرى أن تتحقق في الدورة 15 وذلك بالظهور
المفاجييء لسيدتنا العزراء مريم في المهرجان، وهذه قصة أخري سنعرض لفصولها
ووقائعها المذهلة في وقفة قادمة. والى جانب
ندواته حول السينما الوثائقية واستعراض انجازاتها قبل وبعد الثورة في مصر والعالم
العربي ودعوته الناقد والمخرج قيس الزبيدي لالقاء " درس السينما " في
المهرجان عبر مداخلة مهمة، أقام المهرجان معرضا تحية وتكريم للفنان ومهندس الديكور
العبقري المصري الأصيل الراحل صلاح مرعي،
وكرس لعرض أفلامه عن الثورة المصرية في عيون المخرجين الاجانب في حديقة في الهواء
الطلق في قلب مدينة الاسماعيلية شهدت حضور
جمهور غفير من أهل المدينة، واقبالا جماهيريا متزايدا يوما بعد يوم على مشاهدتها،
وكانت سعادتي كبيرة بالاختلاط في اطار المهرجان بالحشد الانساني الى جانب متعة
مشاهدة الافلام، والتعرف على اصدقاء جدد في أجواء وقضاءات الصحبة التي استحدثها
المهرجان، ومن ضمنهم المصور والمخرج السينمائي كمال عبد العزيز والكاتب الصحفي
محمد الرفاعي و عالم الآثار على مجدي أحمد على، وكان المهرجان باجوائه الجميلة
يشجع على توليد أفكار ومشروعات سينمائية جديدة وبطموح وأمل كبيرين في أن تخرج الى
النور في أسرع وقت، وحسنا فعل المهرجان ايضا بتخصيص تظاهرة لعرض بعض افلام السينما
المصرية الباهرة ولا اريد ان اقول القديمة مثل فيلم " نمرة 6 " للاستاذ المخرج الكبير صلاح أبو سيف ودعا بعض
أصحاب هذه الافلام لحضور المهرجان مثل المخرد دواد عبد السيد، وكانت سهرة
استرجاعية جميلة بعرض تلك الافلام التي ظلت لفترة طويلة " مهملة " و
حبيسة العلب في عهد النظام البائد والاستماع الى مداخلات اصحابها.وللحديث بقية ..
هناك تعليق واحد:
Vielen Dank ... Wo neue Themen?
إرسال تعليق