مختارات سينما ايزيس
البحث عن السينما التسجيلية.. فى مهرجان الإسماعيلية!!
أحمد يوسف
"كل عام ونحن طيبون"، حيث تعقد الآن "سنوية" السينما التسجيلية فى مهرجان الإسماعيلية، ونعيش ونفتكر سينمانا التسجيلية التى ماتت وشبعت موتا، لكن المهم هو أن نعقد لها المهرجانات بينما لم يعد أحد يتساءل ما الذى جرى لها ولنا، فهل تستطيع ياعزيزى القارئ أن تتذكر فيلما تسجيليا مصريا واحدا شاهدته منذ خمسة عشر عاما كاملة؟ أتساءل أحيانا بينى وبين نفسى فأجد دماء هذه السينما قد تفرقت بين القبائل، لا أحد محددا مسئولا وحده عن موتها، وهذا يعنى أننا جميعا نتحمل مسئولية هذا الموت: السلطة الغاشمة التى تفرض بصرامة القوانين التى تفرض على السينمائى أن يحصل على "التصريح" بالتصوير، فينتهى إلى أن يصبح متهما بارتكاب "جريمة" إذا سولت له نفسه أن يصنع فيلما تسجيليا عن مئات القضايا التى تسير فى الشارع تنتظر من يصورها وكانت كفيلة بأن تخلق لدينا سينما تسجيلية شديدة الازدهار، كما يشارك فى هذه المسئولية السينمائيون أنفسهم الذين يريد كل منهم وحده أن ينجو من الطوفان، ولم يفكروا يوما فى الاعتراض الجماعى المؤثر على هذا "القانون"، واختاروا بدلا من ذلك الهجوم على الرقابة، وهى ليست إلا سلطة تنفيذية مهمتها تطبيق القانون وليس تشريعه، وأخيرا فإننى لا أعفى النقاد من مسئولية تدهور تذوقنا للسينما التسجيلية، لأنهم توقفوا بمشاهداتهم ومعلوماتهم عند فلاهرتى وجريرسون (إن كانوا يتذكرونهما)، وأصبح لدى كل ناقد تصوره الخاص عن الفيلم التسجيلى، ومازلت أذكر منذ عامين فى مهرجان الاسماعيلية كيف حكموا على فيلم يابانى يسجل لتمرد جماعة صغيرة ترفض تحويل إحدى الجزر اليابانية لتكون حقلا للتجارب النووية الأمريكية، وقال النقاد عندئذ إنه ليس "فيلما" (!!)، وهكذا أخرجوه من جنة السينما التسجيلية.
تعيش الآن السينما التسجيلية فى العالم فترة شديدة الخصوبة والتنوع (هل يتصور القارئ أننى كتبت ذلك من قبل عشرات المرات دون أن يكون له أى صدي؟)، وليس غريبا أن تشهد صالات العرض التجارية الأمريكية كل أسبوع عدة أفلام تسجيلية طويلة، يتنوع طيفها بين الحوار، والتحقيق، وإعادة بناء الواقع من لقطات حية وأرشيفية، والدراما التسجيلية، ولم يعد أحد فى العالم يتساءل إذا ما كان ذلك فيلما أم لا، فكما أن نظريات السينما قد توقفت منذ السبعينات والثمانينات عن أن تطرح سؤال: "ماهى السينما؟"، مع اكتشاف أنه ليست هناك سينما واحدة (أو "خالصة" كما يحلو للبعض أن يقول، خالصة من ماذا؟ لست أدري!)، ليصبح السؤال المطروح: "ماذا يمكن للسينما أن تصنع؟"، وهى بالفعل تقفز اليوم بخطوات واسعة تسبق أى نظريات صارمة جامدة، فكما أن "الحوار الأخير مع إدوارد سعيد" هو فيلم تسجيلى، فإن "حياة اليقظة" للمخرج ريتشارد لينكليتر فيلم تسجيلى برغم أنه يحول مادته المصورة إلى التحريك بطريقة الروتوسكوب، أو يصبح الشكل التسجيلى هو الأكثر ملاءمة لفيلم روائى مثل "موت رئيس" الذى يتخيل اغتيال جورج بوش.
أعترف لك ياعزيزى القارئ ـ وربما اعترفت لك بذلك من قبل ـ أننى لا أشاهد الأفلام كناقد يحمل معه أدوات "تشريح" الفيلم (بعد أن يقتله بالطبع!)، وإنما أشاهدها كمتفرج يحب أن يستمتع بالسينما، ويتمنى مع كل فيلم أن يشعر "بالنشوة"، وكل ما أكتبه ليس إلا محاولة أقوم بها معك لكى أفهم أسباب هذه النشوة لأدعوك إلى أن تعيشها بنفسك، كما أن أكثر الأشياء كرها إلى قلبى ـ وإن اضطررت آسفا إلى ممارسته أحيانا ـ هو أن يكون رد فعلى سلبيا تجاه فيلم ما، لذلك فإننى أحمل لك اليوم تجربة ممتعة بحق عايشتها مع الفيلم التسجيلى الذى أخرجه آل باتشينو، ليسجل فيه ـ عبر سنوات ـ تجربة إخراجه وتمثيله لمسرحية شكسبير "ريتشارد الثالث"، لذلك كان الفيلم يحمل عنوان "البحث عن ريتشارد" (1996)، وهى بالفعل رحلة شاقة وشائقة معا، تحمل فى طياتها مزيجا من المتعة والعذاب الفنيين. إن باتشينو لم يسأل نفسه ماهى "مواصفات" الفيلم التسجيلى الذى يصنعه، لكنه وببساطة شديدة استخدم الوسيط السينمائى لكى يسجل رحلته فى "البحث عن ريتشارد"، وكانت الرحلة هى كل مايشغله، أما "الشكل" فقد جاء على طاولة (أو بالأحرى كمبيوتر) المونتاج.
طرح باتشينو فى الفيلم عشرات الأسئلة على نفسه وعلى من حوله، كما تلقى بدوره عشرات الأسئلة الأخرى، خاصة من مساعده وصديقه فريدريك كيمبول، الذى شاركه الرحلة كأنه مرآته التى يرى فيها ذاته وتتحدث معه وتعارضه وتحفزه. كان أول مايؤرق باتشينو هو صعوبة أحداث المسرحية، التى تتناول صعود ريتشارد الثالث إلى السلطة فى إنجلترا فى القرن الخامس عشر، وسط المكائد والاغتيالات والحرب الأهلية، وبرغم التعارض بين حقائق التاريخ وماصنعه شكسبير بها، فلم يكن ريتشارد كهلا أحدب أعرج كما بدا فى المسرحية، فإن هذه السمات الجسمانية الميلودرامية (وشكسبير ميلودرامى من الطراز الأول) هى التى تجسد التشوه النفسى للبطل الذى لا يمكنك أن تتعاطف معه، فهو يتخلص بدم بارد بكل من يقف فى طريق وصوله إلى السلطة، حتى الأطفال والأصدقاء، لذلك فإنك لا تستطيع كمتفرج أن "تتعاطف" مع هذا البطل، ويبقى لكى تتفاعل مع المسرحية أن "تفهم" دوافعه، التى تبدو كأنها انتقام المستضعف، المستذل المهان الذى صبر طويلا، انتقامه حين تأتيه الفرصة التى لا يغتنمها فقط، وإنما يخلقها أيضا.
أجمل مشاهد الفيلم هى التى تسجل "بروفات القراءة" التى يقوم بها الممثلون، إنك لن ترى فرقا بين حواراتهم العادية وسطور المسرحية، فهم يقتربون من خلال هذا التفاعل الوجدانى والعقلى من فهم كل منهم للشخصية التى يؤديها، وقراءته الخاصة للنص، وسوف يذهلك (على سبيل المثال لا الحصر) فهم وقراءة النص الذى قامت به الممثلة إيستيل بارسونز، التى تقوم بدور أرملة الملك الذى مات تاركا طفلين يفترض أن يكون أحدهما وليا للعهد، لولا مؤامرات ريتشارد للاستيلاء على العرش، إن الممثلة تحول سطور الضعف والحزن فى حوار الملكة مارجريت إلى زئير نمرة مكلومة شرسة، إنها تلتهم الشخصية أو أن الشخصية تلتهمها لا فرق، وهو مشهد يعتبر بحق درسا فى التمثيل، يلقى الضوء على جانب آخر طرح الفيلم تساؤلا حوله، إذ يصارحك باتشينو بأن الممثلين الأمريكيين يشعرون بعقدة "الدونية" أمام أقرانهم الإنجليز فيما يخص الشخصيات الشكسبيرية، لكن نقطة الضعف تلك تتحول إلى قوة هائلة، إذ يتحرر الممثل الأمريكى من أية قيود كلاسيكية ويؤدى الدور كما لو كانت الشخصية تعيش هنا والآن، لذلك فإن الأداء يفيض حيوية وتلقائية كبيرتين.
يصارحك باتشينو أيضا _ فى لقاءاته مع الناس العاديين فى الشارع _ بأن الجمهور الأمريكى المعاصر لا يفهم شكسبير وربما لا يعرفه، وأغلبهم يجدونه "مملا مقرفا"، وهو مايلقى مسئولية أكبر على من يفكر فى صنع مسرحية شكسبيرية. ومع ذلك فإن باتشينو يكشف لك عن مفارقة مذهلة، إنه يلتقى بالأكاديميين الذين يتحدثون عن شكسبير ومسرحياته بجفاف علمى بالغ، وبكلمات أكثر صعوبة من مسرحياته ذاتها(يذكرك بالوقار الزائف لبعض النقاد!)، فى نفس الوقت يلتقى باتشينو مع عابر سبيل زنجى يبدى فهما عميقا لعالم شكسبير، وبكلماته البسيطة المتحمسة يعبر عن مفهومه: "نحن نتحدث بلا مشاعر، يجب علينا أن نتحدث مثل شكسبير، ويجب أن يدخل شكسبير إلى حياتنا ومدارسنا، عندئذ سوف يصبح لدى الأطفال مشاعر. نحن لا نملك مشاعر، لذلك من السهل علينا أن نمسك أسلحة ونطلقها على بعضنا البعض، نحن لا نشعر بالآخرين، وإذا تعلمنا الشعور بهم فسوف نتخلى عن العنف فى التعامل معهم".
من جانب آخر فإن الفيلم يقول لك إنه ليس من حق الأكاديميين الادعاء بأنهم وحدهم من يفهمون شكسبير، فالممثلون هم ورثته الحقيقيون، وهو لا يزال يعيش من خلال وجدان وأجساد هؤلاء الممثلين الذين يعيدون تفسيره المرة بعد الأخرى، وجيلا بعد جيل. وفى تقاطع مونتاجى مدهش، يصهر باتشينو هذه التجربة فى "البحث عن شكسبير" من خلال كاميرا محمولة على اليد، لتمتزج وتتداخل مشاهد البروفات واللقاءات والحوارات والأداء على خشبة المسرح أو حتى فى الشارع وسط زحام البشر والدخول إلى عالم المسرحية والخروج منها. وفى براعة فنية يضع باتشينو الفيلم بين قوسين: فى البداية نرى شكسبير (أو بالأحرى ممثلا يضع ماكياجه ويرتدى ملابسه) جالسا فى ملل فى مقاعد المتفرجين كأنه يقول لباتشينو: "ورينا ياسيدى هاتعمل إيه بمسرحيتي"، ليظهر مرة أخرى عند النهاية ليبدو على شفتيه شبح ابتسامة علامة على بعض الرضا عن التجربة وكأنه يقول: "يعني!"!!
عندما يشرف ريتشارد الثالث فى النهاية على الهزيمة يصيح فى ألم: "من يعطينى جوادا مقابل مملكتي؟"، إنها صرخة تعبر عن "الميكانيزمات" الخارجية والداخلية للسعى الشره إلى السلطة والسلطان، بعيدا عن مصالح الشعب أو الوطن اللذين لا وجود لهما فى عالم هذه الشخصيات المشوهة التى يمكنك أن تجد لها شبيها فى التاريخ القريب أو المعاصر، لذلك لم يكن غريبا أن يقدم إيان ماكيلين فيلما عن هذه المسرحية تدور أحداثه فى بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية. تأملت الفيلم ورأيته مرات عديدة وعشقته (بالمناسبة لمن يستغرب من أين آتى بهذه الأفلام، فقد عرض الفيلم مترجما على قناتى "إم بى سى تو" و"أو تى في"، كما توجد منه نسخة أصلية غير مترجمة على الإنترنيت)، ولم أشغل نفسى أبدا بإذا ماكان هذا الفيلم تسجيليا أم روائيا، فقد كاد الخط الفاصل بينهما أن يتلاشى على يد الفنانين رغم أنف النقاد وأصحاب النظريات، لكن مايشغلنى حقا هو أن نقيم مهرجانا للسينما التسجيلية، بينما ـ وأقولها بمرارة ـ لا يوجد عندنا أى نوع من السينما الحقيقية، فما رأيته فى "البحث عن ريتشارد" من تلك الرحلة العميقة والجياشة فى عالم الفن يقول إننا نتوهم أننا نصنع فنا، ونكتب نقدا، لكن ما أبعدنا عن الفن والنقد، لأنه إذا كنا نريد أن نقترب منهما حقا لابد أن يكون لدينا أولا "وطن"، وهذا مايستحق أن نبحث عنه.
العربي المصرية في 21 أكتوبر
2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق