نحو تعريف للعلمانية الفرنسية
بقلم: موريس باربييه
ترجمة: بشير السباعي
درستُ في مقال سابق الأسئلة التي يطرحها قانون عام 1905 حول الفصل بين الكنائس والدولة والتعديل الذي لابد أن يطرأ عليه لأجل تكييفه مع الظروف الراهنة ومع المشكلات التي يطرحها الإسلام(1). ويجتمع الاحتفال بالذكرى المئوية لهذا القانون مع وجود طائفة مسلمة مهمة في فرنسا ليعيد تدشين النقاش حول العلمانية بشكل ملح. وهذا النقاش لم يعد يهم فقط المتخصصين في مختلف الفروع المعرفية (التاريخ، القانون، الفلسفة، علم الاجتماع...)، بل إنه قد دخل إلى المجال العام وهو يهم من الآن أعلى مستويات الدولة (رئيس الجمهورية، الحكومة، البرلمان). وفي هذه الظروف، فإن تأملاً جديداً حول العلمانية إنما يفرض نفسه، سعياً إلى تحديد هذا المفهوم وتحديد مستواه وسعياً إلى دراسة تطبيقه العملي، في آن واحد.
والحال أنه في حين أن العلمانية قد بدت مكتسبة بشكل نهائي ومقبولة من الجميع، فإنها إنما تخرج من النقاش الذي يدور حولها منذ نحو خمسة عشر عاماً وقد طرأ عليها تحول محسوس. والواقع أنه يجري طرح مفاهيم عنها جد متنوعة، تجر أحياناً إلى نتائج متباينة، بل ومتعارضة. وكل واحد يفسر العلمانية من زاوية وضعه وحاجاته أو رغباته. وهناك خلاف حول أسلوب تطبيق العلمانية في حالات ملموسة معينة. والمتخصصون أنفسهم لهم تصورات عنها مختلفة، وهو ما لا يمنعهم من توسيع مجالها إلى حد بعيد. والواقع أن حشد الدراسات (عشرات الكتب ومئات المقالات) المكرَّسَة لمفهوم العلمانية إنما يؤدي إلى إغراقه في الضباب بدلاً من توضيحه. فهذا الحشد من الدراسات يسهم في إضفاء طابع نسبي على مفهوم العلمانية وفي جعله ملتبساً، إذ يبعد به عن معناه الفعلي. وباختصار، يمكن القول إن العلمانية لم تعد فكرة بسيطة وواضحة، يسهل فهمها وتطبيقها. فقد أصبحت فكرة ملتوية أو معدَّلَة أو حتى مشوهة. وبدعوى إعادة التفكير فيها وتجديدها مرة أخرى، يمكن إضعافها أو تحويلها عن مسارها أو نسيانها دون وعي أو حتى التحايل على زحزحتها من موقعها. ولذا فمن المهم التساؤل عن طبيعتها الدقيقة واقتراح تعريف دقيق لها، مع الإشارة إلى النتائج العملية التي تترتب عليها.
الاتجاه إلى توسيع تعريف العلمانية
الواقع أنه ليس من السهل تقديم تعريف مُرضٍ للعلمانية، حتى وإن كانت هناك بالفعل عدة مفاهيم عنها(2). ومن المؤكد أن بوسعنا قول إن العلمانية تتمثل إمّا في الفصل بين الدولة والدين، أو في حياد الدولة في الشأن الديني. وعندئذ سنتكلم عن العلمانية ـ الفصل والعلمانية ـ الحياد، دون أن نعرف ما إذا كان هذان التعريفان متطابقين أو ما إذا كان أحدهما أفضل من الآخر. وفي جميع الأحوال، يتميز هذان المفهومان بمأثرة البساطة والوضوح وهما مقبولان من حيث المبدأ. إلاّ أننا عادة ما نجدهما غير كافيين وناقصين ومختزلين إلى حد ما وجد فقيرين. كما أن من مثالبهما أنهما يدوران حول الدولة، وهو ما لا يعد في صالحهما، وذلك بالنظر إلى عدم الارتياح الذي أخذ يحيط بالدولة. وعندئذ يجري السعي إلى إثراء مفهوم العلمانية، بمنحه محتوى أكثر أهمية وبتوسيعه توسيعاً كبيراً جداً. ونحن هنا بإزاء اتجاه عام، يتجلى بشكل متزايد باطراد منذ نحو خمسة عشر عاماً، إلى درجة أنه يصبح سائداًَ، بل وحصرياً. ويتألف هذا الاتجاه من مماهاة العلمانية بمفاهيم مرتبطة بها إلى هذا الحد أو ذاك لكنها مختلفة عنها بالتأكيد: حرية الضمير والدين، التسامح، التعددية، المساواة، العقل، الديموقراطية، إلخ. كما يجري السعي إلى منحها محتوى إيجابياً وملمحاً ملموساً، لجعلها جذابة وقادرة على كسب الأنصار إلى صف قضيتها. والواقع أن هذا الموقف، بالرغم من ادعائه الدفاع عن العلمانية وإنماء نفوذها، إنما يجازف إلى حد بعيد بإساءة فهمها أو بتحويلها عن حقيقتها أو حتى بالتحايل على استبعادها.
وأحد الأمثلة الأحدث والصارخة على هذا الاتجاه إلى توسيع مفهوم العلمانية توسيعاً مسرفاً إنما يقدمه تقرير لجنة ستازي (ديسمبر/ كانون الأول 2003)، التي كانت مكلفة بتحديد هذا المفهوم وبدراسة تطبيقه، والتي ضمت عدة متخصصين مشهورين في هذه المسألة. فالواقع أن هذا التقرير يعرض العلمانية بشكل بالغ التشوش، إذ يقوم بتضخيمها تضخيماً مصطنعاً، كما يقوم بتوسيعها توسيعاً سخياً. ويعلن التقرير، في مقدمته، أن العلمانية "تستند إلى ثلاث قيم لا يمكن الفصل بينها: حرية الضمير، المساواة القانونية بين الخيارات الروحية والدينية، حياد السلطة السياسية". والحال أن هذه الصياغة إنما تعد محل جدل بالفعل، وذلك لأنها تُدخل في العلمانية، دون وجه حق، حرية الضمير والمساواة الحقوقية بين الأديان. ثم إنها تقصر الحياد على السلطة السياسية، في حين أنه يخص مجمل الدولة أو المجال العام. ولمزيد من التشوش، يقترح التقرير بعد ذلك تحليلين متمايزين للعلمانية في جزئيه الأولين اللذين من الواضح أنه لم يجر التوفيق بينهما. وهو يبدأ بتقديم العلمانية على أنها "مبدأ عالمي شامل" صاغه التاريخ، بيد أنه ينتقل إلى تقديمها على أنها "مبدأ حقوقي" يستند إلى نصوص مختلفة. والحال أن هذين التحليلين إنما يعدان مختلفين وأحياناً متعارضين بشكل محسوس. فالتحليل الأول، الأكثر تميزاً بالطابع الفلسفي، إنما يجعل حياد الدولة نسبياً، بينما التحليل الثاني، وكله حقوقي، يجعل من هذا الحياد العنصر الجوهري في العلمانية
ويؤكد التقرير في جزئه الأول أن " العلمانية لا يمكن اختزالها في حياد الدولة"، بيد أنها تتضمن أربعة "مبادئ رئيسية (الفقرة 1-2): 1) "استقلال السلطة السياسية ومختلف الخيارات الروحية أو الدينية" (وهو ما يعني غياب التدخل السياسي في الشأن الديني وغياب سيطرة الأديان على السلطة السياسية)؛ 2) ضمان حرية الضمير والعبادة، والذي يمثل "المحتوى الإيجابي" للعلمانية؛ 3) واجب الأديان والمؤمنين بها في بذل جهد من أجل التكيف والاعتدال بما يسمح بقيام حياة مشتركة، وذلك في مقابل ضمانات وحمايات تقدمها لهم الدولة؛ 4) ضرورة العيش المشترك وبناء مصير مشترك، وهو ما يقود إلى المماهاة عملياً بين العلمانية و"الميثاق الجمهوري". وهذه المبادئ الأربعة، مأخوذة بحد ذاتها، مبادئ صحيحة تماماً ومقبولة. بيد أن المبدأ الأول هو وحده الذي يشكل بالفعل ركناً من أركان العلمانية، بالرغم من أنه لا يتعلق إلاّ بالسلطة السياسية ويتحفظ حيال ذكر حياد الدولة. أمّا المبادئ الأخرى الثلاثة فهي تتجه إلى مفهوم جديد للعلمانية، يعد مفهوماً متضخماً بشكل محسوس وموسَّعاً بشكل ملحوظ. ويجري التشديد بشكل خاص على حرية الضمير والدين وعلى التنوع الروحي والحياة المشتركة. وبحكم ذلك، لا تعود العلمانية غير وسيلة في خدمة هذه الغايات، وهي غايات جوهرية كما هو واضح. بل إن العلمانية إنما تميل إلى التماهي مع هذه الغايات والذوبان فيها. ومن ثم، تملك هذه الغايات الصدارة على العلمانية ويمكن لهذه الأخيرة أن تتلاشى إذا كان ذلك ضرورياً لبلوغ هذه الغايات. والحال أن الجزء الثاني من التقرير قلّما يعد مرضياً أكثر من الجزء الأول. فهو يؤكد أن المبدأ الحقوقي للعلمانية يتضمن عنصرين: حياد الدولة وحماية حرية الضمير والعبادة. ومن الواضح أن العنصر الأول بشكل جزءاً من العلمانية، بيد أن هذا الحياد لا يجري تعريفه وتجري مماهاته بالمساواة أمام القانون، وهو أمر محل جدل إلى حد بعيد. ثم إن حرية الضمير والعبادة، كما أسلفنا الإشارة، لا تشكل جزءاً لا يتجزأ من العلمانية، حتى وإن كانت هناك صلة بين الاثنتين. وأخيراً، فمن الغريب جداً، في هذين التحليلين للعلمانية، أن فكرة الفصل بين الأديان والدولة يجري نسيانها تماماً، كما لو أنها لم تعد لها أي قيمة. والحال أن الاتجاه السائد الآن إلى تضخيم وتوسيع مفهوم العلمانية، والذي يتجلى في تقرير لجنة ستازي، إنما يقود إلى إدخال تحويل محسوس على العلمانية، بل وإلى حذفها فعلياً، إذ يجري نسيان خصوصيتها التي تميزها وإذ يجري خلطها بمبادئ مختلفة عنها.
العلمانية، مفهوم سلبي
حيال التشوش والالتباس اللذين يميزان الآن العلمانية الفرنسية، بات من الضروري أن نحدد هذا المفهوم تحديداً أفضل، عبر استبعاد توسيعاته غير الجائزة وتفسيراته الذاتية(3). ووصولاً إلى هذه الغاية، يجب الاستناد إلى أساس راسخ وأكيد. وبما أن المسألة مطروحة في إطار فرنسا والدستور الفرنسي، فلا يمكن لهذا الأساس أن يكون سوى النصوص الحقوقية نافذة المفعول: دستور عام 1958 (مع النصوص الأخرى ذات القيمة الدستورية) (4) والقوانين ذات الصلة (خاصة قانوني عام 1882 وعام 1886 بشأن علمانية المدرسة وقانون عام 1905 بشأن الفصل بين الكنائس والدولة).
ومن حيث المبدأ، فإن المعالجة التي يجب اتباعها تبدو بسيطة وسهلة، لكنها، في الواقع، مزروعة بالأكمنة المحتجبة كما أن النصوص الحقوقية تحتفظ بمفاجآت. فأولاً وقبل كل شيء، لا تستخدم هذه النصوص الحقوقية البتة الموصوف "العلمانية"، بل تستخدم الصفة فقط "علمانية". وهذه الصفة تستخدم ثلاث مرات، ولكن بمعان مختلفة: 1) في قانون عام 1886، الذي يفرض "هيئة تدريس علمانية" في المدرسة العامة، وهو ما لا يستبعد الكهنة وأعضاء الرهبانيات الدينية؛ 2) في ديباجة دستور عام 1946، التي تنص على تنظيم "التعليم العام المجاني والعلماني" في جميع المراحل التعليمية، وهو ما يعني استبعاد التعليم الديني؛ 3) في دستور عام 1958، الذي يؤكد، كدستور عام 1946، أن فرنسا "جمهورية علمانية"، وهو ما يستبعد الدين من الدولة. وهكذا نجد أن النصوص الرسمية لا تتجاهل فحسب الموصوف "العلمانية"، بل إنها تستخدم أيضاً الصفة "علمانية" بمعان مختلفة، يشير إليها السياق. لكن المقصود، في الحالات الثلاث، هو استبعاد الدين (أو ممثليه) من المجال العام (الدولة أو المدرسة). وهذا البعد الخاص بالاستبعاد يجازف بنسيانه في زمن يشدد بدلاً من ذلك على الدمج. والواقع أن العلمانية لها طابع سلبي، بينما يشار عادةً إلى جانبها الإيجابي.
وفي المقام الثاني، نجد أن علمانية الجمهورية، التي أكد عليها دستور عام 1958، لا تلقى تعريفاً في أي مكان [من الدستور] كما لم توضحها سوى المناقشات البرلمانية التي أدت إلى إدخالها في دستور عام 1946. والحال أن هذه المناقشات إنما تكشف عن مفهومين، على الأقل، للعلمانية مختلفين: فالعلمانية، في نظر البعض، يتم تعريفها على أنها الفصل بين الكنائس والدولة، وهو الفصل الذي قام به قانون عام 1905؛ وفي نظر البعض الآخر، تتألف العلمانية من حياد الدولة حيال الأديان، وهو ما يستتبع احترام الدولة للحرية الدينية. ومن الناحية الظاهرية، لا يوجد فارق جوهري فيما بين هذين المفهومين للعلمانية، واللذين تعايشا دون تعارض خلال مناقشات عام 1946. على أنهما ليسا متطابقين وسوف يظهر تباينهما فيما بعد. ويبدو أن دستور عام 1958 يفضِّلُ المفهوم الثاني، فمادته الأولى تؤكد أن فرنسا "تحترم جميع الأديان"، وهي صيغة أضيفت في آخر لحظة وتم إقرارها دون دراسة (ولا مراء في أن الهدف من إضفائها هو طمأنة الكاثوليك). وفي هذه الظروف، يمكن تعريف العلمانية الدستورية بأنها حياد الدولة في الشأن الديني، وهو ما يؤكد الطابع السلبي للعلمانية.
لكن قانون عام 1905، الذي لا يتحدث بشكل سافر عن العلمانية، إنما يقترح مفهوماً آخر لها، وذلك بتحقيقه الفصل بين الكنائس والدولة. والحال أن هذا التعبير، الذي لا يظهر في نص القانون، بل في عنوانه فقط، إنما يفتقر، بالرغم من المظاهر، إلى الوضوح. فالواقع أن هذا الفصل ينحصر في عنصرين محدَّدين، ثم إنهما عنصران سلبيان: غياب الاعتراف بالعبادات وغياب تمويلها العام على شكل مرتبات أو إعانات. ومن ثم فإن هذا الفصل لا يتألف إلاّ من إنهاء نظام العبادات الذي كان معتَرَفَاً به، والذي دشنه اتفاق الوفاق [بين الدولة والكنيسة] في عام 1801 والمواد القانونية الصادرة في عام 1802. بيد أن عدة مواد في قانون عام 1905، خاصة المواد المتعلقة بالجمعيات العبادية ومصير دور العبادة، إنما تشير إلى أن الدولة تندمج بشكل غير واعٍ في المجال الديني وتحد من حرية العبادة بشكل تعسفي: ومن ثم فإن هذه المواد تتعارض مع الفصل التام [فيما بين الكنائس والدولة].
ثم إن المادة الأولى من هذا القانون تؤكد (أو بالأحرى تعيد تأكيد) حرية الضمير وحرية العبادة. والواقع أنه لا جديد البتة في ذلك، لأن حرية الضمير كان قد جرى الاعتراف بها بالفعل عبر إعلان عام 1789 (المادة العاشرة) وكانت حرية العبادة قد جرى الإقرار بها على نحو متصل منذ دستور عام 1791. ومن ثم، فقد وجدت هاتان الحريتان قبل العلمانية وبوسعهما أن توجدا دونها، كما تثبت ذلك حالة البلدان التي لا تعرف العلمانية لكنها تحترم الحرية الدينية كل الاحترام. ومن ثم فهما غريبتان عن مفهوم العلمانية بمعناه الأصيل ولا يمكنهما التدخل في تعريفه. والقول نفسه صحيح عندما يراد تعريف العلمانية بالتسامح أو بالتعددية الدينية أو حتى بالديموقراطية، فهذه كلها يمكن فصلها عن العلمانية ويمكن أن توجد دونها، كما هي الحال في بريطانيا العظمى وفي البلدان السكانديناڤية. وتتطلب الدقة حصر العلمانية في جانبها السلبي، لأن القانون الفرنسي يقود إلى اعتبارها مفهوماً سلبياً بشكل خالص: فبحسب قانون عام 1905، تتألف العلمانية من غياب الاعتراف بالديانات ومن انتفاء تمويلها، وتعني العلمانية، بحسب الدستور، استبعاد الدين من المجال العام والدولة.
العلمانية التشريعية والعلمانية الدستورية
في ختام هذا التحليل، يمكن التوصل إلى محصلة أولى. بحسب النصوص الحقوقية سارية المفعول ـ وهي النصوص الوحيدة التي يجب أخذها بعين الاعتبار ـ، يوجد في فرنسا نوعان من العلمانية مختلفان: من جهة، العلمانية التشريعية، التي أقامها قانون عام 1905، والتي يمكن تسميتها بالعلمانية ـ الفصل، وهي معرَّفة تعريفاً واضحاً؛ ومن جهة أخرى، العلمانية الدستورية، التي دشنها دستورا عام 1946 وعام 1958، وإن كنا نجهل طبيعتها المحدَّدة، نظراً إلى غياب تعريف رسمي لها. والعلمانية الأولى واضحة، لكن الثانية ليست واضحة. وهو أمر يدعو إلى أسف أكبر وذلك بقدر ما أن الدستور له قيمة حقوقية أعلى من قيمة القوانين ومن ثم بقدر ما أن العلمانية الدستورية لها الصدارة، من حيث المبدأ، على العلمانية التشريعية(5). ومسألة العلاقات بين الدولة والأديان مهمة بما يكفي بحيث يتوجب أن تظهر بشكل واضح ودقيق في الدستور، كما هي الحال في البلدان الأوروبية الأخرى. والحال أن الدستور الفرنسي، وهذا أمر غريب، إنما يظل قاصراً فيما يتعلق بهذه المسألة، وهو الأمر الذي لا مراء في أنه علامة على قلق سياسي غير معلن وعلى مشكلة لم يتم حلها حلاًّ موفقاً منذ الفصل [بين الكنائس والدولة] في عام 1905.
ولسد هذه الثغرة ولإخفاء هذه المشكلة، جرى عادةً اعتبار أن العلمانية الدستورية لا تختلف عن العلمانية التشريعية، الأمر الذي يبدو أن نقاشات عام 1946 تسمح بتصوره. والواقع أن هذا الموقف قابل للنقاش، بل إنه مستحيل، وقد جاء الوقت الذي يسمح بإدراك ذلك، مما ينذر بإثارة قدر من المتاعب: فالعلمانية الدستورية لا يمكن أن تكون مطابقة للعلمانية التشريعية. والوضعية الخاصة للعبادات في الألزاس ـ الموزيل هي التي تقود إلى هذا الاستنتاج. فالواقع أن هذه المحافظات الشرقية الثلاث، بعد عودتها إلى فرنسا في عام 1919، قد احتفظت بنظام العبادات المعترف بها هي وتمويلها العام، وقانون الفصل [بين الكنائس والدولة] لعام 1905 لا ينطبق عليها. على أن هذا الوضع لا يتعارض مع الدستور (الذي لا مراء في أنه ينطبق على هذه المحافظات الثلاث) كما لا يتعارض مع العلمانية الدستورية. وترتيباً على ذلك، لا تتعارض العلمانية الدستورية مع الاعتراف بالعبادات كما لا تتعارض مع تمويلها العام، ومن ثم فهي مختلفة بالضرورة عن العلمانية التشريعية.
وهذا التأكيد، الذي يبدو مفاجئاً، يمكن البرهنة عليه حقوقياً. فالواقع أن الاعتمادات الموجَّهة لتمويل العبادات المعتَرَف بها في الألزاس ـ الموزيل تظهر كل سنة في موازنة الدولة، والتي هي موضع قانون خاص بالشئون المالية. والحال أن مشكلة تماشي هذا الإجراء مع الدستور لم تُطرح قط ولم يجر التفكير قط في إخضاعها لرقابة المجلس الدستوري. ومن جهة أخرى، تجنب هذا الأخير بحكمةٍ إصدار رأيه حول هذه المسألة، في حين أنه كانت أمامه فرصة واحدة على الأقل لعمل ذلك في ديسمبر/ كانون الأول 1994، عندما نَظَرَ في قانون الشئون المالية لعام 1995. ويمكن أن نستنتج من ذلك أن أحداً لا يعتبر أن هذا التمويل يتعارض مع الدستور. ومن ثم تجبرنا حالة الألزاس ـ الموزيل على تصور أن الاعتراف بالعبادات وتمويلها العام لا يتعارضان مع العلمانية الدستورية، وهو ما يؤكد أن هذه الأخيرة مختلفة عن العلمانية التشريعية. ويترتب على ذلك أنه لن يكون من قبيل التعارض مع العلمانية الدستورية منح تمويل عام لبناء المساجد أو لتدريب أئمة فرنسيين. بيد أنه سيتوجب عمل ذلك استناداً إلى قانون، وإلاّ فسوف يكون من الضروري تعديل قانون عام 1905 (وهو ما تم عمله من جهة أخرى في عام 1920 لأجل مسجد باريس).
ومن المؤكد أن هذا لا يحدد ممَّ تتألف العلمانية الدستورية، ولا ما يميزها عن العلمانية الأخرى. بيد أن هذا يمكنه الإسهام في ذلك، إذا ما أعدنا قراءة المناقشات البرلمانية لعام 1946، والتي قدمت مفهومين للعلمانية: والحال أن المفهوم الأول ـ العلمانية ـ الفصل ـ لا يمكنه توضيح العلمانية الدستورية؛ أمّا المفهوم الآخر ـ العلمانية ـ الحياد ـ فهو وحده الذي يمكنه توضيحها. ويمكن أن نستنتج من ذلك أن العلمانية الدستورية إنما تتحدد بحياد الدولة في الشأن الديني وليس بالفصل بين الكنائس والدولة. وهذا الاستنتاج مشروع من الناحية الحقوقية بما يكفي لاعتباره أكيداً. ويمكن تأكيده بالصيغة التي تقرر أن فرنسا "تحترم جميع الأديان"، والتي تنسجم تماماً مع حياد الدولة. كما أن هذه الصيغة تجري استعادتها في الرأي الاستشاري الذي قدمه مجلس الدولة في 27 نوڤمبر/ تشرين الثاني 1989، والذي يحلل علمانية التعليم والدولة من زاوية حياد المدرسين والبرامج والخدمات العامة. غير أنه يجب تحديد هذا المفهوم الخاص بحياد الدولة، والذي يمكن أن ينطوي على معنيين مختلفين. فهو يشير أولاً إلى غياب أو استبعاد الدين من المجال العام للدولة. ويمكننا عندئذ التحدث عن حيادٍ ـ فصلٍ، وهو ما يذكِّرُ بالطابع السلبي للعلمانية. كما يشير الحياد إلى عدم تحيز الدولة حيال الأديان، التي تعاملها بشكل متساوٍ، دون أن تتميز هي نفسها بطابع ديني، كما في حالة الألزاس ـ الموزيل. وعندئذ يمكننا الحديث عن حيادٍ ـ عدم تحيز، وهو ما يعني مساواة فيما بين الأديان(6).
وللمرة الأولى، أبدى المجلس الدستوري مؤخراً رأيه في مبدأ العلمانية وأشار إلى مفهومه عنه. وقد فعل ذلك في قرار صدر مؤخراً بتاريخ نوڤمبر/ تشرين الثاني 2004 (no 505 DC)، حيث فسر المادة الأولى من الدستور والتي تقرر أن "فرنسا جمهورية علمانية". فهو يؤكد أن الترتيبات المترتبة على هذه المادة "تحظر على أي إنسان التذرع بمعتقداته الدينية لكي يعفي نفسه من القواعد العامة التي تنظم العلاقات فيما بين الهيئات العامة والأفراد". ومن المؤكد أننا لسنا هنا بإزاء تعريف جازم وتام للعلمانية، بيد أن هذا هو أول تفسير رسمي تقدمه للعلمانية أعلى سلطة حقوقية.
وبوسعنا أن نميز في هذا التفسير أربع نقاط مختلفة: 1) فأولاً وقبل كل شيء، تطرح العلمانية حظراً، يجد ترجمة له في تقييد للحرية الدينية، وهو ما يؤكد الطابع السلبي لمفهوم العلمانية، إذ أن كل تقييد يعد سلباً؛ 2) وهذا الحظر موجه إلى الأفراد ويتعلق بشكل أكثر تحديداً بعلاقاتهم بـ"الهيئات العامة"، وهذا تعبير جد واسع يشمل الدولة والهيئات الإقليمية والإدارات والمصالح العمومية؛ 3) ويتصل هذا الحظر بمعتقدات الأفراد الدينية، ليس بهدف تقييدها، وإنما سعياً إلى استبعاد تدخلها أو تأثيرها في العلاقات بين الأفراد والهيئات العامة؛ 4) وأخيراً، يهدف هذا الحظر إلى إلزام الأفراد باحترام القواعد العامة في هذه العلاقات، دون أن يكون بوسعهم إعفاء أنفسهم منها بسبب صدارة هذه القواعد على المعتقدات الشخصية.
بيد أن مفهوم العلمانية هذا غير كافٍ ولا يتطابق مع تعريف تام وشامل. فالواقع أن العلمانية لا تتعلق فقط بالأفراد لأجل تقييد حريتهم الدينية. فهي تتعلق أيضاً بالدولة والإدارات والمصالح العمومية، لأجل فرض الحياد عليها في الشأن الديني، كما سبق وأن رأينا ذلك. وهذه الفكرة، التي سبق لنا تدقيقها، إنما تعد ضرورية لتعريف العلمانية بشكل كامل. وإذا ما جمعناها بالمفهوم الذي صاغه المجلس الدستوري، فسوف يكون بوسعنا التوصل إلى مفهوم مرضٍ للعلمانية.
وبما أن الدستور أعلى من القانون، فقد نجد إغراءً في الإعلاء من شأن العلمانية ـ الحياد على حساب العلمانية ـ الفصل [بين الكنيسة والدولة]، بل وفي الاستعاضة بالأولى عن الثانية. ومن المؤكد أن هذا ممكن تماماً، ولكن بشرط أن لا ننسى أن الحياد من نوعين. فالحياد ـ الاستبعاد يتطابق مع الحياد ـ الفصل، المعرَّف بأنه غياب الاعتراف بالعبادات وغياب تمويلها. بل إنه يشير، بشكل أوسع، إلى استبعاد الدين من المجال العام. أمّا فيما يتعلق بالحياد ـ عدم التحيز، فهو يعني أيضاً استبعاد الدين من الدولة، لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تكون غير متحيزة إذا كانت هي نفسها ذات طابع ديني. بيد أن الحياد ـ عدم التحيز لا يمنع الدولة من أن تكون لها علاقات مع الأديان، عن طريق الاعتراف بها وعن طريق تمويلها، مثلاً. وترتيباً على ذلك، نجد أن العلمانية الدستورية، المعرَّفَةَ على أنها حياد بالمعنى المزدوج لهذا المصطلح، إنما تستوعب، كما هو واضح، العلمانية التشريعية، بيد أنها أوسع (أو أكثر مرونة)، لأنها تفرض على الدولة فقط أن تكون غير متحيزة في علاقاتها مع الأديان. ومن ثم فلا طائل من وراء الرغبة في الاستعاضة عن العلمانية التشريعية بالعلمانية الدستورية، لأن الأخيرة تستوعب الأولى بالضرورة. غير أن الأخيرة مختلفة عن الأولى وتتجاوزها، إذ تسمح للدولة بأن تكون لها علاقات متساوية مع الأديان. وهذا هو السبب في أن التمويل العام للعبادات المعتَرَفِ بها في الألزاس ـ الموزيل لا يتعارض مع العلمانية الدستورية.
وإذا كانت العلمانيتان متمايزتين ومتعايشتين، فإن هناك ما هو مشترك بينهما، ألا وهو استبعاد الدين من الدولة. وهذا يوضح طابع العلمانية السلبي بشكل جوهري. فعندئذ تجد العلمانية تعريفها في نفي الدين من داخل الدولة واستبعاده من المجال العام: ومن ثم فهي مفهوم سلبي، لا يتميز بمحتوى خاص. وهذا هو التعريف المضبوط والدقيق للعلمانية الفرنسية، على نحو ما ينبثق من القانون الراهن. وبوسع هذا التعريف أن يساعد أيضاً على تقدير الأشكال الأخرى للعلمانية وعلى قياس درجة الواقعية فيها.
وهذا الطابع هو الذي يسمح بأن نحصر جيداً الطبيعة الحقيقية للعلمانية، والتي لا هي قديمة ولا جديدة، كما أنها لا هي مفتوحة ولا مغلقة. ومن المؤكد أن بوسعنا اعتبارها مبدأً أساسياً، ولكن بدرجة خاصة، لأنها مبدأ سلبي، وهو ما لا يقلل من أهميتها. وهذا هو السبب في أننا نجازف بأن يختلط علينا الأمر فيما يتعلق بموضوعها، عندما نحاول أن نجعل منها فكرة أو قيمة إيجابية أو عندما نقترح منحها محتوى جوهرياً يخصها. والحال أن هذه المحاولة، كما رأينا، قد أصبحت جد متكررة، بل وعامة، وليس فقط عند مناضلي العلمانية، وإنما عند منظِّريها وعند المسئولين السياسيين والدينيين. ولسد فراغ العلمانية الجوهري، يجري منحها محتوى إيجابياً ووجهاً مطَمْئِناً وجذَّاباً. وعندئذ تجري مماهاتها بأكثر الحالات الواقعية تنوعاً. وهو ما يؤول إلى نسيانها أو إلى الابتعاد عنها. وهكذا، فما الذي يبقى من العلمانية عندما تجري مماهاتها بالحرية الدينية أو بالتسامح أو بالتعددية؟ إنها تصبح، ببساطة تامة، غير ذات طائل وعديمة الأهمية، لأن هذه الأشياء كلها يمكنها أن توجد دونها. والواقع أن هذا أسلوب ذائع وخبيث لتجريد العلمانية من قيمتها ولهجرها من الناحية الفعلية. والحقيقة، على العكس من ذلك، أن هناك أهمية للإبقاء على طابع العلمانية السلبي، بعدم مماهاتها بأي واقع إيجابي. فليس فيها ما هو جوهري في حد ذاتها هي، بالرغم من إتاحتها إمكانية الحرية والتنوع والتعددية في الشأن الديني.
العلمانية والحرية الدينية
إذا كانت العلمانية هي استبعاد الدين من المجال العام، فهي تشمل جانباً آخر، لا يشكل جزءاً من طبيعتها، لكنه يترتب عليها بالضرورة. فالواقع أنه لا يجري نفي الدين تماماً وبوسعه أن يكون موجوداً خارج الدولة، أي في المجتمع المدني، حيث يمكنه أن يُمَارَسَ وأن ينظم نفسه بحرية. والعلمانية ليست نفياً للدين إلاّ في داخل الدولة، وهو ما يسمح بتأكيده خارج الدولة ويسمح من ثم بوجود الحرية الدينية. وبهذا الشكل بالتحديد يمكن للحرية الدينية أن ترتبط بالعلمانية، دون أن تشكل جزءاً من جوهرها بمعناه الأصيل(7). وهذا هو السبب في أن النصوص الحقوقية الفرنسية المتعلقة بالعلمانية تؤكد في الوقت نفسه هذه الحرية الدينية وتخصص لها مجالاً يخصها خارج المجال العام. وهكذا نجد أن قانون عام 1882، الذي يستبعد الدين من التعليم العام، إنما يخصص له يوماً في الأسبوع خارج المواقع المدرسية. وقانون عام 1905 يبدأ بتأكيد حريتي الضمير والعبادة قبل أن يحقق الفصل بين الكنائس والدولة. وأخيراً، ففي النص على أن الجمهورية العلمانية "تحترم جميع المعتقدات"، يخصص دستور عام 1958 للدين مجال حرية. بل إن رأي مجلس الدولة الصادر في عام 1989 يؤكد أنه، بحسب الدستور، "ينطوي مبدأ العلمانية بالضرورة على احترام جميع المعتقدات"، مع أن هذا الاحترام نتيجة للعلمانية ولا يتماهى معها.
وبالطبع، يعد الاعتراف بالحرية الدينية مهماً أهمية استبعاد الدين من المجال العام. وهو يعني أن الدولة لا تتدخل في المجال الديني ومن ثم فإنها، بدورها، تعد مستبعَدةً من هذا الأخير. وهذا يفترض فصلاً كاملاً بين الدولة والمجتمع المدني، بين المجال العام والمجال الخاص، وهو ليس مجال الأفراد وحدهم، بل هو أيضاً مجال جماعات وجمعيات (ومن ثم مجال كنائس وطوائف دينية). وهذا هو السبب في أن الحرية الدينية هي في آن واحد فردية (حرية الضمير) وجماعية (حرية الطوائف الدينية). وهي تعني أن هذه الأخيرة تنظم نفسها وتعمل بحرية. ومن ثم فلا يمكن أن يُفْرَضَ عليها تنظيم خاص أو نظام قانوني خاص. وهكذا نجد أن وجود الاتحادات العبادية، على نحو ما تصورها قانون عام 1905، إنما يعد هو نفسه قابلاً للنقاش. فالواقع أنه يتعارض مع الحرية الدينية. وقد رفضت الكنيسة الكاثوليكية تشكيل هذه الاتحادات، إذ رأت أنها تشكل مساساً بحريتها وبتنظيمها. وبالرغم من التسوية المرضية التي تمت في هذا الموضوع في 1923- 1924 بين الكنيسة الكاثوليكية والدولة، فإن المشكلة الأساسية لا تزال قائمة، أي مشكلة تدخل الدولة في الشأن الديني. وهذا هو السبب في أنه سوف يتعين إعادة النظر في وضعية الاتحادات العبادية أو حتى الاستعاضة عنها باتحادات عادية (ينظمها قانون عام 1901)، مكلفة بدعم نفقات وصيانة دور العبادة ويمكن أن تكون مؤهَّلَة لتلقي التبرعات والهبات المستندة إلى وصايا معفاة من رسوم الأيلولة.
وإذا كانت النصوص الحقوقية الفرنسية تؤكد حريتي الضمير والعبادة منذ زمن بعيد، فسوف يكون من حق الحرية الدينية أن تظهر بشكل معلن في الدستور، كما هي الحال في البلدان الأوروبية الأخرى. والحال أن لها مجالاً أوسع بكثير و، منذ نصف قرن، جرى النص عليها وتوسيعها من خلال عدة اتفاقيات دولية تُلْزِمُ فرنسا. والمقصود بشكل رئيسي هو الاتفاقية الأوروبية بشأن حقوق الإنسان والتي تم التوصل إليها في عام 1950 (المادة التاسعة) والعهد الدولي للأمم المتحدة والخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي تم التوصل إليه في عام 1966 (المادة الثامنة عشرة) واللذان صدقت فرنسا عليهما في عام 1974 وفي عام 1980 بحسب الترتيب. وهذه الاتفاقيات تتجاهل فكرة العلمانية، بيد أنها تكرس للحرية الدينية مادة محدَّدَة وتفصيلية، تستعيد المادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والصادر في عام 1948. وتؤكد هذه الاتفاقيات إلى حد بعيد حرية الفكر والضمير والدين، وهو ما يعني حرية تغيير الديانة أو العقيدة وحرية التعبير عن الديانة أو العقيدة، فردياً أو جماعياً، علناً(8) أو دون علانية، عن طريق التعليم والممارسات والعبادة وأداء الشعائر. وفي عام 1981، يشير قرار للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، بشكل أكثر تفصيلاً بكثير (ولكن دون قيمة إلزامية)، إلى محتوى الحرية الدينية، بتوسيعه توسيعاً كبيراً جداً.
ومع أن الحرية الدينية لا تشكل جزءاً من العلمانية على نحو جازم، إلاّ أنها لا تنفصل عنها البتة. وأحياناً ما يشجع ذلك على الحديث عن العلمانية ـ الحرية، بيد أن هذا تعسف في استخدام اللغة ليس دون خطر، إذ أن بوسعه أن يقود إلى مماهاة العلمانية بالحرية واختزالها فيها، وذلك بنسيان طبيعتها الحقيقية وبنزعها دون وعي. والواقع أن هذه المماهاة قد أصبحت جد رائجة في آن واحد عند المسئولين الدينيين (الكاثوليك والپروتستانت واليهود والمسلمين) وعند القادة السياسيين (من اليمين ومن اليسار)، بل وعند بعض المتخصصين في العلمانية. وعندئذ تتغلب الحرية الدينية على العلمانية، بل وتنتهي إلى الحلول محلها، وهو ما تترتب عليه بالضرورة نتائج عملية. وهكذا، فإذا كانت العلمانية تؤول إلى الحرية الدينية (أو إلى التسامح)، فإن من الواضح أن ارتداء العلامات الدينية في المدرسة العامة ممكن، مثلما يتصور ذلك كثيرون من المسلمين. وسوف يكون بالإمكان تقديم أمثلة أخرى تستلهم هذا المبدأ.
وهذا التفكير هو ما جرى طرحه في رأي مجلس الدولة الصادر في عام 1989، والذي كانت السيدة مارتين لاروك مقرِّرَته. فبحسب هذا النص، نجد أن علمانية التعليم تفرض، من جهة، حياد المدرسين والبرامج الدراسية وتفرض، من الجهة الأخرى، "احترام حرية الضمير لدى التلاميذ" (وهذا صحيح). بيد أن النص يضيف أن هذه الحرية "تتضمن بالنسبة لهم الحق في التعبير وفي الإفصاح عن معتقداتهم الدينية في داخل المؤسسات المدرسية" (وهذا أمر قابل للجدل إلى حد بعيد). ويترتب على ذلك أنه "في داخل المؤسسات المدرسية، لا يعد ارتداء التلاميذ لعلامات يريدون التعبير من خلالها عن انتمائهم إلى ديانة ما متعارضاً في حد ذاته مع مبدأ العلمانية، بقدر ما أنه يشكل ممارسة لحرية التعبير ولحرية الإفصاح عن المعتقدات الدينية". والواقع أن هذا التفكير إنما ينطوي على خطأين لم يجر الانتباه إليهما، حتى من جانب خصوم هذا الرأي. فمن جهة، لا تقتصر علمانية المدرسة العامة، بالنسبة للتلاميذ، على احترام حرية ضمائرهم: فهي تتألف بشكل جوهري من استبعاد الدين من المدرسة العامة ومن ثم تفرض على التلاميذ واجب التحفظ في تصرفاتهم، لأنهم متواجدون في موقع ينتمي إلى المجال العام. ومن الجهة الأخرى، نجد أن حرية ضمائر التلاميذ، والتي هي حرية داخلية، لا تعطيهم البتة "الحق في التعبير والإفصاح عن معتقداتهم الدينية" في المؤسسات المدرسية، لأننا نكون آنذاك بإزاء أفعال خارجية تقوم بإدخال الدين، دون وجه حق، في مجال المدرسة الذي هو مجال عام. ويترتب على ذلك أن رأي مجلس الدولة تعوزه الدقة ويعوزه السند الحقوقي، والاجتهاد القانوني الذي أنجبه قابل للجدل إلى حد بعيد، حتى وإن كانت غالبية المسئولين السياسيين قد وافقت عليه.
وفي هذه الظروف، ولأجل وضع نهاية لهذا الاجتهاد القانوني، الذي جرى الإبقاء عليه بسبب تقصير المشرِّع، كان من الضروري سن قانون لحظر العلامات الدينية في المؤسسات المدرسية العامة. وليس هذا الحظر غير نتيجة وتطبيق للعلمانية إذا ما فهمناها فهماً صحيحاً، والتي يتعين بموجبها استبعاد الدين وتجلياته من المجال العام. والحال أن القانون الذي اعتمدته في فبراير/ شباط ـ مارس/ آذار 2004 الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ (بأغلبية كبيرة جداً في الحالتين) قد حسم المسألة بشكل مرضٍ وبالقدر الضروري من الحكمة: فقد حظر "ارتداء العلامات أو الملابس التي يعبر التلاميذ من خلالها تعبيراً ظاهراً عن انتماء ديني". والحق أن هذا القانون كان، قبل وبعد اعتماده، موضع انتقادات أو تحفظات عديدة، فقد جرى طرح حجج مقنعة إلى هذا الحد أو ذاك تتصل بمدى ملائمته أو محتواه أو تطبيقه أو آثاره. وبسبب عدد وتعقيد هذه الانتقادات فليس بالإمكان النظر فيها هنا. إلا أن بالإمكان تقييم هذا القانون من زاوية العلمانية. فإذا كان القانون يذكر "مبدأ العلمانية" في عنوانه، إلاّ أنه يصمت بعد ذلك صمتاً تاماً حيال هذه المسألة، التي كانت جديرة بالتوضيح. وبوجه خاص، كان سيكون من المفيد تحديد أن هذا المبدأ يستبعد الدين من المجال العام ومن ثم من المؤسسات المدرسية العامة ومن الإدارات، وأنه يفرض الحياد على المدرسين والموظفين وممثلي الإدارات والمصالح العمومية، وأنه ينطوي أيضاً على واجب التحفظ والامتناع من جانب التلاميذ. وهذا يستتبع، بالنسبة لهؤلاء ولأولئك، حظراً لجميع التجليات الدينية ومن ثم للعلامات الدينية الظاهرة. وكان يمكن تحديد التطبيق العملي لهذه القواعد العامة بعد ذلك عن طريق مرسوم أو قرار. وكان من شأن هذا النهج أن يسمح بصدور قانون حقيقي عن العلمانية، بالإشارة الواضحة إلى معنى وأهمية هذا المبدأ الدستوري، وبتوضيح مداه الواسع ودون إخفاء صرامته. وبتجاوز إطار المدرسة والتلاميذ، كان من شأنه أن يتجنب اقتصاره على أن يكون مجرد قانون حول العلامات الدينية، يستهدف الحجاب الإسلامي بشكل رئيسي. وأخيراً، فقد كان بإمكانه أن يكون ذا قيمة تربوية بتنبيهه إلى طبيعة ومتطلبات العلمانية، ليس فقط تنبيه الجماعة السكانية المسلمة (التي تجهلها وتكتشفها)، وإنما أيضاً تنبيه مجمل الجماعة السكانية الفرنسية (التي نسيتها أو بَدَّلَتْ معناها).
إعادة محورة العلمانية
لئن كانت العلمانية الفرنسية غير معرَّضَة حقاً للتهديد، إلاَ أنها تجد نفسها الآن في موضع مناقشة حادة. فالحال أن الدراسات العديدة التي كُرِّست لها منذ نحو خمسة عشر عاماً والمفاهيم المتنوعة التي جرى اقتراحها عنها قد أسهمت في تضبيب صورتها وفي بث التشوش، بل وفي إقلاق الخواطر. ومن الضروري الآن إعادة محورة العلمانية على ما هو جوهري فيها وإعادتها إلى خصوصيتها. ومن ثم فهناك مهمة توضيح وتبسيط ينبغي الاضطلاع بها فيما يتعلق بموضوعها، وذلك بتجنب التخمينات النظرية أو الفلسفية، التي من الواضح أنها تظل مشروعة، وإن كانت لا تراعي الواقع الفرنسي بما يكفي. وهذه المهمة ضرورية اليوم بشكل خاص لسببين، لهما تأثير مباشر على العلمانية: من جهة، تحول الدولة و، من الجهة الأخرى، وجود الإسلام في فرنسا.
فإذا كانت العلمانية الفرنسية محل تساؤل وتشهد تطوراً معيناً، فإن ذلك إنما يرجع بالدرجة الأولى إلى التحولات التي تمس الدولة منذ بضعة عقود. وبما أن العلمانية تتألف من استبعاد الدين من المجال العام، فإنها إنما تتوقف على الأسلوب الذي يُعَرَّفُ به هذا المجال ومن ثم على مفهوم الدولة. والحال أن مجال الدولة، مع بقائه مهماً، إنما يميل بقوة إلى الانحسار لصالح المجتمع المدني، المدعو إلى الاتساع. وترتيباً على ذلك، نجد أن الدين، الذي يحتل مكانه الطبيعي في المجتمع، يشهد اتساع حقله وتعزُّز دوره، بالرغم من العلمنة المتزايدة. وبحكم هذا الواقع، تجد العلمانية نفسها وقد تأثرت وانحسرت بالضرورة. فالدولة، بنقلها عدداً من الوظائف إلى المجتمع، في الشأن الثقافي أو الإنساني مثلاً، إنما تتيح للأديان إمكانيات جديدة بالفعل. وإذا كانت الأديان تمارس مسئوليات في المجتمع، فإن حقل تطبيق العلمانية سوف ينحسر من جرّاء ذلك. ثم إن الحدود التي تفصل الدولة عن المجتمع تميل إلى التلاشي وتصبح نَفَّاذَة ويسهل عبورها في الاتجاهين. فالدولة تتدخل دوماً في حياة المجتمع وتقدم له مساعدتها بأشكال عديدة. وبالمقابل، لا يتردد المجتمع (الأفراد، الجماعات، الجمعيات، المشاريع...) في التغلغل في الدولة، سعياً إلى الحصول على عونها (بما في ذلك العون المالي) وإلى إنماء مصالحه الخاصة.
وطبيعي أن الأديان لا يمكنها أن تظل غريبة عن هذه الحركة المزدوجة. فمن جهة، نجد أن الدولة تتحرى رأيها (في الشأن الأخلاقي، مثلاً) أو تطلب تعاونها أو تقدم لها مساعدات غير مباشرة (تخفيض الضرائب على التبرعات المقدَّمة إليها، الضمان الاجتماعي للعبادات، البرامج الدينية في الإذاعة والتليڤيزيون...). ومن الجهة الأخرى، تسعى الأديان إلى الفوز بوجود عام (وليس اجتماعياً فقط)، وإلى الفوز باعتراف الدولة وإلى جعلها تقبل مواقفها الخاصة بشأن مسائل عديدة (الأسرة، الإجهاض، المثلية الجنسية، الموت الرحيم، استخدام التكنولوچيا في إدخال تحويلات على الكائنات الحية، الهجرة، العدالة الاجتماعية، الفعل الإنساني الخيري...). ويسهم تخفيف الحدود فيما بين الدولة والمجتمع في تخفيف حدة الفصل بين الدولة والديانات التي تخلط بسهولة بين ظهورها الاجتماعي ودخولها في المجال العام. وعلى الدولة أن تميز بوضوح بين الشيئين، فتعترف بالأول، بينما ترفض الثاني. ونجد مثالاً صارخاً لهذا التطور في الإصرار المتكرر من جانب الكنيسة الكاثوليكية (خاصة البابا) وبعض البلدان الأخرى (خاصة بولنده) على أن يتضمن دستور الاتحاد الأوروبي الإشارة إلى تراثه المسيحي، استفادة من واقع أن المجال العام، في هذا الكيان السياسي، لم يتكون بعد بما يكفي ويظل مفتوحاً أمام المصالح والاهتمامات الخاصة، ومن ثم أمام الأديان. ومن الواضح أن دور المسيحية في تاريخ أوروبا مهم جداً، بيد أن الإشارة إليه لا مكان لها في دستور سياسي، هو، في الواقع، معاهدة دستورية بين دول. ومن الواضح أن التحولات الأخيرة للدولة لها أثر محسوس على أسلوب تصور وتطبيق العلمانية. ولابد للنقاش الدائر الآن حول العلمانية أن يراعي هذا العامل الحاسم. فواقع أن الدولة تتغير تغيراً عميقاً وأن المجال العام أصبح متحركاً إنما يجر إلى انعدام يقين عظيم بالنسبة للعلمانية وبقاء العلمانية يفترض تعريف مجال الدولة تعريفاً دقيقاً وصارماً.
والسبب الثاني الذي يفرض إعادة محورة العلمانية هو الوجود الدائم للإسلام ولطائفة مسلمة مهمة. والحال أن العلمانية الفرنسية قد ظهرت في سياق تاريخي خاص، يتميز بالنفوذ القوي للكنيسة الكاثوليكية، والتي رُؤيَ أنها معادية للجمهورية. وقد تشكلت العلمانية بشكل رئيسي ضد هذه الكنيسة، وهي تحتفظ بأثر هذه المعركة في قوانين علمنة المدرسة وفي قانون الفصل [بين الكنائس والدولة] والصادر في عام 1905. ولهذا السبب تحديداً تعتبر العلمانية الفرنسية جد مختلفة عن العلمانية الأميركية، التي ظهرت قبل الأولى بقرن، في سياق تاريخي آخر ودون معركة خاصة. وهذا يفسر أيضاً أنها تبدو غير متوائمة بل وعزلاء حيال دين آخر كالإسلام. فالحق أن الإسلام ليس مقصوداً بقانون عام 1905، الذي لا يستهدف سوى العبادات التي كان مُعْتَرَفَاً بها آنذاك، سعياً إلى إنهاء الاعتراف بها وإنهاء تمويلها.
ولهذا السبب فمن المناسب، مع استلهامنا لمبادئ قانون عام 1905، أن نحدد أسلوب تصور وتطبيق العلمانية حيال الإسلام. ومن حيث المبدأ، لا يطرح هذا الموقف مشكلة كبرى، إذا ما أعدنا محورة العلمانية حول ما هو جوهري فيها، أي حول استبعاد الدين من المجال العام. بيد أن هناك مع ذلك صعوبة جدية ينبغي حلها، وهي صعوبة جديدة ومحيِّرة: ألا وهي أن الإسلام ليس مجرد ديانة، وإنما يتضمن بعداً اجتماعياً وسياسياً ومن ثم إيديولوجية يمكن أن تكون مصدر إلهام لممارسة عملية. ويترتب على ذلك وجوب الفصل فيه بين ما هو ديني وما ليس كذلك. والحال أن هذه عملية حساسة، ليست الدولة مؤهلة للقيام بها وينفر المسلمون من إجرائها. ومن ثم يجب التصرف بشكل عملي لدفع الإسلام تدريجياً إلى الانحصار في بُعده الديني، مع ما يستتبعه ذلك من نتائج عملية. وهذه الطريقة جد مختلفة عن الطريقة التي تود إيجاد إسلام فرنسي، وهو تعبير لا يتميز بأي معنى محدَّد وبوسعه أن يجر إلى التشوش. وفي هذه الحالة الخاصة، يتمثل دور العلمانية في حث الإسلام على أن لا يكون سوى ديانة، لا مكان لها في المجال العام (ومن ثم لا مكان لها في المدرسة)، وإن كان بالإمكان ممارستها بحرية في المجتمع. أمّا فيما يتعلق بطموحات المسلمين السياسية، فبوسعها أن تعبر عن نفسها وأن تنظم نفسها في إطار الدولة العلمانية، وهو ما لابد له من أن يدفعهم إلى كسب وممارسة المواطنة الفرنسية. وهكذا فإن العلمانية إنما تهدف إلى حصر الإسلام في جانبه الديني، مع حث المسلمين على أن يكونوا مواطنين بشكل كامل.
وفي هذا الصدد، يعد القانون الأخير بشأن العلامات الدينية في المدرسة إجراءً أَوَّلَ لا ينبغي التقليل من قيمته، بالرغم من حدوده، ويجب إبراز أهميته. فالواقع أنه يشكل رسالة واضحة إلى جميع المسلمين الذين يحيون في فرنسا، بوضعه حداً معقولاً للإسلام وبتمييزه مجال الدولة تمييزاً واضحاً لا لبس فيه. ومن المؤكد أن هذا القانون يتميز بطابع إكراهي، بيد أن القانون إنما يطبَّق بالاعتماد على الحوار والإقناع. وإلى جانب هدفه المباشر، نجد أن له وظيفة رمزية وقيمة تربوية، لأنه يحدد الطريق الذي يجب اتِّباعه للاندماج في المجتمع الفرنسي والمشاركة في حياته. وهذا هو السبب في أنه لا مجال هناك لحدوث تعارض بين الحظر الذي طرحه هذا القانون والعمل اللازم لتحقيق هذا الاندماج، لأن هذا القانون إنما يشكل بالفعل جزءاً من عملية الدمج ويسهم في حفزها. وترتيباً على ذلك، ودون التخلي عن الحزم، يجب لتطبيقه أن يتم بطمأنة وبتربية في آن واحد. وسوف يتعين على هذا القانون أن يكون مصحوباً أيضاً، دون تأخير، بتدابير إيجابية في صالح الطائفة المسلمة، سعياً إلى تيسير كل من عباداتها واندماجها الاجتماعي في آن واحد. وفي هذا الصدد، نجد أن تقرير لجنة ستازي قد قدَّم عدة مقترحات وجيهة، وسوف يكون بالإمكان إضافة مقترحات أخرى إليها.
* * *
في المستقبل، إذا كنا نتمنى حقاً أن تحافظ العلمانية على معناها وأن تحتفظ بقيمتها، لابد من إعادة محورتها حول خصوصيتها المميزة لها، على فرض أنها لا تزال لها خصوصية. وسعياً إلى هذا الهدف، من الأهمية بمكان مكافحة الاتجاه إلى مماهاة العلمانية بما ليست عليه حقاً. ومن المرجح أن يبقى هذا الاتجاه وينمو. وقد يؤدي ذلك إلى تقريب فرنسا من غالبية البلدان الأوروبية الأخرى، الأمر الذي سيؤدي إلى إنهاء الاستثناء الفرنسي في هذا الموضوع. ومن المؤكد أن العلمانية التشريعية سور واق من انحرافات قادمة، ترتبط بالتحولات الراهنة للدولة. والحال أن مفهوم العلمانية بوصفها فصلاً للسياسة عن الدين واستبعاداً للدين من المجال العام إنما يظل ضرورياً حيال الإسلام لفترة طويلة، لأن الإسلام بحاجة إلى وقت كاف لإجرائه ما هو مطلوب منه من تغيرات. وترتيباً على ذلك، من المناسب صون خصوصية العلمانية وعدم خلطها بنتائجها أو بالآثار المترتبة عليها. وبشأن موضوع على هذه الدرجة من الحساسية وبعد المصاعب العديدة التي واجهها قانون متواضع حول العلامات الدينية، من غير المرجح كثيراً اقتراح تدابير أخرى مماثلة. إلاّ أنه، في ظروف التشوش والارتباك الراهنين، يظل مطلب الدقة والوضوح مطلباً ضرورياً ولا غنى عنه.
موريس باربييه
الكاتب
عالم سياسي ومؤلف كتاب: La Laïcité (Paris, L'Harmattan, 1995) وكتاب: La Modernité politique (Paris, PUF, 2000). وقد نشر في مجلة:
Le Débat: "Esquisse d'une théorie de la Laïcité" (no 77, novembre-décembre 1993) et "Laïcité: questions à propos d'une loi centenaire" (no 127, novembre-décembre 2003).
الهوامش
1- Cf. Maurice Barbier, "Laïcité: questions à propos d'une loi centenaire", Le Débat, no 127, novembre-décembre 2003, pp. 158-174.
2- Voir, à ce sujet, Maurice Barbier, La Laïcité, Paris, L'Harmattan, 1995, pp. 80-89.
3- نقصد هنا مفهوم العلمانية الفرنسي، أي الشكل الذي يتخذه هذا ال�