تقديمصديقي " التاريخي " الكاتب الروائي المصري محمد ناجي ، الذي حضر للعلاج في باريس، حين ذهبت لزيارته والاطمئنان على صحته حديثا ، ودار النقاش بشأن مايحدث في مصر، ودور الجماعات السلفية مع جماعات البلطجية في " المؤامرة " التي تحاك ضد شعبها، و تمهد لاشعال حريق الفتنة الطائفية في بلدنا، وضرب واجهاض الثورة المصرية بأي ثمن ، حتى لو كان ان تحترق مصر كلها ، وهو الشييء الذي تتمناه فلول النظام البائد القديم وأعوان أمريكا وإسرائيل..
حدثني ناجي عن هذا المقال الذي كتبه عام 2007 ، اي قبل قيام الثورة المصرية ( 25 يناير 2011) بأربع سنوات ، ونشره في صحيفة " الوفد " وينبه فيه - من بدري - او قبل الاوان - الى الدور الذي لعبته السلطة الحاكمة والقوي الداخلية والخارجية في توظيف الجماعات الدينية والصوفية في صراعات المنطقة ، وهو مقال قيّم أشبه مايكون برحلة تقصي للحقائق في تاريخ مصر المعاصر، ويستحق التأمل والدرس عن جدارة،لالقاء الضوء على مايحدث الآن، فرأيت اعادة نشره هنا، مع صورة لناجي ، الذي صدر له حديثا كتاب بالشعر المنثور بعنوان " تسابيح النسيان " عن دار نشر العين في مصر، واليكم مقال ناجي..
صلاح هاشم الدراويش.. والرقص علي جمر السياسة
بقلم: محمد ناجي
جريدة الوفد ـ مصر ـ الإثنين 12 نوفمبر 2007
يرقص الدراويش علي الجمر في كل الديانات وفي كل القارات. وَصف اليوناني نيكوس كازانتزاكيس تفاصيل تلك الشعيرة لدي النسّاك المسيحيين في رائعته الروائية "الأخوة الأعداء"، وتحدثت عنها كتب الشعائر الهندوسية والبوذية باستفاضة، وانتقلت إلي بعض الفرق الإسلامية، وأصبحت جزءا من احتفالياتها الشعبية. اجتهد الباحثون في تفسير تلك الشعيرة كل حسب مجاله، فأهل الباراسيكولوجي يفسرونها بقوي كامنة في النفس، يستنهضها الإنسان بطريقة أشبه بالتنويم المغناطيسي. أما علماء الفيزياء ومنهم البروفيسور الأمريكي ديفيد ويللي فيردونها إلي براعة في استغلال القوانين الفيزيائية. وهناك من يرون في الأمر خداعا يتمثل في نوع الجمر المستخدم، وفي دهان القدمين بسوائل خاصة.
لكن أيا كان تفسير الباحثين، فإن الدراويش يرون في هذه الرياضة الغريبة رمزا للترفع علي الآلام، والسيطرة علي الجسد، والقدرة علي الخروج من اختبارات الغرائز بسلام.
وقد تضيف السياسة بعدا رمزيا آخر لهذا الطقس، فالصوفي يجد نفسه دائما راقصا علي "جمر السياسة"، إما باتهامه بأنه صاحب مشروع سياسي باطني، أو بسعي الحكام لكسب تأييده لتوسيع قاعدة شعبيتهم. وقد يجد الصوفي نفسه مدفوعا لدور قتالي بدوافع إيمانية تضفي صبغة مقدسة علي مصالح الجماعة ومواقفها، وحدث ذلك في تاريخ جماعات صوفية معروفة منها "السنوسية" و"النقشبندية" و"القادرية" و"المهدية".
***
يحفل تراثنا الشعبي بحكايات وطرائف كثيرة، صريحة أو رمزية، تتناول العلاقة المعقدة بين "أهل الباطن" الروحاني وأهل السلطان الدنيوي. وتوضح "سيرة الظاهر بيبرس" كيف احتمي البطل المملوكي منذ كان أميرا صغيرا في بلاط الأيوبيين بنفوذ ولي طنطا السيد أحمد البدوي، ليحرس طموحاته ويرفع شعبيته ويحميه من مكائد الإنس والجن.
تولي الأمير الشاب بيبرس إمارة إقطاع الغربية في عهد الملك الصالح أيوب، وبدأ في بناء قنطرة علي احدي ترع "المحلة"، وكان يراهن علي تلك القنطرة في تعزيز صعوده بين أهل الحكم، وفي كسب محبة الناس، لكن قوة خفية هددت طموحات الأمير.
أخبره العاملون في القنطرة أن ما بنوه أول يوم انهدم في الليل بفعل فاعل. فأمرهم بيبرس أن يواصلوا البناء، ودفع بخيرة رجاله للسهر قرب المكان لمعرفة المجرم المجهول. وفوجئ الحراس بأن رجلا يلبس ملابس الفقراء وعلي كتفه نبوت ظهر فجأة، ثم أشار بالنبوت لموقع القنطرة فانهدم ما بناه العمال، واختفي الرجل.
تولي بيبرس حراسة المكان بنفسه في الليلة التالية، وتكرر معه ما حدث مع رجاله، وزاد عليه أن الرجل الغامض ذا القوي الخارقة دفعه بطرف "النبوت" فرمي به في واد مقفر. وفي هذا المكان انعقد "ديوان الحكم" برئاسة البدوي للنظر في أمره.
تقول السيرة الشعبية: "أقبلت رجال كثيرة، ثم جلس كل واحد منهم علي حجر فصاروا مثل ديوان الحكم. وبعد ذلك أقبل رجل جليل القدر والمقام، فلما أقبل نهض له جميع الجالسين علي الأقدام، فسلم عليهم سلام الأمراء العظام، فردوا عليه سلامه بأدب واحتشام".
ويوضح النص أن الرجال الذين جلسوا علي الكراسي هم أولياء الله، أما الكبير الذي سلموا عليه بأدب واحتشام فهو السيد أحمد البدوي.
وقف الأمير بين يدي شيخ العرب يشكو حاله. وأمر البدوي باحضار الولي المسئول عن "المحلة" لمعرفة أصل الحكاية، فحضر الشيخ علي الفوال في الحال ونبوته علي كتفه، وأخبر القطب الكبير أن سكان المكان من الجن يعارضون إقامة القنطرة ويهددون بخراب "المحلة" كلها لو تم هذا البناء، ولهذا فإنه يقوم بهدم ما يبنيه العمال لتجنيب السكان غضبة الجن.
أنصف شيخ العرب الأمير الشاب بيبرس، ووجه أمرا للجن بأن يتركوه يكمل بناء القنطرة، وأنذرهم أنه لن يسمح لهم أن يتحكموا في الأرض "ويمنعوا حكام البلاد عن الإصلاح ومنع الفساد".
طبعا أطاع الجن أمر القطب الكبير.
في بقية الحكاية أن البدوي أمر الشيخ علي الفوال أن يأخذ بيبرس إلي "البستان المعلوم" ليأكل من شجرة "النصيب" فأكل بيبرس من شجرة النبق سبع مرات، وفي كل مرة سبع ثمرات. كان لكل ثمرة طعم غير أخواتها، وبهذا الطعم فسّر الشيخ الفوال للظاهر بيبرس "كتاب أقداره"، من الصعود والصراع والجهاد والموت، وكان لكل حلقة من حلقات حياته طعم يميزها، وقد تذوقه بيبرس في حبات النبق.
***
بعيدا عن التراث الشعبي بوسائله الفذة في التعبير والترميز توجد دراسات مهمة ترصد العلاقة بين الصوفية وحكام مصر علي مر العصور بشكل منهجي علمي، أذكر من بينها كتاب "الصوفية والسياسة في مصر" للدكتور عمار علي حسن مدير مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط.
ومن ملاحظات الباحث أن الصوفية المصرية قدمت "نموذجا مكتمل الأركان في استخدام الدين مطية لتبرير القرار والاتجاه السياسيين"، باسثناء بعض الحالات الفردية النادرة.
ازدهر التصوف في مصر في عهد الفاطميين كوعاء لترويج أفكارهم. واكتسب صلاح الدين الأيوبي هذه المهارة منهم، فبعد أن قضي علي دولة الفاطميين قرّب إليه المتصوفة السنة، ومنهم عبد الرحيم القنائي الذي كان متصوفا شيعيا وانقلب علي أتباعه وانضم للأيوبيين.
وفي العصر المملوكي زاد نفوذ المتصوفة إلي درجة رفع الكلفة بينهم وبين السلاطين. وكان لشيخ العرب مكانة تجعل السلطان بيبرس حريصا علي أن يزوره في طنطا، وأن "يقبل قدميه". أما الشيخ ابو السعود الجارحي فكان الأمراء يقفون بين يديه ولا يؤذن لهم بالجلوس.
ولم يخفّ الاهتمام بالصوفية في العصر العثماني، وإن استخدم بشكل مباشر في تأييد الحكم، ونهي الناس عن مناقشة ما يفعله الحكام. ويتجلي ذلك في قول الشعراني: "ولم يزل يحصل الاذي والضرر لكل من دخل في شئ ليس هو من مقامه".
قام بونابرت خلال حملته علي مصر باسترضاء المتصوفة، وعين الشيخ خليل البكري عضوا في الديوان الذي أنشأه لادارة مصر سياسيا. أما محمد علي فمضي إلي أبعد من ذلك، إذ أصدر فرمانا يعطي للشيخ البكري سلطة مطلقة علي الطرق الصوفية، فضمن بذلك السيطرة علي حركة الصوفية بطريقة غير مباشرة، كما قوّي الصوفية في مواجهة الأزهر وحررها من أي سلطة له.
ويشير الدكتور عمار إلي تفاوت مواقف الصوفية من الاحتلال البريطاني، فالشيخ أبو العزايم شيخ "الطريقة العزمية" سمح لجمعية "اليد السوداء" المناهضة للإنجليز أن تستخدم مطبعته، والشيخ محمود أبو الفضل المنوفي تولي رئاسة "جمعية الفدائيين" وأصدر مجلة "لواء الإسلام" الشهرية التي استمرت تهاجم الاحتلال من عام 1924 حتي 1930 .
لكن مقابل هؤلاء المشايخ نجد آخرين سلكوا سبيلا متضامنا مع الإحتلال، إذ نجد شيخ الطريقة "السمانية" محمد ابراهيم الجمل، الذي وصل به الحال في تأييد الإنجليز إلي حد الدعوة إلي بقائهم في مصر، والي جمع توقيعات المواطنين ضد ثورة 1919.
هناك وقفة طويلة أمام العلاقة بين الصوفية ونظام ثورة يوليو، فالنظام استخدم الصوفية كجزء من توظيف الدين لتكريس شرعيته اجتماعيا وسياسيا، والدعاية له في الخارج باعتبارها جماعات ممتدة عبر القوميات، وسد الطريق أمام الاخوان المسلمين. وفي الصدام الكبير بين عبد الناصر والاخوان عام 1965 أصدر الشيخ محمد محمود علوان شيخ المشايخ آنذاك بيانا قال فيه: "إن الإسلام حرم التآمر في الخفاء والمفاجأة بالإثم والعدوان".
وبلغ هذا الاستخدام ذروته عام 1961 حيث عقد بالقاهرة المؤتمر الصوفي العالمي.
***
يعمق الدكتور عمار الجانب السياسي للموضوع، حين يشير إلي توجهات أمريكية لتوظيف الجماعات الصوفية في صراعات المنطقة، الأمر الذي يذكرنا علي الفور بحرص السفير الأمريكي علي حضور مولد شيخ العرب في طنطا سنويا، والتقاط الصور التذكارية مع مشايخ الصوفية.
يقول الباحث إنه بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 "بدأ الامريكيون يدرسون امكانية تعميم الصوفية بحيث تصبح هي الشكل المستقبلي للإسلام، أو علي الأقل تقوي شوكتها علي الساحة الإسلامية لتخصم من رصيد الجماعات والتنظيمات السياسية المتطرفة ذات الإسناد الإسلامي، ويعول الامريكيون في ذلك علي ما جاءت به تجربة النقشبندية في تركيا، حيث استوعب المتصوفة قيم العلمانية، وطوّروا رؤيتهم الدينية لتواكب العصر وتتماشي مع النهج الديموقراطي".
وفي هذا الكلام إشارة إلي الجذور الصوفية "النقشبندية" لحزب "العدالة و التنمية" الحاكم في تركيا. فرئيس الحزب رجب طيب أردوغان من مريدي "الطريقة النقشبندية" التي تنتسب إلي الشيخ بهاء الدين محمد المشهور بالنقشبند، الذي عاش في بخاري بين 1317 و 1388 ميلادية. وهي طريقة سنية ترجع في تعاليمها إلي أول الخلفاء أبي بكر الصديق، وتنتشر في آسيا، وفي معظم البلاد العربية خصوصا في بلاد الشام.
وقاد مشايخ الطريقة بأنفسهم حركة الجهاد ضد القيصرية الروسية علي امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ويضم الحزب أخلاطا من علمانيين وقوميين انشقوا علي أحزابهم، لكن القوة الرئيسية فيه هي المجموعة التي خرجت من حزب "الرفاه"، وانشقت عن زعيمه نجم الدين أربكان، وهو صوفي نقشبندي أيضا.
***
أعود إلي كتاب "الصوفية والسياسة في مصر" لأنقل ملاحظة مهمة يقول فيها المؤلف إن التصوف لم يعد حالة من الزهد والتعبد، بل "صار مؤسسات ضخمة لها امتداد عابر للقارات كافة، بعضها يجتهد في أن يلعب دورا تنمويا وسياسيا واجتماعيا، وبعضها تماهي مع الفلكلور، وتم اختزاله إلي ظاهرة احتفالية. بعضها متسامح مع الآخرين، وبعضها يدخل في تناحر مع الآخر ويعاديه. بعضها تعاون مع المستعمر، وربما هو ما تريده الولايات المتحدة في الوقت الراهن، لكن أغلبها حارب المستعمر بضراوة".
أظن أن في هذه الملاحظة تحذيراً لكل من يجهز الجمر استعدادا للرقص مع الدراويش.