رفاعة رافع الطهطاوي أحـد بناة النهضة العربية الحديثة
بقلمـــ شحادة الخوري
توطئة:
في العدد السابع من مجلة "روضة المدارس" الصادر في أول ربيع الثاني سنة 1290هـ الموافق 29 مايو/ أيار 1873، هذا العدد الذي حمل نعي رئيس تحريرها رفاعة الطهطاوي، كتب الأستاذ الكبير أحمد أمين في رثاء شيخه ما يلي:
"اهتزت مصر لموته، واحتشد لتشييع جنازته الألوف المؤلفة من رجال المعارف وتلاميذ المدارس والعلماء.. وازدحمتِ الشوارع بالناس الذين جاؤوا لكي يردوا بعض جميله.
يذكره الأزهريون على أنه ابنهم، والمتعلمون المدنيون على أنه أبوهم والجالية الفرنسية على أنه أخوهم، والمصريون كلهم على أنه مؤسس نهضتهم، وكلهم يتوجع لفقده ويشيد بذكره. وسار المشهد من منزله حتى إذا قارب المدينة كان ينتظره شيخ الجامع الأزهر وعلماؤه وطلبته، فاشتركوا في تشييع الجنازة، ووضع النعش في القبلة، ولا يكون ذلك إلا لعظيم، وأخذ الأفاضل في رثائه بالقصائد، وبقيت آثاره خالدة تعظم وتتزايد وتتوالد، رحمه الله فقد صنع لأمته كثيراً."
*وفي شهر أيلول سنة 1903م أي بعد وفاة رفاعة بإحدى وثلاثين سنة توفي ابنه الأصغر واسمه علي فهمي رفاعة، وكان في حياته لامعاً في ميدان الأدب والصحافة والتعليم، فرثاه أمير الشعراء أحمد شوقي بقصيدة عدّد فيها صفاته ومآثره، ثم أشار إلى والده رفاعة فقال:
يا ابنَ الذي أيقظتْ مصراً معارفُه أبوكَ كان لأبناءِ البلادِ أبا
أجل كان أباً لمصر وللوطن العربي بأجمعه، لأنه كان كما قيل عنه بحق: "أحد الجسور التي عبرت عليها الأمة العربية من القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر، إذ حاول مع الطليعة الواعية أن يوقد نار الحضارة وأن يبعث من جديد أوارها العربي، وبالتالي أن يدفع في جسد الأمة العربية بدفقة دم حَارّة..."
*وبعد انقضاء مئة واثنتي عشرة سنة أي عام 1984م يصدر المفكر والباحث المصري الدكتور محمد عمارة كتاباً محكماً عن الطهطاوي يدعوه فيه "رائد التنوير في العصر الحديث" ويختمه بهذه الكلمات: "...شيخ أزهري معمم ضمَّ إلى ثقافته العربية الإسلامية خلاصة كنوز الفكر الفرنسي وعلوم الحضارة الأوربية، النظرية منها والعملية... فلما عاد إلى وطنه، ناضل نضال أصحاب الرسالات كي يخرج أمته من ((الكهف المظلم)) الذي احتبسها فيه المماليك والعثمانيون إلى رحاب عصر اليقظة والنهضة والتنوير... ولقد استعان على ذلك بكل ما هو مشرق وصالح ومستنير في تراث الأمة، وكل ما هو ملائم في حضارة أوروبة.. فكان الرائد الذي ارتاد لأمته العديد من ميادين التقدم والإصلاح والتجديد.."
*فمن هذا الذي كان للمصريين، بل للعرب، أباً، وكان الجسر الذي انتقل بالأمة من حال إلى حال، والذي كان عظيماً فيما علّم وعمِل وفيما ترجم وألف، فاهتزت مصر لموته كما لم تهتز لفقد أحد من قبله؟
*إنه رفاعة رافع الطهطاوي الذي يُعَدُّ رائداً من الرواد الذين أرسوا النهضة الفكرية والعلمية والأدبية في القرن التاسع عشر في مصر، بعد أن عاشت فترة طويلة من التخلف الحضاري والجمود الفكري. وقد تميز عمله بأمور عدة جعلت منه رمزاً لليقظة الوطنية القومية، ذلك أنه أراد تخليص العقول من الجهل الماحق وبناء الإنسان الجديد وأنه عمل ذلك بصدق وعزيمة وإخلاص، لا تغريه منفعة ولا يرهبه تعسف، ولا يقعده عناء، وكرس حياته كلها لبلوغ القصد.
ولكن أية أرض أنبتت هذا الرجل، وأي زمان احتضنه، وأية ظروف اجتماعية وثقافية وسياحية حاقت به، ثم ماذا أخذ وماذا أعطى، وأي أثر رسم على خريطة المكان والزمان.
1-مطلع القرن التاسع عشر:
*ولد رفاعة عام 1801م بمصر، وكانت مصر قبل ولادته بسنوات تخضع للحكم العثماني بداية من عام 1516م إذ كان السلطان سليم الأول العثماني قد دخلها غازياً وانتصر قرب القاهرة على قائد المماليك الشراكسة "طومان باي" الذي خلف "قانصو الغوري" الذي قهره السلطان سليم نفسه في معركة مرج دابق قرب حلب، ثم عاد إلى القسطنطينية مستصحباً معه "المتوكل على الله" آخر الخلفاء العباسيين في مصر، وهناك تنازل المتوكل عن منصب الخلافة الإسلامية
عام 1518م.
لقد كان حكم المماليك، وبعدهم حكم العثمانيين موسوماً بالجهل والتخلف والجَوْر على الرعية، ومن شأن ذلك أن يتلف الزرع والضرع ويُقفر السهول والجبال ويفقر الناس ويلحق بعقولهم جموداً وبعزائمهم هموداً.
*كتب الرحالة فولني Volney في وصف مصر آخر القرن الثامن عشر فقال: "إن الجهل عام في هذه البلاد مثل سائر تركيا، وهو يشمل كل الطبقات ويتجلى في كل النواحي الأدبية والعلمية والفنية، حتى إن الصناعات اليدوية تجدها في أبسط حالاتها، ويندر أن تجد في القاهرة من يُصلح الساعة، وإذا وجد فيكون أجنبياً. أما الصناعة فأصحابها أكثر مما في إزمير وحلب ولكنهم جهلاء. وهم إنما يعملون في صناعة المنسوجات الحريرية، وإن كانت أقل إتقاناً وأغلى ثمناً من تلك التي تصنع في أوروبة. وأما العلم فإنه موجود في الأزهر فقط، الأمر الذي جعل مصل مقصد الطلاب من الشرق الإسلامي".
لقد كان الوالي العثماني أو الباشا يقيم في القلعة، وكانت الأقاليم تخضع لحكم بكوات المماليك، وعلى الأطراف عصابات تعبث بالأمن وتنهب الأرزاق، والزراعة يتحكم بها نظام الالتزام الذي يثقل على الفلاحين وصغار المزارعين لصالح الملاكين الأثرياء، وكانت الحرف طوائف مغلقة، والفرد عامةً كان مسحوقاً تحت أعباء الجهل والفقر والظلم!
*وجاءت سنة 1798م لتشهد مصر حملة نابليون بونابرت. وفي معركة قصيرة قرب القاهرة انتصر الجيش الفرنسي وتشتت المماليك الذين كانوا يجسدون التخلف قيادة وترتيباً وعتاداً أمام القوة الغازية التي كانت تتمتع بقيادة قادرة وتنظيم محكم وسلاح حديث. لقد كانت هذه المعركة صداماً حضارياً بين العصر الحديث، بكل معارفه ومنجزاته العلمية وبين القرون الوسطى التي تجاوزها الزمن وصارت قطعاً مبعثرة في زوايا المتاحف.
هزم المماليك، ولم يهزم شعب مصر، إذ نهض هذا الشعب، وقد أيقظته المفاجأة يدفع المغيرين عن أرضه وكرامته، وما هي إلا سنوات ثلاث حتى انسحب الجيش الفرنسي من مصر بتاريخ 15 تشرين الأول/ أكتوبر 1801م وهو اليوم الذي ولد فيه رفاعة رافع الطهطاوي.
لقد انسحب الفرنسيون بدافع مقاومة الشعب للاحتلال، ومعارضة الدولة العثمانية وبريطانيا للوجود الفرنسي بمصر، ولكن أثر هذه الحملة ظل مستمراً لما أثارته من تساؤلات في عقول المصريين، وكان للعلماء والأدباء والمفكرين الذين اصطحبهم بونابرت معه، ثم استمر تدفقهم إلى مصر بعده، تأثيراً كبيراً على الطليعة الواعية المخلصة من المصريين.
*لقد تساءل القوم: لماذا انتصر جيش بونابرت على جيش المماليك في ساعات معدودات؟ لماذا يملك الغرب أسلحة ومعدات متطورة فعالة لا تملك مصر ما يماثلها نجاعة وجدوى؟ لماذا يكون شعب مصر، ومثله سائر الشعوب العربية، فريسة للجهل ولا يعطى فرصة للتعلم والتقدم، في وقت قطع أهل الغرب فيه أشواطاً بعيدة في مضمار العلوم والآداب والفنون؟ لماذا يحكم مصر أناس دخلاء ليسوا من أهلها، ولا يحكمها قادة من أبنائها، وهي البلد ذو الماضي المجيد والعز الغابر؟
من هذه التساؤلات الملحة انبثقت في عقول المصريين وقلوبهم أفكار ومشاعر شتى:
1-إنكار ما هم عليه من حال سيئة والتفكير بتغيير هذه الحال.
2-إدراك أن ثمة علوماً ينبغي تعلمها وصناعات يجب إتقانها.
3-تذكر أن أسلافهم القدماء كانوا أعزة أقوياء وصنعوا حضارة تبهر آثارها العيون، وأن العرب قد أسهموا في بناء الحضارة الإنسانية...
لقد استيقظ الحسُّ الوطني والشعور القومي، بعد هذا الصدام الحضاري، ونتيجة ذلك بدا واضحاً أنَّ تغييراً سيحدث، بل لابد أن يحدث، وسيحدثه رجال مقتدرون سيكونون دعامة النهضة وبناة الوطن.
وكان رفاعة رافع الطهطاوي أحد هؤلاء، بل في مقدمتهم.
2-نشأة رفاعة ودراسته بمصر:
*ولد في مدينة طهطا بمحافظة سوهاج في الصعيد بمصر بتاريخ 15 تشرين الأول/ أكتوبر 1801م (7 جمادى الثانية 1216هـ) ووالده هو بدوي بن علي بن محمد بن علي بن رافع. يتصل نسبه عَبْرَ عدد من أشراف الصعيد وعلمائه وقضاته وماراً بالأئمة الأفاضل جعفر الصادق ومحمد الباقر وزين العابدين، بالحسين بن علي ابن أبي طالب. وأما أمه فهي فاطمة بنت الشيخ أحمد الفرغلي، ويرقى نسبها، عَبْر عدد من العلماء والصالحين إلى الأنصار، وإلى قبيلة الخزرج تحديداً. وكانت عائلته ميسورة الحال لأنه كان للأشراف آنذاك امتيازات مالية بطريق الالتزامات التي كانت تعطى لهم في الأرض.
وعندما كان رفاعة في الرابعة من عمره تولى محمد علي حكم مصر، عام 1805م وألغى نظام الالتزام، فخسرت أسرة رفاعة امتيازات وعَسُر حالها بعد يسر واضطر والده (بدوي رافع) أن يغادر موطنه طهطا عام 1813م إلى مواطن أخرى: بلدة "منشأة النيدة" قرب مدينة "جرجا" ومدينة "قنا" ثم مدينة "فرشوط". وخلال هذا التنقل أجاد رفاعة القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم.
*وبعد وفاة والده، عاد إلى طهطا لتكفله أسرة أخواله التي كانت تحفل بالشيوخ والعلماء فحفظ رفاعة على أيديهم "جميع الفنون المتداولة في المعقول والمنقول" ودرس بعض كتب الفقه والنحو، وبذا حاز بعض ما يعمله الأزهر الشريف لطلابه.
*ولما بلغ السادسة عشرة قررت والدته وأخواله إلحاقه بالجامع الأزهر، فتمَّ ذلك عام 1817م (1232هـ) في منتصف العام الدراسي. واستطاع رفاعة بفضل نباهته وما درسه سابقاً أن يواصل الدرس مع من سبقوه بنصف عام. وفي العام التالي انتظم في الدراسة واستمر فيها عدة سنوات متتالية استحق بعدها أن يكون مدرساً في الأزهر نفسه بل صار علماً من أعلامه. وجدير بالذكر أن أعظم من تتلمذ له رفاعة هو الشيخ حسن العطار، وكانت تلمذته له مستمرة من بداية دخوله الأزهر حتى سفره مبعوثاً إلى باريس عام 1826م. ولم يكن هذا الشيخ أستاذه فحسب بل كان موجهاً وراعياً له.
وخلال دراسة رفاعة بالأزهر الشريف، بدأت محاولاته في التأليف وحاز إعجاب مستمعيه الذين كانوا يحضرون دروسه في مساجد موطنه أيام الصيف، كما أعطى دروساً خاصة في قصور الأثرياء لتدبر نفقات معيشته.
*وفي سنة 1821م تخرج رفاعة في الجامع الأزهر وهو في الحادية والعشرين من عمره، فجلس للتدريس في الجامع نفسه بعد أن أثبت جدارته لذلك، وكان يعطي دروساً في: الحديث والمنطق والبديع والعروض وغير ذلك. واستمر رفاعة يدرس في الأزهر سنتين، ولكنه اضطر عام 1824م أن يتحول إلى الوظائف الميرية ليحصل على دخل يعيش منه، فعين بوظيفة واعظ وإمام في الجيش واستمر في هذا العمل سنتين.
3-سفره في بعثةٍ إلى باريس:
*وفي سنة 1826م قررت الحكومة المصرية إيفاد بعثة علمية كبيرة إلى فرنسا، بعد بعثتين صغيرتين إلى فرنسا وإيطاليا لم تحرزا نجاحاً يذكر، فكانت هذه البعثة إطلالة مصرية عربية، حقيقية ومهمة، على حضارة الغرب وعلومه.
وبلغ عدد أفراد البعثة في البداية (42) دارساً ثم انضم إليهم آخرون فصار عددهم (114) طالباً، توزعوا على تخصصات علمية مختلفة: الإدارة الحربية، الهندسة الحربية، علم المدفعية، علم البحرية، السياسة والإدارة، الكيمياء، الطب البشري، الطب البيطري، الزراعة، المعادن، الرسم والمعمار، الترجمة الشاملة لمختلف العلوم والآداب والفنون. ومع هذه التخصصات يدرس الموفدون: اللغة والحساب والرسم والتاريخ والجغرافية. إن الغاية، كما يبدو جلياً، إرساء قاعدة متينة لجيش ودولة حديثين ودخول ساحة الحضارة القائمة على العلم، دون تردد.
*ولم يكن رفاعة في البداية طالباً من طلاب البعثة، بل رشحه أستاذه الشيخ حسن العطار ليقوم في البعثة بالوعظ والإرشاد مع شيخين أزهريين آخرين. وقد رحب رفاعة بذلك ولا سيما أنه سبق له أن درس مع أستاذه الشيخ العطار وفي منزله بعض العلوم الغريبة عن الأزهر ورجاله، وسمع أستاذه الأثير لديه والذي تولى بعد ذلك مشيخة الأزهر يقول مرة: "إن بلادنا لابد أن تتغير ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها".
ولكن رفاعة منذ وصول البعثة إلى مرسيليا في طريقها إلى باريس بدأ يدرس اللغة الفرنسية بشغف واهتمام، وأمام هذه المبادرة صدر أمر حكومي بضمه إلى البعثة ليتخصص في الترجمة بالنظر إلى ثقافته الواسعة وتفوقه باللغة العربية.
*وفي آخر شهر شباط وأول آذار /فبراير- مارس/ 1828م عقد أول امتحان لأفراد البعثة بإشراف العالم الفرنسي جومار ورئاسة الكونت دي شبرول محافظ ولاية السين وعضو مجلس النواب- وكان أحد علماء الحملة البونابرتية على مصر-.
فنجح رفاعة نجاحاً باهراً وقدم له المشرف على الامتحان جائزة مرفقة بخطاب تقدير وتشجيع. هذا وكان رفاعة خلال دراسته قد ترجم من الفرنسية كتاب "مبادئ العلوم المعدنية" وأرسله إلى مصر ليطبع فيها، وترجم تقويماً لسنة 1244هـ (1828م) وضعه العالم جومار لمصر وسورية.
*وتعمق حب رفاعة لوطنه مصر وأمته العربية واعتزازه بما قدمت للبشرية من مستنبطات الفكر والحضارة، كما ازداد شغفاً بالعلم والمعرفة وإقبالاً عليهما، وهو يسمع العالم جومار يخاطب أعضاء البعثة بعد ذلك الامتحان بقوله: "إنكم منتدبون لتجديد وطنكم الذي سيكون سبباً في تمدين الشرق بأسره... أمامكم مناهل العرفان فاغترفوا منها بكلتا يديكم، وهذا قبسه المضيء بأنواره أمام أعينكم، فاقتبسوا من فرنسا نور العقل الذي رفع أوروبة على سائر أجزاء الدنيا، وبذلك ترون إلى وطنكم منافع الشرائع والفنون التي ازدان بها عدة قرون من الأزمان الماضية".
*لقد قرَّ في ذهنه أن نقل العلوم الحديثة إلى مصر هو بداية نهضتها، والنقل إنما يتم بالترجمة. قال أحد مؤرخي تلك الحقبة: "إنه ما كان يفرغ من قراءة كتاب في أي علم من العلوم أو فن من الفنون حتى يقبل على ترجمته، يريد بذلك أن ينقل لمصر وبنيها هذا العلم الجديد، عله يبعثهم على نهضة جديدة تنتهي بهم إلى أن يكونوا كأبناء أوروبة حضارة ورقياً".
*وفي 19 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1830م عقد الامتحان النهائي لرفاعة الطهطاوي من قبل مجلس جمعه العالم جومار نفسه، كي تُختبر، كما يقول رفاعة نفسه: "قوة الفقير في صناعة الترجمة التي اشتغلت بها مدة مكثي في فرنسا". فقدم للجنة الفاحصة اثني عشر عملاً مترجماً في موضوعات متنوعة، كما قدم مخطوطة كتابه عن رحلته إلى باريس وهو "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". وكذلك امتحنته اللجنة بترجمات شفوية من الفرنسية إلى العربية وبالعكس. وانتهت بأن جزمت بتفوقه وبأنه يمكن أن يترجم الكتب المهمة المحتاج إليها في نشر العلوم ببلده...".
ويستنتج من ذلك أن رفاعة لم يكن مثقفاً يستمتع بالفكر والثقافة، وإنما كان مناضلاً في سبيل أمته ووطنه، وكان يتصرف كصاحب رسالة علمية وحضارية. وقد ساعده على ذلك أنه جمع بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافية الفرنسية الغربية التي اطلع عليها في أهم مراكزها ومن نخبة ممثليها مباشرة إذ قرأ فولتير وروسو ومونتسيكو، واتصل بالعلماء المستشرقين بباريس أمثال البارون دي ساسي وكوسان دي بيرسفال وطالع كتباً فكرية وسياسية وأدبية وعلمية متنوعة خلال إقامته هناك.
4-عودته ونشاطه زمن محمد علي:
*وفي سنة 1831م (1247هـ) عاد الطهطاوي من بعثته بباريس، وكانت قد سبقته تقارير تتحدث عن جِدِّه وتفوقه. وعندما وصل ثغر الإسكندرية كان إبراهيم باشا أول من استقبله من الأمراء، وسأله عن أهله بطهطا، وكان له بهم صلة، ووعده بإدامة الالتفات إليه. وفي القاهرة قابل محمد علي فرأى من ميله إليه ما حمله على الثقة بالنجاح.
*وكانت أولى الوظائف التي أسندت إليه وظيفة مترجم في مدرسة الطب، فكان أول مصري يعين في هذه الوظيفة التي كان يعين فيها السوريون والمغاربة والأرمن لينقلوا دروس المدرسين الأجانب إلى التلاميذ الذين لا يعرفون سوى العربية. ولبث رفاعة في هذا العمل سنتين أنجز فيهما، فيما أنجز، مراجعة ترجمة كتاب "التوضيح لألفاظ التشريح" التي قام بها يوسف فرعون، وكان في الوقت ذاته مشرفاً على المدرس التجهيزية للطب (مدرسة المارستان) التي كانت مدة التدريس فيها ثلاث سنوات.
وفي سنة 1833م (1249هـ) انتقل إلى مدرسة الطوبجية (المدفعية) في طرة بضواحي القاهرة مترجماً للعلوم الهندسية والفنون العسكرية.
*وكان رفاعة يحلم بإنشاء جامعة مصرية على غرار "مدرسة اللغات الشرقية بباريس" وخطا إلى ذلك خطوة أولى بإحداث مدرسة التاريخ والجغرافية، وترجم فصولاً طبعها في كتاب عنوانه "التعريبات الشافية لمريد الجغرافية" ثم ترجم مجلداً من جغرافية ملطبرون في بلدة طهطا التي قصدها ولبث فيها مدة ستة أشهر هرباً من الطاعون الذي انتشر بالقاهرة وقدمه إلى محمد علي وطلب منه إعفاءه من مدرسة المدفعية ورغب إليه في إنشاء مدرسة الألسن بدافع حب إيصال النفع إلى الوطن وتقليل التغرب إلى أوروبة كما قال.
وافتتحت مدرسة الألسن عام 1835م (1251هـ) وسميت في البداية مدرسة الترجمة وبعد أربع سنوات تخرج فيها عشرون طالباً عينوا في مختلف الوظائف.
وفي عام 1841م (1257هـ) صارت مدرسة الألسن بمثابة جامعة مدنية يقرها المبنى الذي كانت تشغله في سراي الدفتر دار بحي الأزبكية، ثم نقلت إلى هذا المبنى المدرسة التجهيزية التي كانت بأبي زعبل، ثم أحدثت في الموقع نفسه مدرسة الفقه والشريعة الخصوصية.
وكانت مدرسة الألسن تدرس طلابها آداب العربية واللغات الأجنبية (الفرنسية والتركية والفارسة ثم الإيطالية والإنكليزية) والتاريخ والجغرافية، وتدرس فيها جميع العلوم باللغة العربية، وكان رفاعة يعمل في هذه الجامعة مشرقاً ومدرساً ومترجماً ومؤلفاً ومدققاً...
*وفي عام 1841م نفسه أنشأ رفاعة (قلم الترجمة) بمثابة مجمع متخصص بالترجمة وقسمه إلى أربعة أقسام: قسم ترجمة الرياضيات، قسم ترجمة العلوم الطبية والطبيعية، قسم ترجمة العلوم الاجتماعية وقسم الترجمة إلى التركية، ولكل قسم من هذه الأقسام رئيس مسؤول عنه.
ومن العجب العُجاب أن تُدَّرس العلوم المختلفة باللغة العربية آنذاك في جميع مستويات التعليم. وإنّ الذي حققه الطهطاوي في مدرسة الألسن لمما يُسعى إليه الآن، بعد انقضاء أكثر من قرن ونصف، ومازالت تكتب فيه الدراسات وتعقد له الندوات وتتخذ بشأنه القرارات!
كذلك إنشاء مؤسسة للترجمة (قلم الترجمة) تضم أقساماً متخصصة بكل الفروع العلمية لتنقل أمهات الكتب والمراجع العلمية في العالم إلى اللغة العربية، ظلت حلماً حلم به رواد الإصلاح والتقدم، حتى تحقق ذلك عام 1990 أي بعد قرن ونصف بإحداث "المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر "بدمشق بمثابة جهاز تابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، التابعة لجامعة الدول العربية. ولكن هذا المركز بدل أن يلقى الاهتمام والتشجيع والعون المادي والمعنوي، فلقد لقي الشح والتجاهل والتآمر عليه لإغلاقه!
وفي سنة 1843م (1260هـ) رقي رفاعة إلى رتبة قائم مقام لجهوده الخيّرة في قلم الترجمة.
-ولم يقتصر جهد الطهطاوي على الترجمة والتدريس، بل اتسع ليشمل مجالات أخرى. فقد عمل على إنشاء متحف لآثار مصر، مدفوعاً بحب وطنه ونقمته على نهب المستعمرين الآثار المصرية، فحوّل فناء مدرسة الألسن إلى نواة لأول متحف تاريخي بمصر. كذلك رئيس تحرير أول صحيفة إخبارية عربية بمصر "الوقائع المصرية" عام 1842م بعد أن كانت منذ عام 1828 م صحيفة تركية يصدرها الوالي.
-وفي عام 1845 م (1262هـ) ترجم رفاعة مجلداً آخر من جغرافية ملطبرون فكافأه محمد علي بأن رقاه إلى رتبة أميرالاي وصار يدعى رفاعة بك. وهكذا استطاع هذا الرجل الدؤوب المقدام أن يضع الأسس لعصر النهضة العربية بمصر، هذا العصر الذي كان من شأنه، لو استمر قدماً، أن يجعل مصر والوطن العربي في طليعة الأمم المتقدمة في العالم في هذا العصر.
5-النكسة في عهد عباس:
وفي 10 تشرين الثاني / نوفمبر 1848 (13 ذي الحجة 1264هـ) توفي حاكم مصر إبراهيم باشا قبل أبيه، فخلفه الخديوي عباس ابن أخيه الأكبر طوسون في 4 كانون الأول /ديسمبر 2آب /أغسطس 1849م توفي محمد علي، فاستقل عباس في حكم البلاد حكماً مطلقاً. وبعد أقل من عام قاد عباس انقلاباً رجعياً ضد التيار التحرري والتنويري والتطويري بمصر لصالح التيار الإقطاعي الظلامي الجمودي الذي كان يعمل على إبقاء مصر مرتبطة بالدولة العثمانية ويحظى بمباركة الاستعمار البريطاني الكامل.
-وكان لا بد ان يصيب رفاعة سوء في عهد عباس لكونه رمزاً من رموز الحركة الوطنية والتحريرية، وعاملاً نشيطاً في ميدان التنوير الفكري والتقدم الاجتماعي والثقافي.
وهكذا أغلقت مدرسة الألسن، وحصر توزيع جريدة الوقائع المصرية بعدد من الأتباع ونفي رفاعة إلى السودان عام 1850 وعُيّن ناظراً لمدرسة ابتدائية ووضع تحت المراقبة.
لقد أدرك رفاعة طبيعة هذه الردّة وغرضها فكتب في السودان عنها: "إنها كانت لمجرد الحرمان من النفع الوطني".
-ولم يدَعْ رفاعة الوقت يضيع سدىً في السودان حيث لبث منفياً سنوات أربعاً فترجم رواية "مغامرات تلماك" تأليف فينيلون. وهي رواية مستقاة من الميتولوجيا اليونانية وتتضمن نصحاً لأولياء الأمور. ويغلب على الظن أن رفاعة حاول الهرب من المنفى وخطط لذلك وأرسل الرسائل إلى أهله بطهطا وإلى صحبه بالقاهرة لمساعدته.
6-عمل رفاعة في عهد سعيد:
وتوفي عباس الأول وخلفه سعيد الابن الأصغر لمحمد علي في حكم مصر عام 1854م كان سعيد ذا تفكير حر وميل للاقتداء بالغرب ولكن اهتمامه بأمور الجيش صرفه عن الشؤون الأخرى، فلم يتح لرفاعة خلال حكم سعيد الذي امتد عشر سنوات، أن يعيد المؤسسات المغلقة والملغاة.
ولكن ما الذي فعله خلال هذه المدة؟
- عُيّن عضواً ومترجماً في مجلس محافظة القاهرة.
- عُيّن وكيلاً أي ناظراً ثانياً في المدرسة الحربية "بالحوض المرصود- الصليبة" التي كان ناظرها سليمان باشا الفرنساوي.
- نجح عام 1856م في إنشاء مدرسة مستقلة بالقلعة كانت في الأصل مدرسة حربية لأركان الحرب فحوّلها إلى مدرسة مدنية كتلك التي أنشأها أيام محمد علي وإبراهيم، فدرست مع اللغة العربية اللغات الشرقية والغربية وأنشأ فيها قلماً للترجمة.
- تولى إلى جانب نظارة هذه المدرسة، نظارة مدرستي "الهندسة الملكية" "والعمارة" و"تفتيش مصلحة الأبنية".
- نجح في استصدار أمر من الخديوي سعيد بطبع جملة من الكتب التراثية العربية على نفقة الحكومة.
غير أن هذا النشاط قد توقف عام 1861م وفصل رفاعة من الخدمة وظل مدة عامين "عاطلاً عن العمل".
7-تجدد النشاط زمن إسماعيل:
- وتولى إسماعيل الحكم عام 1863م فزامنه رفاعة عشر سنوات حتى وفاته عام 1873م وفي عهده نشط رفاعة من جديد، وفتحت أمامه أبواب العمل في التعليم والترجمة والتأليف، فقد أعاد إسماعيل إنشاء ديوان المدارس (وزارة التعليم) وعين رفاعة في لجنة الديوان وعندما أراد إسماعيل إصلاح القضاء أنشأ لترجمة القوانين الجديدة قلم الترجمة الجديد عام 1863م وعيّن رفاعة ناظراً له. وفي عام 1867 م عهد علي مبارك الإشراف الدائم على هذه المكاتب، والإشراف على تدريس اللغة العربية في المدارس.
- واستعان رفاعة بتلاميذه القدامى، فأنجزوا ترجمة كود نابليون مجموعة القوانين التي أصدرها والدستور العثماني وترجم هو نفسه القانون المدني في مجلدين. وفي عام 1870م قرر ديوان المدارس إصدار مجلة فكرية وثقافية وأدبية سميت "روضة المدارس" وكلف رفاعة رئاسة تحريرها. وضمت المجلة أكبر المتخصصين وأصدرت ملاحق لأعدادها تنشر فصولاً متتابعة تكوّن كتباً كبيرة في موضوعاتها ولبث رفاعة أربع سنوات ونصفاً يعمل على إصدار هذه المجلة، حتى توفي في 27 مايو/ أيار سنة 1873 م الموافق نهاية ربيع الأول 1290هـ.
- لقد عرضنا في حديثنا عن هذا الرجل الفذ إلى منبته في الزمان والمكان، وسيرورته خلال حياته الحافلة بالأحداث والأسفار والتقلبات والإنجازات، وذكرنا المراحل المختلفة التي مرّ بها أو مرّت به، فوجدناه في الأحوال جميعها راجح العقل، ثابت العزم، واثقاً من نفسه، يعرف هدفه ويسعى لتحقيقه بلا كلل لا يقعده عناء أو مشقة أو جهالة حاكم غاشم، حاملاً دائماً وأبداً راية الوطن ومشعل العلم.
ولعل من الصواب أن نقترب منه أكثر فأكثر، فنتعرف طباعه وصفاته الشخصية وصلته بأسرته وبمن حوله، لنصل بعد ذلك إلى الحديث عن المقدار الهائل من المترجمات والمؤلفات التي أنجزها خلال نصف قرن من الجهاد والدأب في العمل.
8-طباع رفاعة وصفاته:
يقول تلميذه وكاتب سيرته صالح مجدي في الكتاب الذي وضعه عنه: "حلية الزمن بمناقب خادم الوطن": إنه كان قصير القامة، عظيم الهامة، واسع الجبين، متناسب الأعضاء، أسمر اللون، ثابت الكون، يلثغ بالراء.." وقال: "..كان فيه زيادة كرم وسماحة، وكان كثير التواضع، جَمّ الأدب، محباً للخير، وكان كلما ارتقى إلى أسمى المناصب وجلس على أعلى المراتب ازداد تواضعه للرفيع والوضيع، وتضاعف سعيه في قضاء حوائج الجميع، ولم يغتر بزينة الدنيا، وزخرفها، وكان حميد السيرة، حسن السريرة.." وقال: كان فيه دهاء وحزم وجرأة وعزم، وإقدام ورئاسة، ووقوف تام على أحوال السياسة، وتفرس في الأمور..".
ولعل هذه الصفات الخلقية والخلقية، كانت المعين الذي مَدّه بالقدرة الفائقة على العمل، وساعده على تحمل المشاق ومغالبة الصعاب، مدة نصف قرن من الزمن ما عراه وهن، ولا أقعده يأس.
لقد عاش رفاعة اثنين وسبعين عاماً، ولكن عطاءه يضاهي عطاء أجيال عدة، لقد أعطى مصر والعرب، مع الحركة الثقافية التي بعثها ورعاها أكثر من ألفي كتاب خلال أربعين عاماً، في حين أن الدولة العثمانية لم تصدر باللغة العربية خلال قرن كامل أكثر من أربعين كتاباً!
-لقد كان صاحب أولويات، فهو أول من ترجم في مصر من أبنائها، وأول من سعى لإنشاء متحف أثري، وأول من أنشأ صحيفة أخبار عربية، وأول من ربط النظر بالعمل، فأنشأ للتربية والتعليم والثقافة دوراً ومعاهد ومؤسسات، وأول من جدّ في تعلّم وتعليم اللغات الأجنبية، وأول من دعا وعمل على ربط الترجمة بالتعريب أي ترجمة العلوم المختلفة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية ليدرسها أبناء مصر والبلدان العربية باللغة العربية الأم فيكون ذلك أيسر للفهم والاستيعاب والتمثل وأكثر فائدة في تحصيل المعارف وإتقانها والإبداع فيها.
وكان اشتغاله بالترجمة والتأليف هدفاً بذاته ووسيلة لتحقيق هدف أكبر. أما أنه هدف بذاته فذلك أن رفاعة كان شغوفاً بالمعرفة والعلم بمعناهما الموسوعي الواسع، وعندما اطلع على ينابيعهما في التراث العربي الإسلامي الثري وفي مؤلفات العلماء والأدباء الفرنسيين بخاصة، رغب في إظهارهما، بأسلوبه السليم الرشيق لأبناء مصر والعرب. وأما أنه وسيلة لتحقيق هدف أكبر، فإن رفاعة إذ قنع بأن العلم سبيل القوة والمعرفة طريق الازدهار، وشاهد ما شهده في الغرب، فقد عزم على مباشرة الترجمة والتأليف والحث عليهما ورعايتهما لتنوير أبناء جلدته ونقل مصر الغالية من بلد تابع متخلف ومستغل إلى بلد مستقل حرّ ومتقدم.
9-ترجماته ومؤلفاته:
كان رفاعة في ترجماته موسوعياً فشملت ترجماته: التاريخ والجغرافية والطب والعلوم والقانون والهندسة كما ترجم في الشعر والأدب.
وقد بلغت ترجماته سبعاً وعشرين ترجمة:
1-تاريخ قدماء المصريين. طبع عام (1838)
2-قانون التجارة (1868)
3-القانون المدني الفرنسي (1866)
4-التعريبات الشافية لمريد الجغرافية (1835)
5-جغرافية صغيرة (1830)
6-رسالة المعادن (1867)
7-قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر (1833)
8-كتاب قدماء الفلاسفة (1836)
9-مبادئ الهندسة (1854)
10-المعادن النافعة لتدبير معايش الخلائق (1832)
11-المنطق (1838)
12-مواقع الأفلاك في أخبار تليماك (1867)
13-هندسة ساسير (1874)
14-روح الشرائع لمونتيسكيو (لم يطبع)
15-أصول الحقوق الطبيعية (لم يطبع)
16-نظم العقود في كسر العود - شعر- (1827)
17-نبذة في تاريخ الاسكندر الأكبر
18-تقويم سنة 1244هـ لجومار.
19-مقدمة جغرافية طبيعية
20-ثلاث مقالات في الهندسة
21-قطعة من عمليات رؤساء ضباط العسكرية
22-نبذة في علم هيئة الدنيا
23-نبذة في الميثولوجيا
24-نبذة في علم سياسات الصحة (نشرت في تخليص الإبريز)
25-الدستور الفرنسي (نشر في تخليص الإبريز)
26-كتاب الجغرافية العمومية (1838) وهو كتاب (ملطبرون) ترجم منه رفاعة أربع مجلدات من ثمانية وطبع بدون تاريخ.
27-أطلس جغرافي (1834)
وكان قد أنجز من هذه الأعمال اثني عشر عملاً في باريس وتقدم بها للجنة الفاحصة في امتحانه النهائي.
هذا وقد راجع وصحح وهذب ترجمات أجراها غيره واختار ورشح كتباً ليقوم تلامذته بترجمتها وسائر هذه الجهود شملت ألفي كتاب.
-أما أسلوبه في الترجمة فهو يلتزم السجع أحياناً ويتخفف منه أحياناً أخرى، فهو يمثل مرحلة انتقال بين عصر الركاكة والتسجيع والتعبير المفتعل المصنوع والمزخرف بالمحسنات اللفظية والبديعية الذي كان سائداً قبله، إلى عصر التعبير الحر الذي يبغي تقديم الفكرة دون طلائها بالأصباغ أو سجنها في قوالب جاهزة. وقد ساعده اطلاعه على مؤلفات الغرب التي ترجمها والتي لم يترجمها، وانحيازه إلى ترجمة العلوم الأساسية والتطبيقية والاجتماعية على التحرر من أسار القيود التي تقيد النثر والشعر ودفعته إلى ابتكار ألفاظ وتراكيب جديدة للتعبير عن الأفكار والمعاني الجديدة، بل والشروع بعمل معجمي كان فاتحة لما جاء بعده.
-وقد واجه رفاعة في الترجمة موضوع المصطلح أي المقابل العربي للمصطلح الأجنبي التخصصي إذ لم يكن قبله من واجه هذا الأمر منذ عصر الترجمة زمن الخليفة المأمون، ولذا كان عليه أن يجتهد ويجد الحل، فعمد هو وتلاميذه إلى وضع جدول يتضمن مصطلحات كل كتاب يترجمونه، فيلحق بالكتاب، على أن تجمع هذه الجداول فيما بعد لتشكل قاموساً شاملاً.
ومن الكتب التي ترجمها الطهطاوي ووضع لها قاموساً لمصطلحاتها كتاب: "قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر "وقد استغرق هذا القاموس الصفحات من رقم 2-105، وكتاب "التعريبات الشافية لمريد الجغرافية" واستغرق قاموسه الصفحات من 62-96.
ولكن من أين يعثر رفاعة على المصطلحات التي يحتاج إليها في الترجمة؟ وكيف استطاع أن يطوع اللغة العربية للأفكار والتصورات المستحدثة؟
لقد اختط منهجاً عملياً يقوم على أربعة أسس:
1-الاستعانة بالمفردات العلمية والفنية العربية القديمة أي الاستفادة من المصطلحات التي أوجدها المترجمون والعلماء والأدباء العرب قديماً في عصر النهضة العربية الأولى واستخدموها في مترجماتهم ومؤلفاتهم.
2-وضع مقابلات عربية للمصطلحات الأجنبية وفقاً لطرائق الوضع، مما طوّع اللغة العربية للأفكار والتصورات المستحدثة.
3-الاستعانة باللغة الدارجة في مصر إذا لم تُسعف الفصحى، علماً بأن كثيراً من الألفاظ العامية يمت إلى الفصيح بصلة ما.
4-تعريب بعض الألفاظ الأعجمية بأسهل ما يمكن التلفظ به فيها، عند الضرورة. ويقصد بالسهولة أن يجعل اللفظ العربي على وزن من أوزان العربية إذا أمكن، وهذا ما يدعى "المُعرّب" وإذا تعذر ذلك وأخذ بلفظه دعي "دخيلاً".
ومما كتبه رفاعة يتبين أنه كان يعتقد أنه كان يقوم بعمل مماثل للعمل الذي قام به النقلة في بيت الحكمة ببغداد أيام الرشيد والمأمون زمن النهضة العربية القديمة، إذ قال:
"... إن الألفاظ المعربة يمكن أن تصير على مدى الأيام، دخيلة في لغتنا كغيرها من الألفاظ المعربة عن الفارسية واليونانية".
وجدير بالذكر أن المصطلحات التي استخدمت في الترجمة والتأليف في تلك الحقبة، من قبل الطهطاوي وباقي الكوكبة الريادية التي نشطت آنئذ لم تكن جميعها المصطلحات الفُضلى، بل عُدِل عن بعضها فيما بعد واستعيض عنها بأخرى، بيد أن الجهد الذي بذلوه قد آتى أكله إذ أوجدوا النواة الصالحة للغة علمية عربية النطق والحرف.
إن منهج الطهطاوي وتلامذته في ميدان وضع المقابلات العربية للمصطلحات العلمية يحتاج لدراسات موسعة لجلاء الجهد الذي بذل لتطوير لغتنا العربية في هذه الحقبة.
-ومن المفيد أن نذكر السمات العامة التي ميّزت الترجمة في مصر خلال هذه المدة والتي كان رفاعة في طليعة فرسانها:
1- كانت الترجمة هادفة يقصد منها تحقيق غرضٍ ما. فقد صدرت كتب مترجمة جمعت أجزاؤها من كتب كثيرة مختلفة، وثمة كتب ترجمة بعض فصولها وتركت فصول أخرى، إذ كان القصد الوصول إلى كتاب يؤدي غرضاً تعليمياً أو تثقيفياً محدداً، ووضعت كتب جمعت بين الترجمة والتأليف.
2- بدأت الترجمة بعيدة عن التخصص، فكان المترجم نفسه ينقل كتباً في موضوعات مختلفة، وعندما قويت حركة الترجمة مالت إلى التخصص.
3- اتبع في الترجمة مبدأ المشاركة في العمل، حرصاً على إنجازه في أقصر مدة، فكان يشترك في نقل الكتاب إلى العربية أكثر من مترجم ولا سيما إذا كان الكتاب كبير الحجم أو كثير الأجزاء.
4- اشتهر من المترجمين عدد من المختصين أمثال: محمد علي البقلي ومحمد الشافعي وعلي رياض ومحمد الدري، في الطب، ومحمد ندى في النبات والحيوان، ومحمد الفلكي ومحمد البيومي في الفلك والرياضيات والهندسة. وثمة جماعة جمعوا بين التأليف والترجمة والتصحيح والتدقيق المصطلحي مثل محمد عمر التونسي وإبراهيم الدسوقي.
وكان رفاعة الطهطاوي طليعياً بين هؤلاء، متعدد الإسهامات والإنجازات، إلى جانب انشغاله بأعمال أخرى كالتأليف والتدريس والصحافة والإدارة والتفتيش في ميدان التعليم.
-أما مؤلفاته فقد بلغ عددها عشرين مؤلفاً نذكرها مع موضوعاتها:
1-تخليص الإبريز في تلخيص باريس (تصوير رحلته إلى فرنسا) طبع ط1/1834م
2-مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية (المجتمع والتمدن) طبع 1869م
3-المرشد الأمين في تربية البنات والبنين (التربية والوطنية والتمدن) طبع 1873م.
4-أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل (تاريخ مصر القديمة حتى الفتح العربي وتاريخ العرب قبل الإسلام) طبع 1868م.
5-نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز (سيرة الرسول الكريم) 1873م.
6-القول السديد في الاجتهاد والتجديد (الاجتهاد في الإسلام) نشر ملحقاً لمجلة روضة المدارس.
7-التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية (محاولة تبسيط قواعد اللغة العربية) طبع 1869م.
8-جمل الآجرّومية (منظومة في النحو) طبع عام 1863م.
9-تخميس قصيدة الشهاب محمود (46بيتاً) طبعت عام 1891م.
10-17 - ثماني قصائد وطنية في حب الوطن ومدح الخديوي سعيد والخديوي إسماعيل طبعت بين 1855-1891م.
18-الكواكب النيرة في ليالي أفراح العزيز المقمرة (تهاني لبعض الأمراء) طبع عام 1982.
19-مجموع في المذاهب الأربعة (ما زال مخطوطاً).
20-أرجوزة في التوحيد (لم تطبع)
10-رفاعة وحنين:
-ليس في مقدورنا أن نستوفي الحديث عن رفاعة ودوره التنويري وعمله النهضوي إلا أن نذكر إلى جانبه رجلاً فذاً آخر، سبقه بألف عام تقريباً، وشابهه في أمور كثيرة، وعُدّ أحد بناة النهضة العربية القديمة هو حنين بن اسحق كما عُدّ رفاعة أحد بناة النهضة العربية الحديثة.
لقد ولد حنين عام 809 م في مدينة الحيرة بجنوب العراق، وهو عربي النسب من بني عبادة. نشأ محباً للعلم، ودرس الطب وبرع فيه، وأجاد العربية إجادة ظاهرة وأتقن السريانية واليونانية والفارسية، وانصرف إلى الترجمة والتعريب. وذكر المستشرق مايرهوف أن حنيناً قد ترجم من اليونانية إلى السريانية خمسة وتسعين كتاباً وترجم منها إلى العربية تسعة وثلاثين، وأنه أصلح ما ترجمه تلامذته وهي ستة كتب مترجمة إلى السريانية وسبعون كتاباً مترجماً إلى العربية، كما أصلح خمسين كتاباً ترجمها آخرون.
أما في التأليف فقد ذكر له ابن أبي اصيبعة واحداً وتسعين كتاباً مؤلفاً. ولم تقتصر ترجماته ومؤلفاته على الطب وحده، بل تعدته إلى الفلسفة والمنطق وعلم الطبيعة والمعادن والفلك.
ويذكر الدكتور محمد عمارة في كتابه "رفاعة الطهطاوي": رائد التنوير في العصر الحديث: "أن الرجل الذي ذهب إلى باريس سنة 1826م- يقصد رفاعة الطهطاوي- بزيه الشرقي وتصوراته الإسلامية - وهو أحد خريجي الجامع الأزهر الشريف- كان قد قرر أن يصنع لوطنه صنيع الذين نقلوا إلى العرب الأقدمين فكر اليونان وعلومهم وتراث الفرس وفنهم وفلسفة الهند وحكمتها.. وكما أدخل هؤلاء الأسلاف أمة العرب في مركز التأثير الإنساني وجعلوها تعطي الحضارة عطاءها الغني السخي، فإن رفاعة قد عزم على أن يعيد أمته مرة ثانية إلى القيام بدورها هذا، بعد أن عزلتها عن ميدانه جحافل فرسان الإقطاع المماليك والإنكشارية الأتراك لأكثر من خمسة قرون!".
إذن فقد قرر رفاعة أن يعيد دور حنين بن اسحق وغيره من النقلة والمترجمين في عصر النهضة العربية الأولى، ولقد أحسن إعادة هذا الدور وأفاض. ولئن كان "بيت الحكمة" في بغداد، أيام الخليفة المأمون وبرعايته محطة بارزة في تاريخ العلم والثقافة عند العرب في القرن التاسع الميلادي، فقد كانت دار الألسن و"قلم الترجمة" بالقاهرة أيام محمد علي وولده وبرعايتهما، محطة بارزة ثانية في تاريخ العلم والثقافة عند العرب في القرن التاسع عشر.
-لقد جمعت بين الرجلين أمور كثيرة، بالإضافة إلى تشابه دورهما في إغناء الثقافة العربية بما نقلاه من ثمرات الثقافات الأجنبية، في حقبتين متباعدتين في الزمن، إلى اللغة العربية.
لقد جمع بين الرجلين طبع أصيل وخلق قويم وموهبة فذة، فكلاهما عرفا بالفطنة والذكاء والألمعية، وفطرا على الإخلاص والوفاء والمودة ومحبة الوطن واللسان العربي، وكان كل منهما جاداً مجداً، جلوداً صبوراً، يعمل ما وسعه العمل نهاراً وليلاً، ويجد سعادة فيما يعمل، لا يأبه لعناء، ولا يركن لراحة.
لقد اختطا كلاهما طريقاً واحدة وترسّماً هدفاً واحداً هو أن ينقلا المعارف والعلوم التي تقدمت لدى الآخرين إلى لغة الضاد وإشاعتها، بترجمات ومؤلفات بين الناطقين بهذه اللغة ليمسكوا بعنانها ويخوضوا عبابها، ويتابعوا السير من حيث انتهى الآخرون.
لقد مارس كلّ منهما الترجمة والتأليف والتصحيح والتدقيق في آن واحد، وعمل كل منهما على إيجاد المقابلات العربية للمصطلحات العلمية المبثوثة في بطون الكتب، اعتماداً على الطرائق المعروفة في التوليد والمجاز والنحت والتعريب، وكانا كلاهما متمكنين في اللغة العربية حريصين على فصاحة اللفظ وسلامة التركيب وحسن الأداء.
ولقد كانا، قبل كل شيء، يتمتعان بمعرفة موسوعية، وتمكنا من تقديم إنتاج غزير يثير الدهشة والإعجاب.
-ولكن على الرغم من هذا التشابه الشديد بين الرجلين، فثمة تباين في بعض شؤونهما بحكم اختلاف الزمان والمكان.
فقد عاش حنين بن اسحق، في عصر كانت فيه الدولة العربية الإسلامية العباسية ثابتة الأركان، قوية البنيان مبسوطة السلطان، تعتمد منظومة متماسكة من الشرائع والنظم تشمل الحكم والسياسة والإدارة والحياة الاقتصادية والاجتماعية، جعلتها أحسن حالاً وأوفر قدرة من جميع الدول المجاورة، ولذا لم يكن للعرب آنئذ حاجة سوى أن يغترفوا من موقع القدرة والقوة والثقة بالنفس ما تحصل للآخرين من معارف لينطلقوا منها إلى الأبعد والأرقى.
وجاء عمل حنين ملبياً لهذه الحاجة بالذات، فكان عمله وعمل أمثاله اللبنة الأساسية في البناء المعرفي والثقافي الذي شاده من جاء بعده من العباقرة العرب.
-أما رفاعة الطهطاوي فقد عاش في مصر إبان حكم محمد علي وولده إبراهيم ثم زمن من تلاهما عباس وسعيد وإسماعيل. لقد كانت مصر غارقة، في بداية هذه الحقبة، في التخلف والفقر والجمود والجهل بسبب ما عانت من حكم المماليك والعثمانيين مدة مئات من السنين، ولم تكن حاجتها تقتصر على المعارف والعلوم والآداب التي تقدمت في الغرب الذي اقتبسها من العرب أصلاً، وسار بها قدماً، وحده، نحو خمسمائة عام، بل كانت تحتاج إلى جانب ذلك، إلى من ينهضها من ظلمات القرون الوسطى، ويحرك فيها الهمم والعزائم ويرشدها إلى طرائق الزراعة والصناعة والتجارة المستحدثة، ويفتح لها سبل التقدم بإنشاء المدارس ودور العلم المختلفة، علماً بأنها كانت ما تزال هدفاً لتسلط العثمانيين وطمع الإنكليز وتآمر المماليك.
ولكن الذي حصل، أنه إبان حملة بونابرت على مصر، وعلى الرغم من الأغراض الاستعمارية لهذه الحملة، قد امتد جسر بين طرفي المتوسط، بين مصر وما وراءها من بلدان الشرق العربي، وبين فرنسا التي كانت قد جازت، قبل الحملة، ثورة دامية عارمة ضد النظام الملكي الاستبدادي والسيطرة الإقطاعية وامتيازات ملاكي الأراضي وكبار رجال الدين، ورفعت شعاراتها المعروفة: الحرية والمساواة والإخاء.
وعلى هذا الجسر عبرت طوائف من العلماء والأدباء والباحثين الفرنسيين إلى مصر، إبان الحملة وبعدها، فأحدثت في البحر الساجي الراكد حركة، وفي العقول الغافية صدمة، وفي العيون المغلقة يقظة، ثم عبر على هذا الجسر طوائف من شبان مصر النابهين إلى فرنسا وإلى باريس بخاصة، بقصد طلب العلم والعرفان ونقل ما أمكن من ثمراتهما إلى مصر، واستكشاف السبل إلى النهوض بمصر إلى مراقي العزة والعمران.
وكان رفاعة واحداً من هؤلاء الشبان الذين أوفدهم حاكم مصر إلى باريس للدراسة. لقد عاين رفاعة كل شيء، وتعرف نخبة من رجال العلم والأدب والفن، وقرأ روائع فكرية وأدبية، وشاهد أبناء الشعب في حراكهم المعاشي والاجتماعي، وعرف أفكارهم ومعتقداتهم وتقاليدهم وعاداتهم. لقد فعل ذلك كله من خلال شخصه الذي هو صوغ نشأته الدينية الإسلامية والثقافة الأزهرية التي تمكن منها، فالتقى في ذهنه الشرق والغرب والشريعة والقانون، واجتمعت في مخيلته صور التخلف والتقدم، والفقر والغنى، فحاول أن يخرج من هذا كله بتصور جامع لكل ما يجده حسناً لمصر ومفيداً لشعبها.. تصور يوفق بين ما يراه حقاً وحقيقة في الشرق وما يراه نافعاً وناجحاً في الغرب.
وهذا التصور لم يدعه رفاعة حبيساً في نفسه، بل سجّله وبينّه وشرحه وأخرجه للناس والحكام، فكان له في كل أمر موقف وفي كل قضية رأي.
لقد استحق رفاعة في نظر من أيده ويؤيده في أفكاره واتجاهاته وفي نظر من خالفه أو يخالفه في بعضٍ أو كلٍ منها أن يكون "رائد التنوير" في عصره، لأنه كان في كل ما أخذ وكل ما أعطى وافر الإخلاص، قوي العزم، نبيل الهدف، ثابت الرأي، لا يزعزعه جور، ولا يصده عن هدفه عناء.
وخير من أن نشرح أفكاره شرحاً قد يخلّ بها زيادة أو نقصاناً، إيرادُنا نصوصاً بإنشائه الرفيع حول أهم القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية التي عالجها. ومن شأن هذه النصوص أن تقدم إلى القارئ فكر هذا الرائد الإصلاحي تقديماً صادقاً يغني عن كل تفسير وتأويل.
الشرق والغرب
كان رفاعة الطهطاوي أول شرقي عربي مصري انتقل عام (1826م) من بلد شديد التخلف وهو مصر، إلى بلد يمثل الحضارة الغربية الحديثة، فرنسا، بقصد الدراسة والتعلم ومن أقواله:
-مخالطة الأغراب، ولا سيما إذا كانوا من ذوي الألباب، تجلب للأوطان من المنافع العمومية العجب العجاب.
-إن مفهوم العلم عندهم وثيق الصلة بالصناعة والإنتاج، وهذه الصلة قائمة بالنسبة لمختلف الصناعات والحرف.
-من كمال العدل عندهم أن لا تطول عندهم ولاية ملك جبار أو وزير اشتهر بينهم أنه تعدّى مرة وجار.
-إن العلماء في فرنسا ليسوا رجال الدين، بل هم من لهم معرفة في العلوم العقلية.
-إن أهالي فرنسا يحققون المكاسب والأرباح بالعمل الدائم، ومن جملة أسباب غناهم أنهم يعرفون التوفير وتدبير المصاريف، حتى إنهم دونوه وجعلوه علماً متفرعاً من تدبير الأمور الملكية (السياسية).
-إن التياترو يؤدب أخلاق الناس ويهذبها، وإذا كان في هذه المشاهدات مضحكات، ففيها كثير من المبكيات. فالتياترو عندهم كالمدرسة العامة يتعلم فيها العالم والجاهل.
النقل والعقل
-إن الإنسان بالإدراك يقدر أن يرتب المقدمات لاستخلاص النتائج، وأن ينسب الماضي للحال ويتبصر في عواقب المستقبل.
-إن النواميس الطبيعية أي الأسباب التي توجب المسببات قد وجدت قبل الشرائع والأنبياء، ولكن أغلبها لا يخرج عن حكم الأحكام الشرعية.
ثم يقول:
-إن الله قد زيّن الإنسان بالعقل الذي يميّز بين الحسن والقبيح والضار والنافع والخطأ والصواب وجعل سبحانه وتعالى الإنسان المتصف بالقريحة الذكية والملكة القوية موفقاً لتحصيل العلم استفادته واستنباطه وإفادته.
-لا عبرة بتحسين العقل والتجريب أو تقبيحمها إلا إذا انضم الشرع والوحي إليهما في التحسين والتقبيح.
-أما العلوم الطبيعية، التي هي مشترك إنساني عام، تلك التي أخذها المسلمون عن اليونان ثم طوروها وأخذها الأوربيون عن المسلمين ثم طوروها.. فهي طلبتنا وغايتنا.
الوطن والأمة
-يقول في تعريف القومية: إن الملة (ويقصد بها الأمة) في عرف السياسة كالجنس: جماعة الناس الساكنة في بلدة واحدة تتكلم بلسان واحد، وأخلاقها واحدة، وعوائدها متحدة ومنقادة غالباً لأحكام واحدة ودولة واحدة، وتسمى بالأهالي والرعية والجنس وأبناء الوطن.
-ويجب لمن يجمعهم وطن واحد التعاون على تحسين الوطن وتكميل نظامه فيما يختص شرف الوطن وإعظامه وغناءه وثروته، لأن الغنى يتحصل من انتظام المعاملات وتحصيل المنافع العمومية، وهي تكون بين أهل الوطن على السوّيّة...
-أما عن الحقوق والواجبات بين الوطن والمواطن فيقول: إن صفة الوطنية لا تستدعي فقط أن يطلب الإنسان حقوقه الواجبة له على الوطن، بل يجب عليه أيضاً أن يؤدي الحقوق التي للوطن عليه، فإذا لم يوفِ أحد من أبناء الوطن بحقوق وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها على وطنه..
-إن التقدم لا يتم بدون انجذاب قلوب الأهالي صوب مركز التمدن والتنظيم، وتوجه نفوسهم بالطوع والاختيار إلى الوفاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق